{ قَالَ } أي موسى : { لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا } أي : لا تضيق عليّ وتُشدد{[18342]} علىّ ؛ ولهذا تقدم في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " كانت الأولى من موسى نسيانًا " .
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً * قَالَ لاَ تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلاَ تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً } .
يقول عزّ ذكره : قَالَ العالم لموسى إذ قال له ما قال أَلمْ أقُل إنّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرا على ما ترى من أفعالي ، لأنك ترى ما لم تُحِط به خبرا قال له موسى : لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ . فاختلف أهل التأويل في معنى ذلك ، فقال بعضهم : كان هذا الكلام من موسى عليه السلام للعالِم معارضة ، لا أنه كان نسي عهده ، وما كان تقدّم فيه حين استصحبه بقوله : فإنِ اتّبَعْتَنِي فَلا تَسألْنِي عَنْ شَيْءٍ حتى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرا . ذكر من قال ذلك :
حُدثت عن يحيى بن زياد ، قال : ثني يحيى بن المهلب ، عن رجل ، عن سعيد بن جبير ، عن أبيّ بن كعب الأنصاريّ في قوله : لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ قال : لم ينس ، ولكنها من معاريض الكلام .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : لا تؤاخذني بتركي عهدك ، ووجه أن معنى النسيان : الترك . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : ثني محمد بن إسحاق ، عن الحسن بن عمارة ، عن الحكم ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ : أي بما تركت من عهدك .
والصواب من القول في ذلك أن يقال : إن موسى سأل صاحبه أن لا يؤاخذِه بِما نسِي فيه عهده من سؤاله إياه على وجه ما فعل وسببه لا بما سأله عنه ، وهو لعهده ذاكر للصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بأن ذلك معناه من الخبر ، وذلك ما :
حدثنا به أبو كريب ، قال : حدثنا يحيى بن آدم ، قال : حدثنا ابن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، عن أبيّ بن كعب ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تُؤاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ قالَ : «كانَتِ الأُوَلى مِنْ مُوسَى نِسْيانا » .
وقوله : ولا تُرْهِقْنِي مِنْ أمْرِي عُسْرا يقول : لا تُغْشِني من أمري عسرا ، يقول : لا تضيق عليّ أمري معك ، وصحبتي إياك .
{ قال لا تؤاخذني بما نسيت } بالذي نسيته أو بشيء نسيته ، يعني وصيته بأن لا يعترض عليه أو بنسياني إياها ، وهو اعتذار بالنسيان أخرجه في معرض النهي عن المؤاخذة مع قيام المانع لها . وقيل أراد بالنسيان الترك أي لا تؤاخذني بما تركت من وصيتك أول مرة . وقيل إنه من معاريض الكلام والمراد شيء آخر نسيه . { ولا تُرهقني من أمري عسرا } ولا تغشني عسرا من أمري بالمضايقة والمؤاخذة على المنسي ، فإن ذلك يعسر على متابعتك و{ عسراً } مفعول ثاني لترهق فإنه يقال : رهقه إذا غشيه وأرهقه إياه ، وقرئ " عُسُرا " بضمتين .
فتنبه موسى لما أتى معه ، فاعتذر بالنسيان ، وذلك أنه نسي العهد الذي كان بينهما ، هذا قول الجمهور ، وفي كتاب التفسير من صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «كانت الأولى من موسى نسياناً »{[1]} ، وفيه عن مجاهد أنه قال «كانت الأولى نسياناً » ، والثانية شرطاً ، والثالثة عمداً ، وهذا كلام معترض لأن الجميع شرط ولأن العمد يبعد على موسى عليه السلام ، وإنما هو التأويل إذ جنب صيغة السؤال أو النسيان ، وروى الطبري عن أبي بن كعب أنه قال : إن موسى عليه السلام لم ينس ، ولكن قوله هذا من معاريض الكلام{[2]} ، ومعنى هذا القول صحيح ، والطبري لم يبينه ، ووجهه عندي أن موسى عليه السلام إنما رأى العهد في أن يسأل ولم ير إنكار هذا الفعل الشنيع سؤالاً بل رآه واجباً ، فلما رأى الخضر قد أخذ العهد على أعم وجوهه فضمنه السؤال والمعارضة والإنكار وكل اعتراض إذ السؤال أخف من هذه كلها أخذ معه في باب المعاريض ، التي هي مندوحة عن الكذب ، فقال له { لا تؤاخذني بما نسيت } ولم يقل له : إني نسيت العهد ، بل قال لفظاً يعطي للمتأول أنه نسي العهد ، ويستقيم أيضاً تأويله وطلبه ، مع أنه لم ينس العهد لأن قوله { لا تؤاخذني بما نسيت } كلام جيد طلبه ، وليس فيه للعهد ذكر هل نسيه أم لا ، وفيه تعريض أنه نسي العهد ، فجمع في هذا اللفظ بين العذر والصدق وما يخل بهذا القول إلا أن الذي قاله وهو أبي بن كعب روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : «كانت الأولى من موسى نسياناً » و { ترهقني } معناه تكلفني وتضيف علي .
ومما قص من أمرهما ، أنهما لما ركبا السفينة وجرت ، نزل عصفور على جنب السفينة ، فنقر في الماء نقرة ، فقال الخضر لموسى ، ماذا ترى هذا العصفور نقص من ماء البحر ؟ فقال موسى قليلاً ، فقال : يا موسى ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا ما نقص هذا العصفور من ماء البحر .
قال القاضي أبو محمد : فقيل معنى هذا الكلام وضع العلم موضع المعلومات ، وإلا فعلم الله تعالى يشبه بمتناه إذ لا يتناهى ، والبحر لو فرضت له عصافير على عدد نقطه لانتهى ، وعندي أن الاعتراض باق لأن تناهي معلومات الله محال ، إذ يتناهى العلم بتناهي المعلومات ، وقيل فراراً عن هذا الاعتراض ، يحتمل أن يريد من علم الله الذي أعطاه العلماء قبلهما ، وبعدهما إلى يوم القيامة ، فتجيء نسبة علمهما إلى البشر نسبة تلك النقطة إلى البحر{[3]} ، وهذا قول حسن لولا أن في بعض طرق الحديث «ما علمي وعلمك وعلم الخلائق في علم الله إلا كنقرة هذا العصفور » ، فلم يبق مع هذا إلا أن يكون التشبيه بتجوز ، إذ لا يوجد في المحسوسات أقوى في القلة من نقطة بالإضافة إلى البحر ، فكأنها لا شيء إذ لا يوجد لها إلى البحر نسبة معلومة ، ولم يعن الخضر لتحرير موازنة بين المثال وبين علم الله تعالى .