( ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها ونسي ما قدمت يداه . إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا ، وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذن أبدا . . )
فهؤلاء الذين يستهزئون بآيات الله ونذره لا يرجى منهم أن يفقهوا هذا القرآن ، ولا أن ينتفعوا به . لذلك جعل الله على قلوبهم أغطية تحول دون فقهه ، وجعل في آذانهم كالصمم فلا يستمعون إليه . وقدر عليهم الضلال - بسبب استهزائهم وإعراضهم - فلن يهتدوا إذن أبدا . فللهدى قلوب متفتحة مستعدة للتلقي .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمّن ذُكّرَ بِآيِاتِ رَبّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدّمَتْ يَدَاهُ إِنّا جَعَلْنَا عَلَىَ قُلُوبِهِمْ أَكِنّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِن تَدْعُهُمْ إِلَىَ الْهُدَىَ فَلَنْ يَهْتَدُوَاْ إِذاً أَبَداً } .
يقول عزّ ذكره : وأيّ الناس أوضع للإعراض والصدّ في غير موضعهما ممن ذكره بآياته وحججه ، فدله بها على سبيل الرشاد ، وهداه بها إلى طريق النجاة ، فأعرض عن آياته وأدلته التي في استدلاله بها الوصول إلى الخلاص من الهلاك وَنَسِيَ ما قَدّمَتْ يَدَاهُ يقول : ونسي ما أسلف من الذنوب المهلكة فلم يتب ، ولم ينب كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَنَسِيَ ما قَدّمَتْ يَدَاهُ : أي نسي ما سلف من الذنوب .
وقوله : إنّا جَعَلْنا على قُلوبِهِمْ أكِنّةَ أنْ يَفْقَهُوهُ وفِي آذانِهِمْ وَقْرا يقول تعالى ذكره : إنا جعلنا على قلوب هؤلاء الذين يعرضون عن آيات الله إذا ذكروا بها أغطية لئلا يفقهوه ، لأن المعنى أن يفقهوا ما ذكروا به . وقوله : وفِي آذانِهِمْ وَقْرا يقول : في آذانهم ثقلاً لئلا يسمعوه وَإنْ تَدْعُهُمْ إلى الهُدَى يقول عزّ ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : وَإنْ تَدْعُ يا مُحَمّد هؤلاء المعرضين عن آيات الله عند التذكير بها إلى الاستقامة على محجة الحقّ والإيمان بالله ، وما جئتهم به من عند ربك فَلَنْ يَهْتَدُوا إذًا أبَدًا يقول : فلن يستقيموا إذا أبدا على الحقّ ، ولن يؤمنوا بما دعوتهم إليه ، لأن الله قد طبع على قلوبهم ، وسمعهم وأبصارهم .
{ ومن أظلم ممن ذُكّر بآيات ربه } بالقرآن . { فأعرض عنها } فلم يتدبرها ولم يتذكر بها . { ونسي ما قدّمت يداه } من الكفر والمعاصي ولم يتفكر في عاقبتهما . { إنا جعلنا على قلوبهم أكنّة } تعليل لإعراضهم ونسيانهم بأنهم مطبوع على قلوبهم . { أن يفقهوه } كراهة أن يفقهوه ، وتذكير الضمير وإفراده للمعنى . { وفي آذانهم وقرا } يمنعهم أن يستمعوه حق استماعه . { وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذاً أبدا } تحقيقا ولا تقليدا لأنهم لا يفقهون ولا يسمعون وإذا كما عرفت جزاء وجواب للرسول صلى الله عليه وسلم على تقدير قوله ما لي لا أدعوهم ، فإن حرصه صلى الله عليه وسلم على إسلامهم يدل عليه .
