وبينهما برزخ من طبيعتهما من صنع الله .
وتقسيم الماء على هذا النحو في الكرة الأرضية لم يجئ مصادفة ولا جزافا . فهو مقدر تقديرا عجيبا . الماء الملح يغمر نحو ثلاثة أرباع سطح الكرة الأرضية ويتصل بعضه ببعض ؛ ويشغل اليابس الربع . وهذا القدر الواسع من الماء المالح هو اللازم بدقة لتطهير جو الأرض وحفظه دائما صالحا للحياة .
[ وعلى الرغم من الإنبعاثات الغازية من الأرض طول الدهور - ومعظمها سام - فإن الهواء باق دون تلوث في الواقع - ودون تغير في نسبته المتوازنة اللازمة لوجود الإنسان . . وعجلة الموازنة العظيمة هي تلك الكتلة الفسيحة من الماء - أي المحيط - ] .
ومن هذه الكتلة الضخمة الواسعة تنبعث الأبخرة تحت حرارة الشمس ؛ وهي التي تعود فتسقط أمطارا يتكون منها الماء العذب في جميع أشكاله . وأعظمها الأنهار . والتوافق بين سعة المحيط وحرارة الشمس وبرودة طبقات الجو العليا ، والعوامل الفلكية الأخرى هو الذي ينشأ عنه المطر الذي تتكون منه كتلة الماء العذب .
وعلى هذا الماء العذب تقوم الحياة ، من نبات وحيوان وإنسان . .
وتصب جميع الأنهار - تقريبا - في البحار . وهي التي تنقل إليها أملاح الأرض ، فلا تغير طبيعة البحار ولا تبغي عليها . ومستوى سطوح الأنهار أعلى في العادة من مستوى سطح البحر ، ومن ثم لا يبغي البحر على الأنهار التي تصب فيه ، ولا يغمر مجاريها بمائه الملح ، فيحولها عن وظيفتها ويبغي على طبيعتها ! وبينهما دائما هذا البرزخ من صنع الله . فلا يبغيان .
قوله تعالى : { بينهما برزخ } حاجز من قدرة الله تعالى ، { لا يبغيان } لا يختلطان ولا يتغيران ولا يبغي أحدهما على صاحبه . وقال قتادة : لا يطغيان على الناس بالغرق . وقال الحسن : مرج البحرين يعني بحر الروم وبحر الهند ، وأنتم الحاجز بينهما . وعن قتادة أيضاً : بحر فارس وبحر الروم بينهما برزخ يعني الجزائر . قال مجاهد والضحاك : بحر السماء وبحر الأرض يلتقيان كل عام .
{[61869]}ولما كان التقاء المايعين ولا سيما مع الاضطراب الدائم الاختلاط فيحيل ما لأحدهما أو لكل منهما من الصفات إلى الصفات الأخرى ، فتشوفت النفس إلى المانع{[61870]} من مثل ذلك في البحرين ، قال{[61871]} مستأنفاً : { بينهما برزخ } أي حاجز عظيم من القدرة المجردة على الأول وتسيب الأرض على الثاني يمنعهما مع{[61872]} الالتقاء من الاختلاط ، وقال ابن برجان : البرزخ ما ليس هو بصريح هذا ولا بصريح هذا ، فكذلك السهل والجبل بينهما برزخ يسمى الخيف ، كذلك الليل والنهار بينهما برزخ يسمى غبشاً ، كذلك بين الدنيا والآخرة برزخ ليس من هذا ولا من هذا ولا هو خارج عنهما ، وكذلك الربيعان هما{[61873]} برزخان بين الشتاء والصيف بمنزلة غبش أول النهار وغبش آخره ، جعل بين{[61874]} كل صنفين من الموجودات برزخاً ليس من هذا ولا من هذا وهو منهما كالجماد والنبات والحيوان{[61875]} .
ولما كانت نتيجة ذلك كذلك قال : { لا يبغيان * } أي لا يطغيان في هلاك الناس كما طغيا فأهلكا من على الأرض أيام نوح عليه الصلاة والسلام ، ولا يبغي واحد منهما على الآخر بالممارجة ، ولا يتجاوزان ما حده لهما خالقهما ومدبرهما لا في الظاهر ولا في الباطن ، فمتى حفرت على جنب المالح وجدت الماء العذب ، وإن قربت الحفرة منه بل كلما قربت كان أحلى ، فخلطهما الله سبحانه في رأى العين وحجز بينهما في رأى عين القدرة ، هذا وهما جمادان لا نطق لهما ولا إدراك ، فكيف يبغي بعضكم على بعض أيها المدركون العقلاء .