اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{فَأَعۡرِضۡ عَن مَّن تَوَلَّىٰ عَن ذِكۡرِنَا وَلَمۡ يُرِدۡ إِلَّا ٱلۡحَيَوٰةَ ٱلدُّنۡيَا} (29)

قوله : { فَأَعْرِضْ عَن مَّن تولى عَن ذِكْرِنَا } يعني القرآن . وقيل : الإيمان ؛ أي اترك مجادلتهم فقد بلَّغت وأتيت بما عليك .

قال ابن الخطيب : وأكثر المفسرين يقولون : كل ما في القرآن من قوله تعالى : { فَأَعْرِضْ } منسوخ بآية القتال ، وهو باطل ؛ لأن الأمر بالإعراض موافق لآية القتال فكيف ينسخ به ؟ وذلك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الأول كان مأموراً بالدعاء بالحكمة والموعظة الحسنة فلما عارضوه بأباطيلهم أُمر بإزالة شبههم والجواب عن أباطيلهم ، وقيل له : { وَجَادِلْهُم بالتي هِيَ أَحْسَنُ } ثم لَمّا لم ينفع قال له ربه : أعْرِضْ عنْهُمْ ولا تقل لهم{[53601]} بالدليل والبرهان فإنهم لا ينتفعون به ولا يتبعون الحق وقاتلهم ، فالإعراض عن المناظرة شرط لجواز المُقَاتَلَةِ فكيف يكون منسوخاً بها{[53602]} ؟

قوله : { وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الحياة الدنيا } إشارة إلى إنكارهم الحشر كقوله تعالى عنهم : { إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا } [ الأنعام : 29 ] وقوله : { أَرَضِيتُمْ بالحياة الدنيا } [ التوبة : 38 ] وذلك أنه إذا تَرَكَ النظر في آلاء الله لا يعرفُهُ فلا يتبع رسوله فلا ينفعه كلامه ، وإذا لم يقل بالحشر والحساب لا يخاف فلا يرجع عما هو عليه فلا يبقى في الدعاء فائدة .

واعلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان كالطبيب للقلوب ، فأتى على ترتيب الأَطِبَّاء في أن المرض إذا أمكن إصلاحُهُ بالغذاء لا يستعملون الدواء القوي ، ثم إذا عجز{[53603]} عن المداواة بالمشروبات وغيرها عدلوا إلى الحَدِيد والكَيّ كما قيل : «آخِرُ الدَّوَاءِ الكَيُّ » ، فالنبي - عليه الصلاة والسلام - أولاً أمر القلوب بذكر الله حَسْب ، فإن بذكْرِ الله تطمئن القلوب ، كما أن بالغذاء تطمئن النفوس فالذكر غذاء القلب ولهذا قال - عليه الصلاة والسلام - أولاً : «قُولُوا لاَ إلَه إلاَّ اللَّهُ » أمر بالذكر ، فانتفع مثلُ أبي بكر - رضي الله عنه - ومن لم ينتفع ذكر لهم الدليلَ وقال { أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ } [ الأعراف : 184 ] { قُلِ انظروا } [ يونس : 101 ] { أَفَلاَ يَنظُرُونَ } [ الغاشية : 17 ] إلى غير ذلك فلما لم ينتفعوا أتى بالوعيد والتهديد فلما لم ينتفعوا قال : أعْرِضْ عن المعالجة واقطع الفاسد لئلا يفسد الصَّالح{[53604]} .


[53601]:كذا في النسختين وفي الرازي: ولا تقاتلهم.
[53602]:المرجع السابق.
[53603]:في الرازي: عجزوا. وفيه إذا أمكن إصلاحه بالغذاء لا يستعملون الدواء وما أمكن إصلاحه بالدواء الضعيف لا يستعلمون الدواء القوي.
[53604]:وانظر تفسير الرازي 28/312.