وقوله { ومن أظلم } استفهام بمعنى التقرير ، وهذا من أفصح التقرير أن يوقف الأمر على ما لا جواب له فيه إلا الذي يريد خصمه ، فالمعنى لا أحد { أظلم ممن } هذه صفته ، أن يعرض عن الآيات بعد الوقوف عليها بالتذكير ، وينسى ويطرح كبائره التي أسلفها هذه غاية الانهمال ، ونسب السيئات إلى اليدين ، من حيث كانت اليدان آلة التكسب في الأمور الجرمية{[7836]} ، فجعلت كذلك في المعاني ، استعارة ، ثم أخبر الله عز وجل عنهم وعن فعله بهم ، جزاء على إعراضهم وتكسبهم القبيح ، فإنه تعالى : { جعل على قلوبهم أكنة } وهي جمع كنان ، وهو كالغلاف الساتر واختلف الناس في هذا وما أشبهه من الختم والطبع ونحوه ، هل هو حقيقة أو مجاز ، والحقيقة في هذا غير مستحلية ، والتجوز أيضاً فصيح ، أي لما كانت هذه المعاني مانعة في الأجسام وحاملة ، استعيرت للقلوب التي قد أقساها الله تعالى وأقصاها عن الخير ، وأما «الوقر » في الآذان ، فاستعارة بينة لأنا نحس الكفرة يسمعون الدعاء إلى الشرع سماعاً تاماً ، ولكن لما كانوا لا يؤثر ذلك فيهم إلا كما يؤثر في الذي به وقر ، فلا يسمع ، وشبهوا به ، وكذلك العمى والصم والبكم ، كلها استعارات ، وإنما الخلاف في أوصاف القلب ، هل هي حقيقة أو مجاز ، و «الوقر » : الثقل في السمع ، ثم أخبر تعالى عنهم أنهم ، وإن دعوا إلى الهدى فإنهم لا يهتدون أبداً ، وهذا يخرج على أحد تأويلين : أحدهما أن يكون هذا اللفظ العام يراد به الخاص ، ممن حتم الله عليه أن لا يؤمن ولا يهتدي أبداً ، ويخرج عن العموم كل من قضى الله بهداه في ثاني حال ، والآخر أن يريد : وإن تدعهم إلى الهدى جميعاً فلن يؤمنوا جميعاً أبداً ، أي إنهم ربما آمن الأفراد ، ويضطرنا إلى أحد هذين التأويلين ، أنا نجد المخبر عنهم بهذا الخبر قد آمن منهم واهتدى كثير .
لما بين حالهم من مجادلة الرسل لسوء نية ، ومن استهزائهم بالإنذار ، وعَرّض بحماقتهم أتبع ذلك بأنه أشد الظلم . ذلك لأنه ظلم المرء نفسه وهو أعجب الظلم ، فالذين ذُكِروا ما هم في غفلة عنه تذكيراً بواسطة آيات الله فأعرضوا عن التأمل فيها مع أنها تنذرهم بسوء العاقبة . وشأن العاقل إذا سمع مثل ذلك أن يتأهب للتأمل وأخذ الحذر ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لقريش « إذا أخبرتكم أن العدو مصبحكم غداً أكنتم مُصدِّقي ؟ فقالوا : ما جربنا عليك كذباً » فقال : « فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد » .
و ( مَنْ ) المجرورةُ موصولة . وهي غير خاصة بشخص معين بقرينة قوله : { إنا جعلنا على قلوبهم أكنة } . والمراد بها المشركون من العرب الذين ذكروا بالقرآن فأعرضوا عنه .
وعطف إعراضهم عن الذكر على التذكير بفاء التعقيب إشارة إلى أنهم سارعوا بالإعراض ولم يتركوا لأنفسهم مهلة النظر والتأمل .
ومعنى نِسيان ما قدمتْ يداه أنه لم يَعرض حاله وأعماله على النظر والفكر ليعلم : أهي صالحة لا تخشى عواقبها أم هي سيئة من شأنها أن لا يسلم مقترفها من مؤاخذة ، والصلاحُ بَيّنٌ والفساد بينٌ ، ولذلك سمي الأول معروفاً والثاني منكَراً ، ولا سيما بعد أن جاءتهم الذكرى على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم فهم بمجموع الحالَين أشد الناس ظلماً ، ولو تفكروا قليلاً لعلموا أنهم غير مفلَتين من لقاء جزاء أعمالهم .
ف ( مَن ) استفهام مستعمل في الإنكار ، أي لا أحد أظلم من هؤلاء المتحدث عنهم .
والنسيان : مستعمل في التغاضي عن العمل . وحقيقة النسيان تقدم عند قوله تعالى : { ما ننسخ من آية أو ننسها } في سورة البقرة ( 106 ) .
ومعنى { ما قدمت يداه } ما أسلفه من الأعمال . وأكثر ما يستعمل مثل هذا التركيب في القرآن في العمل السيء ، فصار جارياً مَجرى المثل ، قال تعالى : { ذلك بما قدمت يداك وأن الله ليس بظلام للعبيد } ، وقال : { وما أصابكم من مصيبة فبما قدمت أيديكم } .
والآية مصوغة بصيغة العموم ، والمقصود الأول : منها مشركو أهل مكة .
وجملة { إنا جعلنا على قلوبهم أكنة } مستأنفة بيانية نشأت على جملة { ونسي ما قدمت يداه } ، أي إن لم تعلم سبب نسيانه ما قدمت يداه فأعلم أنا جعلنا على قلوبهم أكنة . وهو يفيد معنى التعليل بالمآل ، وليس موقع الجملة موقع الجملة التعليلية .
والقلوب مرادُ بها : مَدارك العلم .
والأكنة : جمع كِنان ، وهو الغِطاء ، لأنه يُكن الشيء ، أي يَحجبه .
و { أن يفقهوه } مجرور بحرف محذوف ، أي مِنْ أن يفقهوه ، لتضمين { أكنة } معنى الحائل أو المانع .
والوقر : ثقل السمع المانع من وصول الصوت إلى الصماخ .
والضمير المفرد في { يفقهوه } عائد إلى القرآن المفهوم من المقام والمعبر عنه بالآيات .
وجملة { وإن تدعهم إلى الهدى } عطف على جملة { إنا جعلنا على قلوبهم } ، وهي متفرعة عليها ، ولكنها لم تعطف بالفاء لأن المقصود جعل ذلك في الإخبار المستقل .
وأكد نفي اهتدائهم بحرف توكيد النفي وهو ( لن ) ، وبلفظ ( أبدا ) المؤكد لمعنى ( لن ) ، وبحرف الجزاء المفيد تسبب الجواب على الشرط .
وإنما حصل معنى الجزاء باعتبار تفرع جملة الشرط على جملة الاستئناف البياني ، أي ذلك مسبب على فطر قلوبهم على عدم قبول الحق .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها}، يقول: فلا أحد أظلم ممن وعظ بآيات ربه، يعني: القرآن... فأعرض عن الإيمان بآيات الله -القرآن -فلم يؤمن بها،
{ونسي ما قدمت يداه}، يعني: ترك ما سلف من ذنوبه، فلم يستغفر منها من الشرك،
{إنا جعلنا على قلوبهم أكنة}، يعني: الغطاء على القلوب،
{وفي آذانهم وقرا}؛ لئلا يسمعوا القرآن،
{إلى الهدى فلن يهتدوا إذا أبدا}، من أجل الأكنة والوقر، يعني: كفار مكة.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول عزّ ذكره: وأي الناس أوضع للإعراض والصدّ في غير موضعهما ممن ذكره بآياته وحججه، فدله بها على سبيل الرشاد، وهداه بها إلى طريق النجاة، فأعرض عن آياته وأدلته التي في استدلاله بها الوصول إلى الخلاص من الهلاك "وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ "يقول: ونسي ما أسلف من الذنوب المهلكة فلم يتب، ولم ينب...
وقوله: "إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ" يقول تعالى ذكره: إنا جعلنا على قلوب هؤلاء الذين يعرضون عن آيات الله إذا ذكروا بها أغطية لئلا يفقهوه، لأن المعنى أن يفقهوا ما ذكروا به.
وقوله: "وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا" يقول: في آذانهم ثقلا لئلا يسمعوه.
"وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى" يقول عزّ ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وَإنْ تَدْعُ يا مُحَمَّد هؤلاء المعرضين عن آيات الله عند التذكير بها إلى الاستقامة على محجة الحق والإيمان بالله، وما جئتهم به من عند ربك "فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا" يقول: فلن يستقيموا إذا أبدا على الحقّ، ولن يؤمنوا بما دعوتهم إليه، لأن الله قد طبع على قلوبهم، وسمعهم وأبصارهم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها} يحتمل قوله: {ذكر بآيات ربه} أي وُعِظَ بالآيات التي نزلت بمكة في الرسل من الأمم الماضية، فيكون تأويله: أي لا حد أظلم على نفسه ممن وعظ بآيات ربه، فأعرض عنها، ما لو اتعظ بما وعظ كان به نجاته. أو أن يكون تذكيره بآيات ربه، وهو ما أقام من حُجَجِهِ وبراهينه على توحيده ورسالة الرسول، فلم يقبلها، ولم يصدقها: أي لا أحد أظلم على نفسه ممن لم يتعظ بما ذكر من الآيات والحجج، ولم يقبلها،...
