ويضرب الله الأمثال لأولئك المتجبرين على مدار القرون ؛ فإذا هم( جند ما هنالك مهزوم من الأحزاب ) :
( كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وفرعون ذو الأوتاد ، وثمود وقوم لوط وأصحاب الأيكة . أولئك الأحزاب .
إن كل إلا كذب الرسل فحق عقاب ) . .
فهذه أمثلة ممن سبقوا قريشاً في التاريخ . قوم نوح . وعاد . وفرعون صاحب الأهرام التي تقوم في الأرض كالأوتاد . وثمود . وقوم لوط . وقوم شعيب أصحاب الأيكة - الغابة الملتفة - ( أولئك الأحزاب ) ! الذين كذبوا الرسل .
يقول تعالى مخبرا عن هؤلاء القرون الماضية ، وما حل بهم من العذاب والنكال والنقمات في مخالفة الرسل وتكذيب الأنبياء وقد تقدمت قصصهم مبسوطة في أماكن متعددة . وقوله : { أُولَئِكَ الأحْزَابُ } أي : كانوا أكثر منكم وأشد قوة وأكثر أموالا وأولادا فما دافع ذلك عنهم من عذاب الله من شيء لما جاء أمر ربك . ولهذا قال : { إِنْ كُلٌّ إِلا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ }
القول في تأويل قوله تعالى : { كَذّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وفِرْعَوْنُ ذُو الأوْتَادِ } :
يقول تعالى ذكره : كذّبت قبل هؤلاء المشركين من قريش ، القائلين : أجعل الاَلهة إلها واحدا ، رسلها ، قوم نوح وعاد وفرعون ذو الأوتاد .
واختلف أهل العلم في السبب الذي من أجله قيل لفرعون ذو الأوتاد ، فقال بعضهم : قيل ذلك له لأنه كانت له ملاعب من أوتاد ، يُلْعَب له عليها . ذكر من قال ذلك :
حُدثت عن عليّ بن الهيثم ، عن عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس : ( وَفِرْعُوْنَ ذِي الأوْتادِ ) : قال : كانت ملاعب يلعب له تحتها .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( وَفِرْعُونَ ذُو الأوْتادِ ) : قال : كان له أوتاد وأرسان ، وملاعب يلعب له عليها .
وقال آخرون : بل قيل ذلك له كذلك لتعذيبه الناس بالأوتاد . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قوله : ( ذُو الأوْتادِ ) : قال : كان يعذّب الناسَ بالأوتاد ، يعذّبهم بأربعة أوتاد ، ثم يرفع صخرة تُمَدّ بالحبال ، ثم تُلْقى عليه فتشدخه .
حُدثت عن عليّ بن الهيثم ، عن ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس ، قال : كان يعذّب الناس بالأوتاد .
وقال آخرون : معنى ذلك : ذو البنيان ، قالوا : والبنيان : هو الأوتاد . ذكر من قال ذلك :
حُدثت عن المحاربيّ ، عن جُوَيبر ، عن الضحاك ذُو الأوْتادِ قال : ذو البنيان .
وأشبه الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال : عُنِي بذلك الأوتاد ، إما لتعذيب الناس ، وإما للعب ، كان يُلْعَب له بها ، وذلك أن ذلك هو المعروف من معنى الأوتاد ، وثمودُ وقومُ لوطٍ وقد ذكرنا أخبار كلّ هؤلاء فيما مضى قبلُ من كتابنا هذا .
{ كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وفرعون ذو الأوتاد } : ذو الملك الثابت بالأوتاد كقوله :
ولقد غنوا فيها بأنعم عيشة *** في ظل ملك ثابت الأوتاد
مأخوذ من ثبات البيت المطنب بأوتاده ، أو ذو الجموع الكثيرة سموا بذلك لأن بعضهم يشد بعضا كالوتد يشد البناء ، وقيل نصب أربع سوار وكان يمد يدي المعذب ورجليه إليها ويضرب عليها أوتادا ويتركه حتى يموت .
