{ وقَالَ فِرْعَوْنُ } متكبرًا متجبرًا مغررًا لقومه السفهاء : { ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ } أي : زعم -قبحه الله- أنه لولا مراعاة خواطر قومه لقتله ، وأنه لا يمنعه من دعاء ربه ، ثم ذكر الحامل له على إرادة قتله ، وأنه نصح لقومه ، وإزالة للشر في الأرض فقال : { إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ } الذي أنتم عليه { أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ } وهذا من أعجب ما يكون ، أن يكون شر الخلق ينصح الناس عن اتباع خير الخلق هذا من التمويه والترويج الذي لا يدخل إلا عقل من قال الله فيهم : { فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ }
الظاهر من أمر فرعون أنه لما بهرت آيات موسى عليه السلام انهد ركنه واضطربت معتقدات أصحابه ، ولم يفقد منهم من يجاذبه الخلاف في أمره ، وذلك بين من غير ما موضع من قصتهما ، في هذه الآية على ذلك دليلان ، أحدهما قوله : { ذروني } فليست هذه من ألفاظ الجبابرة المتمكنين من إنقاذ أوامرهم . والدليل الثاني : مقالة المؤمن وما صدع به ، وأن مكاشفته لفرعون أكثر من مسايرته ، وحكمه بنبوة موسى أظهر من توريته في أمره . وأما فرعون فإنما لجأ إلى المخرقة والاضطراب والتعاطي ، ومن ذلك قوله : { ذروني أقتل موسى وليدع ربه } أي إني لا أبالي عن رب موسى ، ثم رجع إلى قومه يريهم النصيحة والحماية لهم فقال : { إني أخاف أن يبدل دينكم } . والدين : السلطان ، ومنه قول زهير :
لئن حللت بجوٍّ من بني أسد . . . في دين عمرو وحالت بيننا فدك{[9984]}
وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر : «وأن » . وقرأ عاصم وحمزة والكسائي : «أو أن » ، ورجحها أبو عبيد بزيادة الحرف ، فعلى الأولى خاف أمرين ، وعلى الثانية : خاف أحد أمرين .
وقرأ نافع وأبو عمرو وحفص عن عاصم والحسن وقتادة والجحدري وأبو رجاء ومجاهد وسعيد بن المسيب ومالك بن أنس : «يُظهِر » بضم الياء وكسر الهاء . «الفسادَ » نصيباً . وقرأ ابن كثير وابن عامر : «يَظهرَ » بفتح الياء والهاء «الفسادُ » بالرفع على إسناد الفعل إليه ، وهي قراءة حمزة والكسائي وأبي بكر عن عاصم والأعرج وعيسى والأعمش وابن وثاب . وروي عن الأعمش أنه قرأ : «ويظهرُ في الأرض الفساد » برفع الراء . وفي مصحف ابن مسعود : «ويظهر » بفتح الراء .
عطفُ { وقال } بالواو يدل على أنه قال هذا القول في موطن آخر ولم يكن جواباً لقولهم : { اقْتُلوا أبْنَاءَ الَّذِينَ ءامَنُوا مَعَهُ } [ غافر : 25 ] ، وفي هذا الأسلوب إيماء إلى أن فرعون لم يعمل بإشارة الذين قالوا : { اقتلوا أبناء الذين ءامنوا معه } وأنه سكت ولم يراجعهم بتأييد ولا إعراض ، ثم رأى أن الأجدر قتل موسى دون أن يقتل الذين آمنوا معه لأن قتله أقطع لفتنتهم .
ومعنى : { ذروني } إعلامهم بعزمه بضرب من إظهار ميله لذلك وانتظاره الموافقة عليه بحيث يمثل حاله وحال المخاطبين بحال من يريد فعل شيء فيصدّ عنه ، فلرغبته فيه يقول لمن يصده : دَعْنِي أفعل كذا ، لأن ذلك التركيب مما يخاطب به الممانع والملائم ونحوهما ، قال طرفة :
فان كنتَ لا تستطيع دفع منيتي *** فدَعْنِي أبادرها بما ملكتْ يدي
ثم استعمل هذا في التعبير عن الرغبة ولم يكن ثمة معارض أو ممانع ، وهو استعمال شائع في هذا وما يرادفه مثل : دَعْني وخَلِّني ، كما في قوله تعالى : { ذرني ومن خلقت وحيداً } [ المدثر : 11 ] وقوله : { وذرني والمكذبين } [ المزمل : 11 ] ، وقول أبي القاسم السهيلي :
دَعْنِي على حكم الهوى أتضرع *** فَعَسَى يلين ليَ الحبيب ويخشع
وذلك يستتبع كناية عن خطر ذلك العمل وصعوبة تحصيله لأن مثله مما يَمنع المستشارُ مستشيره من الإِقدام عليه ، ولذلك عطف عليه : { وَلْيَدْعُ رَبَّهُ } لأن موسى خوّفهم عذاب الله وتحدَّاهم بالآيات التسع . ولام الأمر في { وَلْيَدعُ رَبَّهُ } مستعملة في التسوية وعدم الاكتراث . وجملة { إنِّي أَخَافُ أَن يُبَدّلَ دِينَكُمْ } تعليل للعزم على قتل موسى . والخوف مستعمل في الإِشفاق ، أي أظن ظناً قوياً أن يبدل دينكم . وحذفت ( مِن ) التي يتعدى بها فعل { أخاف } لأنها وقعت بينه وبين ( أنْ ) .
والتبديل : تعويض الشيء بغيره . وتوسم فرعون ذلك من إنكار موسى على فرعون زعمه أنه إله لقومه فإن تبديل الأصول يقتضي تبديل فروع الشريعة كلها .
والإِضافة في قوله : { دينكم } تعريض بأنهم أولى بالذبّ عن الدين وإن كان هو دينَه أيضاً لكنه تجرد في مشاورتهم عن أن يكون فيه مراعاة لحظ نفسه كما قالوا هم { أتذر موسى وقومَه ليفسدوا في الأرض ويذَرَك وآلهتك } [ الأعراف : 127 ] وذلك كله إلهاب وتحضيض .
والأرض : هي المعهودة عندهم وهي مملكة فرعون .
ومعنى إظهار موسى الفساد عندهم أنه يتسبب في ظهوره بدعوته إلى تغيير ما هم عليه من الديانة والعوائد . وأطلق الإِظهار على الفشوّ والانتشار على سبيل الاستعارة . وقد حمله غروره وقلة تدبره في الأمور على ظن أن ما خالف دينهم يعدّ فساداً إذ ليست لهم حجة لدينهم غير الإِلف والانتفاع العاجل .
وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر وأبو عمرو وأبو جعفر { وأَنْ بواو العطف . وقرأ غيرهم أوْ أَنْ } ب ( أو ) التي للترديد ، أي لا يخلو سعي موسى عن حصول أحد هاذين . وقرأ نافع وأبو عَمرو وأبو بكر عن عاصم وأبو جعفر بضم ياء { يُظهر } ونصب { الفَسَاد } أي يبدل دينكم ويكون سبباً في ظهور الفساد . وقرأه ابن كثير وابن عامر وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم ويعقوب وخلف بفتح الياء وبرفع { الفسادُ } على معنى أن الفساد يظهر بسبب ظهور أَتْباع موسى ، أو بأن يجترىء غيره على مثل دعواه بأن تزول حُرمة الدولة ، لأن شأن أهل الخوف عن عمل أن ينقلب جبنهم شجاعة إذا رأوا نجاح من اجترأ على العمل الذي يريدون مثله .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.