{فأعرض عنها} يحتمل الإعراض عنها في الابتداء؛ أي لم يقبلها، ولم يكترث إليها، ولم ينظر فيها. أو أعرض عنها بعد ما عرفها أنها آيات تعنتا وعنادا...
{ونسي ما قدمت يداه} يحتمل أي نسي من الخيانة والشرك. أو أن يكون قوله: {ونسي ما قدمت يداه} موصولا بالأول؛ أي (لا) أحد أظلم على نفسه ممن وعظ، وجعل له سبيل التخلص والنجاة مما قدمت يداه، فلم يتعظ به، والله أعلم.
{إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا} إن الكفر مظلم؛ إذا أتى به إنسان، يستر على نور القلب وعلى نور كل جارحة منه، والإيمان منير ينير القلب، وينير كل جارحة منه وعضو، وهو ما ذكرنا في غير موضع أن الإنسان إنما يُبْصِرُ بنورين ظاهرين بنور نفسه وبنور ذلك الشيء. فإذا ذهب أحدهما ذهب الانتفاع بالآخر. والإيمان ما ذكرنا أنه منير، وفي القلب نور. فإذا اجتمع النوران معا فعند ذلك انتفع به الإنسان فجعل يفقه ويعقل الشيء بنور القلب وبنور الإيمان، وكذلك كل جارحة منه من الأذن والبصر واللسان؛ جعل يُبْصِرُ الحق به، ويعتبر به، ويستمع الحق والصواب. والكفر مظلم؛ يمنع ويستر على نور الجوارح فيجعل الإنسان لا يُبْصِرُ ولا يَعْتَبِرُ ولا يَستَمِعُ ولا يَتكلم بالحق...
{وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذا أبد} هذا في قوم مخصوصين، عَلِمَ الله أنهم لا يؤمنون أبدا. هذا لا يحتمل في جميع الكفار؛ إذ من الكفار من قد آمن. وقال الحسن: هو في القوم الذي جعل على قلوبهم الغطاء والطبع... وقال بعضهم: هو في قوم، عادتهم العناد والمكابرة وتكذيب الآيات والحجج، فأخبر أنهم لا يؤمنون أبدا لعنادهم...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{بآيات رَبِّهِ}: بالقرآن، ولذلك رجع إليها الضمير مذكراً في قوله: {أَن يَفْقَهُوهُ}. {فَأَعْرَضَ عَنْهَا}: فلم يتذكر حين ذكر ولم يتدبر، {وَنَسِىَ} عاقبة {مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} من الكفر والمعاصي، غير متفكر فيها ولا ناظر في أنّ المسيء والمحسن لا بدّ لهما من جزاء. ثم علّل إعراضهم ونسيانهم بأنهم مطبوع على قلوبهم، وجمع بعد الإفراد حملاً على لفظ "من "ومعناه {فَلَنْ يَهْتَدُواْ} فلا يكون منهم اهتداء البتة، كأنه محال منهم لشدّة تصميمهم {أَبَدًا} مدّة التكليف كلها. و {إِذَا} جزاء وجواب، فدلّ على انتفاء اهتدائهم لدعوة الرسول، بمعنى أنهم جعلوا ما يجب أن يكون سبب وجود الاهتداء سبباً في انتفائه، وعلى أنه جواب للرسول على تقدير قوله: ما لي لا أدعوهم حرصاً على إسلامهم؟ فقيل: وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{ومن أظلم} استفهام بمعنى التقرير، وهذا من أفصح التقرير أن يوقف الأمر على ما لا جواب له فيه إلا الذي يريد خصمه، فالمعنى لا أحد {أظلم ممن} هذه صفته، أن يعرض عن الآيات بعد الوقوف عليها بالتذكير، وينسى ويطرح كبائره التي أسلفها هذه غاية الانهمال، ونسب السيئات إلى اليدين، من حيث كانت اليدان آلة التكسب في الأمور الجرمية، فجعلت كذلك في المعاني، استعارة، ثم أخبر الله عز وجل عنهم وعن فعله بهم، جزاء على إعراضهم وتكسبهم القبيح، فإنه تعالى: {جعل على قلوبهم أكنة} وهي جمع كنان، وهو كالغلاف الساتر، واختلف الناس في هذا وما أشبهه من الختم والطبع ونحوه، هل هو حقيقة أو مجاز، والحقيقة في هذا غير مستحلية، والتجوز أيضاً فصيح، أي لما كانت هذه المعاني مانعة في الأجسام وحاملة، استعيرت للقلوب التي قد أقساها الله تعالى وأقصاها عن الخير، وأما «الوقر» في الآذان، فاستعارة بينة لأنا نحس الكفرة يسمعون الدعاء إلى الشرع سماعاً تاماً، ولكن لما كانوا لا يؤثر ذلك فيهم إلا كما يؤثر في الذي به وقر، فلا يسمع، وشبهوا به، وكذلك العمى والصم والبكم، كلها استعارات، وإنما الخلاف في أوصاف القلب، هل هي حقيقة أو مجاز، ثم أخبر تعالى عنهم أنهم، وإن دعوا إلى الهدى فإنهم لا يهتدون أبداً، وهذا يخرج على أحد تأويلين: أحدهما أن يكون هذا اللفظ العام يراد به الخاص، ممن حتم الله عليه أن لا يؤمن ولا يهتدي أبداً، ويخرج عن العموم كل من قضى الله بهداه في ثاني حال، والآخر أن يريد: وإن تدعهم إلى الهدى جميعاً فلن يؤمنوا جميعاً أبداً، أي إنهم ربما آمن الأفراد، ويضطرنا إلى أحد هذين التأويلين، أنا نجد المخبر عنهم بهذا الخبر قد آمن منهم واهتدى كثير...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
وإسناد الفعل في الإعراض وما بعده إليهم حقيقة مما لهم من الكسب كما أن إسناد الجعل وما بعده إلى الله حقيقة بما له من الخلق. ولما كان كأنه قيل: ما لهم فعلوا ذلك؟ أيجهل قبح هذا أحد؟ قيل: {إنا جعلنا} بما لنا من القدرة على إعماء البصائر والأبصار {على قلوبهم} فجمع رجوعاً إلى أسلوب {واتخذوا ءاياتي} لأنه أنص على ذم كل واحد {أكنة} أي أغطية مستعلية عليها استعلاء يدل سياق العظمة على أنه لا يدع شيئاً من الحيز يصل إليها، فهي لا تعي شيئاً من آياتنا، ودل بتذكير الضمير على أن المراد بالآيات القرآن فقال تعالى: {أن} أي كراهة أن {يفقهوه} أي يفهموه {وفي ءاذانهم وقراً} أي ثقلاً فهم لا يسمعون حق السمع، ولا يعون حق الوعي {وإن تدعهم} أي تكرر دعاءهم كل وقت {إلى الهدى} لتنجيهم بما عندك من الحرص على ذلك والجد {فلن يهتدوا} أي كلهم بسبب دعائك {إذاً} أي إذا دعوتهم {أبداً} لأن من له العظمة التامة -وهو الذي إذا عبر عن نفسه بنونها كانت على حقيقتها- حكم عليهم بالضلال، أي أنه لا يكون الدعاء وحده هادياً لأكثرهم، بل لا بد معه من السيف كما سنأمرك به فتقطع الرؤوس فيذل غيرهم، وقد يكون المراد أن من كان هكذا معانداً على هذا الوجه كان مؤبد الشقاء، وقد نفى آخر هذه الآية الفعل عن العباد وأثبته لهم أولها.
