5- الشمس والقمر يجريان في بروجهما بحساب وتقدير لا إخلال فيه{[211]} .
ثم يستطرد في بيان آلاء الرحمن في المعرض الكوني العام :
حيث تتجلى دقة التقدير ، في تنسيق التكوين والحركة ، بما يملأ القلب روعة ودهشة ، وشعورا بضخامة هذه الإشارة ، وما في طياتها من حقائق بعيدة الآماد عميقة الأغوار .
إن الشمس ليست هي أكبر ما في السماء من أجرام . فهنالك في هذا الفضاء الذي لا يعرف البشر له حدودا ، ملايين الملايين من النجوم ، منها الكثير أكبر من الشمس وأشد حرارة وضوءا . فالشعرى اليمانية أثقل من الشمسبعشرين مرة ، ونورها يعادل خمسين ضعف نور الشمس . والسماك الرامح حجمه ثمانون ضعف حجم الشمس ونوره ثمانية آلاف ضعف . وسهيل أقوى من الشمس بألفين وخمسمائة مرة . . . وهكذا . . .
ولكن الشمس هي أهم نجم بالنسبة لنا - نحن سكان الكوكب الأرضي الصغير ، الذي يعيش هو وسكانه جميعا على ضوء الشمس وحرارتها وجاذبيتها .
وكذلك القمر وهو تابع صغير للأرض . ولكنه ذو أثر قوي في حياتها . وهو العامل الأهم في حركة الجزر والمد في البحار .
وحجم الشمس ، ودرجة حرارتها ، وبعدها عنا ، وسيرها في فلكها . وكذلك حجم القمر وبعده ودورته . . كلها محسوبة حسابا كامل الدقة بالقياس إلى آثارهما في حياة الأرض . وبالقياس إلى وضعهما في الفضاء مع النجوم والكواكب الأخرى . .
ونتناول طرفا من الحساب الدقيق في علاقتهما بكوكبنا الأرضي وما عليه من حياة وأحياء . .
إن الشمس تبعد عن الأرض باثنين وتسعين ونصف مليون من الأميال . ولو كانت أقرب إلينا من هذا لاحترقت الأرض أو انصهرت أو استحالت بخارا يتصاعد في الفضاء ! ولو كانت أبعد منا لأصاب التجمد والموت ما على الأرض من حياة ! والذي يصل إلينا من حرارة الشمس لا يتجاوز جزءا من مليوني جزء من حرارتها . وهذا القدر الضئيل هو الذي يلائم حياتنا . ولو كانت الشعرى بضخامتها وإشعاعها هي التي في مكان الشمس منا لتبخرت الكرة الأرضية ، وذهبت بددا !
وكذلك القمر في حجمه وبعده عن الأرض . فلو كان أكبر من هذا لكان المد الذي يحدثه في بحار الأرض كافيا لغمرها بطوفان يعم كل ما عليها . وكذلك لو كان أقرب مما وضعه الله بحسابه الذي لا يخطئ مقدار شعرة !
وجاذبية الشمس وجاذبية القمر للأرض لهما حسابهما في توازن وضعها ، وضبط خطاها في هذا الفضاء الشاسع الرهيب ، الذي تجري فيه مجموعتنا الشمسية كلها بسرعة عشرين ألف ميل في الساعة في اتجاه واحد نحو برج الجبار . ومع هذا لا تلتقي بأي نجم في طريقها على ملايين السنين !
وفي هذا الفضاء الشاسع الرهيب لا يختل مدار نجم بمقدار شعرة ، ولا يختل حساب التوازن والتناسق في حجم ولا حركة .
قوله جلَّ ذكره : { الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ } .
يعني يجري أمرهما على حدٍّ معلومٍ من الحساب في زيادة الليل والنهار ، وزيادة القمر ونقصانه ، وتُعْرَفُ بجريانهما الشهورُ والأيامُ والسنون والأعوام . وكذلك لهما حساب إذا انتهى ذلك الأَجَلُ . . فالشمسُ تُكَوَّرُ والقمرُ يَنْكَدِر .
وكذلك لشمسِ المعارفِ وأقمارِ العلوم - في طلوعها في أوج القلوبِ والأسرار - في حكمة الله حسابٌ معلومٌ ، يُجْريهَا على ما سَبَق به الحُكْمُ .
1- { الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ } .
تتابُع سير الشمس في منازلها ، وسير القمر في منازله ، يترتب عليه مجيء الليل والنهار ، وتتابع الفصول الأربعة ، وحساب أوقات الزراعة ، وطلوع الأهلّة ، ومعرفة الشهور ، وأوقات الصيام والحج ، وقضاء الدَّين ، وانقضاء العدة ، وغير ذلك من المصالح المتعددة .
قال تعالى : { وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آَيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آَيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آَيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً } . ( الإسراء : 12 ) .
وقال تعالى : { فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ } . ( الأنعام : 96 ) .
{ الشمس والقمر بِحُسْبَانٍ } والجار والمجرور فيه خبر بتقدير مضاف أي جري { الشمس والقمر } كائن أو مستقر { بِحُسْبَانٍ } أو الخبر محذوف والجار متعلق به أي يجريان بحسبان وهو مصدر كالغفران بمعنى الحساب كما قال قتادة . وغيره أي هما يجريان { بِحُسْبَانٍ } مقدر في بروجهما ومنازلهما بحيث ينتظم بذلك أمور الكائنات السفلية وتختلف الفصول والأوقات ويعلم السنون والحساب ، وقال الضحاك . وأبو عبيدة : هو جمع حساب كشهاب وشهبان أي هما يجريان بحسابات شتى في بروجهما ومنازلهما ، وقال مجاهد : الحسبان الفلك المستدير من حسبان الرحا وهو ما أحاط بها من أطرافها المستديرة ، وعليه فالباء للظرفية ، والجار والمجرور في موضع الخبر من غير احتياج إلى ما تقدم ، والمراد كل من { الشمس والقمر } في فلك ، والجمهور على الأول وجريان الشمس والقمر مما لا ينبغي أن يشك فيه .
وفلاسفة العصر كانوا يزعمون أن الشمس لا تجري أصلاً ، وأن القمر يجري على الأرض ، والأرض تجري على الشمس ، وقد سمعنا أنهم عدلوا منذ أعوام عن ذلك ، فزعموا أن للشمس حركة على كوكب آخر وهذا يدل على أنهم لم يكن عندهم برهان على دعواهم الأولى كما كان يقوله من كان ينتصر لهم ، والظاهر أن حالهم اليوم بل وغداً مثل حالهم بالأمس ، ونحن مع الظواهر حتى يقوم الدليل القطعي على خلافها وحينئذٍ نميل إلى التأويل وبابه واسع ، ومثل هذه الجملة قوله تعالى : { والنجم والشجر يَسْجُدَانِ }
هذا ومن باب الإشارة : { الشمس والقمر بِحُسْبَانٍ } [ الرحمن : 5 ] يشير إلى شمس النبوة وقمر الولاية الدائرتين في فلك وجود الإنسان بحساب التجليات ومراتب الاستعدادات
قوله تعالى : { الشمس والقمر بحسبان } قال مجاهد : كحسبان الرحى يدوران في مثل قطب الرحى . قال غيره : أي يجريان بحساب ومنازل لا يعدوانها ، قاله ابن عباس وقتادة . وقال ابن زيد وابن كيسان : يعني بهما تحسب الأوقات والآجال لولا الليل والنهار والشمس والقمر لم يدر أحد كيف يحسب شيئاً . وقال الضحاك : يجريان بقدر ، والحسبان يكون مصدر حسبت حساباً وحسباناً ، مثل الغفران والكفران ، والرجحان والنقصان ، وقد يكون جمع الحساب كالشهبان والركبان .
وقوله - تعالى - : { الشمس والقمر بِحُسْبَانٍ } بيان لنعمة رابعة من نعمه - تعالى - التى لا تحصى .
والحسبان : مصدر زيدت فيه الألف والنون ، والمراد بحساب دقيق ، وتقدير حكيم ، والجار والمجرور متعلق بمحذوف . . . أى : الشمس والقمر يجريان فى هذا الكون ، بحساب دقيق فى بروجهما ومنازلهما ، بحيث لا يشوب جريهما اختلال أو اضطراب ، وبذلك يعرف الناس السنين والشهور والأيام ، ويعرفون أشهر الحج والصوم ، وغير ذلك من شئون الحياة .
وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - : { لاَ الشمس يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ القمر وَلاَ الليل سَابِقُ النهار وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ }