{ يَمَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرّاكِعِينَ }
يعني جلّ ثناؤه بقوله خبرا عن قيل ملائكته لمريم : { يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبّكَ } أخلصي الطاعة لربك وحده . وقد دللنا على معنى القنوت بشواهده فيما مضى قبل .
واختلاف بين أهل التأويل فيه في هذا الموضع نحو اختلافهم فيه هنالك ، وسنذكر قول بعضهم أيضا في هذا الموضع ، فقال بعضهم : معنى «اقنتي » : أطيلي الركود . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبّكِ } قال : أطيلي الركود ، يعني : القنوت .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج { اقْنُتِي لِرَبّكِ } قال : قال مجاهد : أطيلي الركود في الصلاة ، يعني : القنوت .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن إدريس ، عن ليث ، عن مجاهد ، قال : لما قيل لها : { يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبّكِ } قامت حتى ورم كعباها .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا عبد الله بن إدريس ، عن ليث ، عن مجاهد ، قال : لما قيل لها : { يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبّكِ } قامت حتى ورمت قدماها .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوري ، عن ابن أبي ليلى ، عن مجاهد : { اقْنُتِي لِرَبّكِ } قال : أطيلي الركود .
حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : { يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبّكِ } قال : القنوت : الركود ، يقول : قومي لربك في الصلاة ، يقول : اركدي لربك ، أي انتصبي له في الصلاة ، واسجدي واركعي مع الراكعين .
حدثني محمد بن سنان ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن سفيان ، عن ليث ، عن مجاهد : { يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبّكِ } قال : كانت تصلي حتى تورم قدماها .
حدثني ابن البرقي ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا الأوزاعي : { يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبّكِ } قال : كانت تقوم حتى يسيل القيح من قدميها .
وقال آخرون : معناه : أخلصي لربك . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحماني ، قال : حدثنا ابن المبارك ، عن شريك ، عن سالم ، عن سعيد : { يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبّكِ } قال : أخلصي لربك .
وقال آخرون : معناه : أطيعي ربك . ذكر من قال ذلك :
حدثني الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : { اقْنُتِي لِرَبّكِ } قال : أطيعي ربك .
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { اقْنُتِي لِرَبكِ } أطيعي ربك .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا محمد بن حرب ، قال : حدثنا ابن لهيعة ، عن دراج ، عن أبي الهيثم ، عن أبي سعيد الخدري ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : «كُلّ حَرْفٍ يُذْكَرُ فِيهِ القُنُوتُ مِنَ القُرْآنِ ، فَهُوَ طاعَةٌ لِلّهِ » .
حدثني محمد بن سنان ، قال : حدثنا أبو بكر الحنفي ، عن عباد بن منصور ، عن الحسن ، في قوله : { يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبّكِ } قال : يقول : اعبدي ربك .
قال أبو جعفر : وقد بينا أيضا معنى الركوع والسجود بالأدلة الدالة على صحته ، وأنهما بمعنى الخشوع لله والخضوع له بالطاعة والعبودية .
فتأويل الاَية إذا : يا مريم أخلصي عبادة ربك لوجهه خالصا ، واخشعي لطاعته وعبادته ، مع من خشع له من خلقه ، شكرا له على ما أكرمك به من الاصطفاء والتّطهير من الأدناس والتفضيل على نساء عالم دهرك .
إعادةُ النداء في قول الملائكة : { يا مريم اقنتي } لقصد الإعجاب بحالها ، لأنّ النداء الأول كفى في تحصيل المقصود من إقبالها لسماع كلام الملائكة ، فكان النداء الثاني مستعملاً في مجرّد التنبيه الذي ينتقل منه إلى لازمِه وهو التنويه بهذه الحالة والإعجاب بها ، ونظيره قول امرىء القيس :
تقول وقد مال الغَبيط بنا معَا *** عقرتَ بعيري يا امرأ القيس فانْزِل
( فهو مستعمل في التنبيه المنتقل منه إلى التوبيخ ) .
والقنوت ملازمة العبادة ، وتقدم عند قوله تعالى : { وقوموا للَّه قانتين } في سورة [ البقرة : 238 ] .
وقدم السجود ، لأنّه أدخل في الشكر والمقَام هنا مقام شكر .
وقوله : { مع الراكعين } إذن لها بالصلاة مع الجماعة ، وهذه خصوصية لها من بين نساء إسرائيل إظهاراً لمعنى ارتفاعها عن بقية النساء ، ولذلك جيء في الراكعين بعلامة جمع التذكير .
وهذا الخطاب مقدمة للخطاب الذي بعده وهو { يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه } [ آل عمران : 45 ] لقصد تأنيسها بالخبر الموالي لأنه لما كان حاصله يَجلب لها حَزناً وسوء قالة بين الناس ، مهّد له بما يجلب إليها مَسرّة ، ويوقنها بأنّها بمحل عناية الله ، فلا جرم أن تعلم بأنّ الله جاعل لها مخرجاً وأنّه لا يخزيها .
وقوله : { وما كنت لديهم } إيماء إلى خلوّ كتبهم عن بعض ذلك ، وإلاّ لقال : وما كنت تتلو كُتبهم مثل : « وما كنت تتلو من قبله من كتاب » أي إنّك تخبرهم عن أحوالهم كأنّك كنت لديهم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.