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكّرَ بآيات رَبّهِ}... {فَأَعْرَضَ عَنْهَا}... وهذا السَّبْكُ وإن كان مدلولُه الوضعيُّ نفيَ الأَظْلَمِيّة من غير تعرّضٍ لنفي المساواة في الظلم إلا أن مفهومَه العُرْفيَّ أنه أظلمُ من كلّ ظالمٍ، وبناءُ الأَظْلَمِيّة على ما في حيز الصلة من الإعراض عن القرآن للإشعار بأن ظُلْمَ مَن يجادل فيه ويتّخِذُه هُزُواً خارجٌ عن الحَدّ... {وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ}... أي... من... المعاصي... التي من جملتها ما ذكر من المجادلة بالباطل والاستهزاءِ بالحق...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
لما بين حالهم من مجادلة الرسل لسوء نية، ومن استهزائهم بالإنذار، وعَرّض بحماقتهم أتبع ذلك بأنه أشد الظلم. ذلك لأنه ظلم المرء نفسه وهو أعجب الظلم، فالذين ذُكِروا ما هم في غفلة عنه تذكيراً بواسطة آيات الله فأعرضوا عن التأمل فيها مع أنها تنذرهم بسوء العاقبة. وشأن العاقل إذا سمع مثل ذلك أن يتأهب للتأمل وأخذ الحذر، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لقريش « إذا أخبرتكم أن العدو مصبحكم غداً أكنتم مُصدِّقي؟ فقالوا: ما جربنا عليك كذباً» فقال: « فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد».
و (مَنْ) المجرورةُ موصولة، وهي غير خاصة بشخص معين بقرينة قوله: {إنا جعلنا على قلوبهم أكنة}، والمراد بها المشركون من العرب الذين ذكروا بالقرآن فأعرضوا عنه.
وعطف إعراضهم عن الذكر على التذكير بفاء التعقيب إشارة إلى أنهم سارعوا بالإعراض ولم يتركوا لأنفسهم مهلة النظر والتأمل.
ومعنى نِسيان ما قدمتْ يداه أنه لم يَعرض حاله وأعماله على النظر والفكر ليعلم: أهي صالحة لا تخشى عواقبها أم هي سيئة من شأنها أن لا يسلم مقترفها من مؤاخذة، والصلاحُ بَيّنٌ والفساد بينٌ، ولذلك سمي الأول معروفاً والثاني منكَراً، ولا سيما بعد أن جاءتهم الذكرى على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم فهم بمجموع الحالَين أشد الناس ظلماً، ولو تفكروا قليلاً لعلموا أنهم غير مفلَتين من لقاء جزاء أعمالهم.
ف (مَن) استفهام مستعمل في الإنكار، أي لا أحد أظلم من هؤلاء المتحدث عنهم.
والنسيان: مستعمل في التغاضي عن العمل. وحقيقة النسيان تقدم عند قوله تعالى: {ما ننسخ من آية أو ننسها} في سورة البقرة (106).
ومعنى {ما قدمت يداه} ما أسلفه من الأعمال. وأكثر ما يستعمل مثل هذا التركيب في القرآن في العمل السيء، فصار جارياً مَجرى المثل، قال تعالى: {ذلك بما قدمت يداك وأن الله ليس بظلام للعبيد}، وقال: {وما أصابكم من مصيبة فبما قدمت أيديكم}.
والآية مصوغة بصيغة العموم، والمقصود الأول: منها مشركو أهل مكة.
وجملة {إنا جعلنا على قلوبهم أكنة} مستأنفة بيانية نشأت على جملة {ونسي ما قدمت يداه}، أي إن لم تعلم سبب نسيانه ما قدمت يداه فأعلم أنا جعلنا على قلوبهم أكنة. وهو يفيد معنى التعليل بالمآل، وليس موقع الجملة موقع الجملة التعليلية.
والقلوب مرادُ بها: مَدارك العلم.
والأكنة: جمع كِنان، وهو الغِطاء، لأنه يُكن الشيء، أي يَحجبه.
و {أن يفقهوه} مجرور بحرف محذوف، أي مِنْ أن يفقهوه، لتضمين {أكنة} معنى الحائل أو المانع.
والوقر: ثقل السمع المانع من وصول الصوت إلى الصماخ.
والضمير المفرد في {يفقهوه} عائد إلى القرآن المفهوم من المقام والمعبر عنه بالآيات.
وجملة {وإن تدعهم إلى الهدى} عطف على جملة {إنا جعلنا على قلوبهم}، وهي متفرعة عليها، ولكنها لم تعطف بالفاء لأن المقصود جعل ذلك في الإخبار المستقل.