واختلف المتأولون في قوله : { ذي الأوتاد } ، فقال ابن عباس وقتادة : سمي بذلك لأنه كانت له أوتاد وخشب يلعب له بها وعليها . وقال السدي : كان يقتل الناس بالأوتاد ، يسمرهم في الأرض بها . وقال الضحاك : أراد المباني العظام الثابتة ، وهذا أظهر الأقوال ، كما يقال للجبال أوتاد لثبوتها ، ويحتمل أن يقال له ذو أوتاد عبارة عن كثرة أخبيته وعظم عساكره ، ونحو من هذا قولهم : أهل العمود .
لما كان قوله : { جندٌ ما هُنالكَ مهزومٌ من الأحزاب } [ ص : 11 ] تسلية للنبيء صلى الله عليه وسلم ووَعْداً له بالنصر وتعريضاً بوعيد مكذِّبيه بأنهم صائرون إلى ما صارت إليه الأحزاب الذين هؤلاء منهم كما تقدم آنفاً جيء بما هو كالبيان لهذا التعريض . والدليلِ على المصير المقصود على طريقة قياس المساواة وقد تقدم آنفاً أن هذه الجملة : إمّا بدل من جملة { جُندٌ ما هُنَالِكَ } الخ ، وإمّا استئناف ولذلك فصلت عن التي قبلها .
وحذف مفعول { كذَّبَتْ } لأنه سيرد ما يُبيّنه في قوله : { إن كلٌّ إلاَّ كذَّبَ الرُّسُلَ } كما سيأتي . وخصّ فرعون بإسناد التكذيب إليه دون قومه لأن الله أرسل موسى عليه السلام إلى فرعون ليطلق بني إسرائيل فكذب موسى فأمر الله موسى بمجادلة فرعون لإِبطال كفره فتسلسل الجدال في العقيدة ووجب إشهار أن فرعون وقومه في ضلال لئلا يغتر بنو إسرائيل بشبهات فرعون ، ثم كان فرعون عقب ذلك مضمراً أذى موسى ومعلناً بتكذيبه .
ووُصف فرعون بأنه ب { ذُو الأوْتَادِ } لعظمة ملكه وقوته فلم يكن ذلك ليحول بينه وبين عذاب الله . وأصل { الأوتاد } أنه : جمع وتد بكسر التاء : عود غليظ له رأس مفلطح يدقّ في الأرض ليشد به الطُّنُب ، وهو الحبل العظيم الذي تشد به شقّة البيت والخَيمة فيشد إلى الوتد وترفع الشقة على عماد البيت قال الأفوه الأوديّ :
والبيتُ لا يبتنَى إلا على عَمَد *** ولا عِماد إذا لم تُرْسَ أوتاد
و { الأوْتَادِ } في الآية مستعار لثبات الملك والعز ، كما قال الأسود بن يعفر :
ولقد غَنُوا فيها بأنعم عيشة *** في ظلّ ملك ثَابت الأوتاد
وقيل : { الأوتاد } : البناءات الشاهقة . وهو عن ابن عباس والضحّاك ، سميت الأبنية أوتاداً لرسوخ أسسها في الأرض . وهذا القول هو الذي يتأيّد بمطابقة التاريخ فإن فرعون المعنيّ في هذه الآية هو ( منفتاح الثاني ) الذي خرج بنو إسرائيل من مصر في زمنه وهو من ملوك العائلة التاسعة عشرة في ترتيب الأُسَر التي تداولت ملك مصر ، وكانت هذه العائلة مشتهرة بوفرة المباني التي بناها ملوكها من معابد ومقابر وكانت مدة حكمهم مائة وأربعاً وسبعين سنة من سنة ( 1462 ) قبل المسيح إلى سنة ( 1288 ) ق . م .
وقال الأستاذ محمد عبده في « تفسيره » للجزء الثلاثين من القرآن في سورة الفجر : وما أجمل التعبير عما ترك المصريون من الأبنية الباقية بالأوتاد فإنها هي الأهرام ومنظرها في عين الرائي مَنظر الوتد الضخم المغروز في الأرض ا . ه . وأكثر الأهرام بنيت قبل زمن فرعون موسى منفتاح الثاني فكان منفتاح هذا مالك تلك الأهرام فإنه يفتخر بعظمتها وليس يفيد قوله : { ذُو الأوْتَادِ } أكثر من هذا المعنى إذ لا يلزم أن يكون هو الباني تلك الأهرام . وذلك كما يقال : ذو النيل ، وقال تعالى حكاية عنه : { وهذه الأنهار تجري من تحتي } [ الزخرف : 51 ] .