وأكد نفي اهتدائهم بحرف توكيد النفي وهو (لن)، وبلفظ (أبدا) المؤكد لمعنى (لن)، وبحرف الجزاء المفيد تسبب الجواب على الشرط.
وإنما حصل معنى الجزاء باعتبار تفرع جملة الشرط على جملة الاستئناف البياني، أي ذلك مسبب على فطر قلوبهم على عدم قبول الحق.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
{وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذا أبدا}، الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، أي إذا كانوا على هذه الحال من أن منافذ الحق قد سدّت على أسماعهم وقلوبهم، فإن تدعهم إلى الهدى {فلن يهتدوا إذن أبدا} أي ما داموا على هذه أم ما داموا في الدنيا وليس هذا تيئيسا للنبي صلى الله عليه وسلم من إيمانهم فلا يدعوهم، ولكنه بيان له لكي لا يرجو إيمانهم بطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه، واليأس من إيمان قوم لا يستدعى ترك الدعوة بل يوجب دعوة غيرهم، والاستمساك بمن آمنوا.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيِاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا} لأنه يظلم نفسه بما يُعرِّضها له من الضلال والضياع والعقاب والمصير الأسود... ولعل ظلم النفس بالكفر هو أفظع الظلم، لأنه يدلّل على عمق سيطرة الظلم كمبدأ على شخصيته، بحيث لا يوفّر نفسه عن الخضوع له، فيعرّضها للعذاب الأبدي، بعد أن قامت حُجّةُ الحقِّ عليه، فأعرض عنها...
{وَإِن تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُواْ إِذاً أَبَداً} للهدى أبوابه التي أغلقوها بأنفسهم، باتباعهم سبيل الغَفْلة والإعراضِ عن الحق، فكيف يهتدي الإنسان بدون عقلٍ مفتوحٍ، أو أذن سَميعةٍ، أو عينٍ مُبصرةٍ؟! وهكذا يختار الإنسان لنفسه الضلال، باختيار الأسباب التي تقوده إلى ذلك، فليست الحتمية في الكفر كامنةً في شخصيته ليكون مجبوراً على ذلك، بل هي كامنةٌ في إرادته من خلال حركته في الاختيار، عندما يُعطِّل إرادته عن التحرك في الاتجاه السليم...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
(ومَن أَظْلَمُ مِمّن ذُكِّر بآيات ربَّه فأعرضَ عنها ونَسِيَ ما قدَّمتْ يداه). إِنّ استخدام تعبير (ذكّر) يوحي إلى أنَّ تعليمات الأنبياء (عليهم السلام) هي بمثابة التذكير بالحقائق الموجودة بشكل فطري في أعماق الإِنسان، وإِنَّ مهمّة الأنبياء هي رفْع الحُجُب عن نقاء وشفافية هذه الفطرة...
الطريف في الأمر أنَّ الآية الكريمة رسمت ثلاثة مسالك ليقظة هؤلاء وإِعادتهم إلى نور الهداية، هي: أوّلا: إِنَّ هذه الحقائق تلائم بشكل كامل ما هو مكنون في فطرتكم ووجدانكم وأرواحكم. ثانياً: إِنّها جاءت مِن قبل خالقكم. ثالثاً: عليكم أن لا تَنسَوا أنّكم اقترفتم الذنوب، وأنَّ مِنهاج عمل الأنبياء هو فتح باب التوبة مِن الذنوب والهداية للصواب...
ولا نعتقد أننا بحاجة إلى أن نوضح أن سبب انعدام قابلية التشخيص والقدرة والإِحساس والسمع لدى هؤلاء... بسبب (ما قدّمت يداه) وبسبب الأعمال التي قاموا بها سابقاً، وهذا هو الجزاء المباشر لأعمالهم ولما كسبت أيديهم. بعبارة أُخرى: إِنَّ الأعمال القبيحة السيئة والمخزية تحوَّلت إلى ستار وثقل، أي:كنان ووقر، على قلوبهم وآذانهم، وهذه الحقيقة تذكرها الكثير مِن الآيات القرآنية، إِذ نقرأ على سبيل المثال قوله تعالى في الآية (155) مِن سورة النساء: (بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إِلاَّ قليلا)...