يقول تعالى : إنه قضى إلى بني إسرائيل في الكتاب ، أي : تقدم إليهم وأخبرهم في الكتاب الذي أنزله عليهم أنهم سيفسدون في الأرض مرتين ويعلون{[17231]} علوًا كبيرًا ، أي : يتجبرون ويطغون ويفجرون على الناس كما قال تعالى : { وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الأمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ } [ الحجر : 66 ] أي : تقدمنا إليه وأخبرناه بذلك وأعلمناه به .
{ وقضينا إلى بني إسرائيل } وأوحينا إليهم وحيا مقضيا مبتوتا . { في الكتاب } في التوراة . { لتُفسدنّ في الأرض } جواب قسم محذوف ، أو قضينا على إجراء القضاء المبتوت مجرى القسم . { مرّتين } إفسادتين أولاهما مخالفة أحكام التوراة وقتل شيعاء وقيل أرمياء . وثانيهما قتل زكريا ويحيى وقصد قتل عيسى عليه السلام . { ولتعلنّ علوّاً كبيراً } ولتستكبرن عن طاعة الله تعالى أو لتظلمن الناس .
وقوله : { وقضينا إلى بني إسرائيل } الآية ، قال الطبري : معنى { قضينا } فرغنا وحكي عن غيره أنه قال : { قضينا } هنا بمعنى أخبرنا ، وحكي عن آخرين أنهم قالوا { قضينا } معناه في أم الكتاب .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق بن عطية رضي الله عنه : وإنما يلبس في هذا المكان تعدية { قضينا } ب { إلى } ، وتلخيص المعنى عندي أن هذا الأمر هو مما قضاه الله تعالى في أم الكتاب على بني إسرائيل وألزمهم إياه ثم أخبرهم به في التوراة على لسان موسى . فلما أراد هنا الإعلام لنا بالأمرين جميعاً في إيجاز ، جعل { قضينا } دالة على النفوذ في أم الكتاب ، وقرن بها دالة على إنزال الخير بذلك إلى بني إسرائيل ، والمعنى المقصود مفهوم خلال هذه الألفاظ ، ولهذا فسر ابن عباس مرة بأن قال { قضينا إلى بني إسرائيل } معناه أعلمناهم ، وقال مرة : معناه قضينا عليهم . و { الكتاب } هنا التوراة لأن القسم في قوله { لتفسدن } غير متوجه مع أن يجعل { الكتاب } هو اللوح المحفوظ ، وقرأ سعيد بن جبير وأبو العالية الرياحي «في الكتب » على الجمع ، قال أبو حاتم : قراءة الناس على الإفراد ، وقرأ الجمهور «لتُفسِدن » بضم التاء وكسر السين ، وقرأ عيسى الثقفي «لَتفسُدُن » بفتح التاء وضم السين والدال ، وقرأ ابن عباس ونصر بن عاصم وجابر بن زيد «لتُفسَدُن » بضم التاء وفتح السين وضم الدال . وقوله { ولتعلن } أي لتتجبرون عن طاعة الأمرين بطاعة الله وتطلبون في الأرض العلو والفساد وتظلمون من قدرتم على ظلمة ونحو هذا .
قال القاضي أبو محمد : ومقتضى هذه الآيات أن الله تعالى أعلم بني إسرائيل في التوراة أنه سيقع منهم عصيان وطغيان وكفر لنعم الله تعالى عندهم في الرسل والكتب وغير ذلك ، وأنه سيرسل عليهم أمة تغلبهم وتقتلهم وتذلهم ، ثم يرحمهم بعد ذلك ، ويجعل لهم الكرّة ويردهم إلى حالهم الأولى من الظهور ، فيقع منهم المعاصي وكفر النعم والظلم والقتل والكفر بالله من بعضهم ، فيبعث الله عليهم أمة أخرى تخرب ديارهم وتقتلهم وتجليهم جلاء مبرحاً{[7471]} ، وأعطى الوجود بعد ذلك هذا الأمر كله وقيل : كان بين «المرتين » آخر الأولى وأول الثانية مائتَا سنة وعشر سنين{[7472]} ملكاً مؤبداً بأنبياء وقيل سبعون سنة .
عطف على جملة { وآتينا موسى الكتاب } [ الإسراء : 2 ] ، أي آتينا موسى الكتاب هُدى ، وبينا لبني إسرائيل في الكتاب ما يحل بهم من جراء مخالفة هدي التوراة إعلاماً لهذه الأمة بأن الله لم يدخر أولئك إرشاداً ونصحاً ، فالمناسبة ظاهرة .
والقضاء بمعنى الحكم وهو التقدير ، ومعنى كونه في الكتاب أن القضاء ذكر في الكتاب ، وتعدية قضينا بحرف ( إلى ) لتضمين قضينا معنى ( أبلغنا ) ، أي قضينا وأنهينا ، كقوله تعالى : { وقضينا إليه ذلك الأمر } في سورة [ الحجر : 66 ] . فيجوز أن يكون المراد ب ( الكتاب ) كتاب التوراة والتعريف للعهد لأنه ذكر الكتاب آنفاً ، ويوجد في مواضع ، منها ما هو قريب مما في هذه الآية لكن بإجمال ( انظر الإصحاج 26 والإصحاح 28 والإصحاح 30 ) ، فيكون العدول عن الإضمار إلى إظهار لفظ ( الكتاب ) لمجرد الاهتمام .
ويجوز أن يكون الكتاب بعض كتبهم الدينية . فتعريف ( الكتاب ) تعريف الجنس وليس تعريف العهد الذكري ، إذ ليس هو الكتابَ المذكور آنفاً في قوله : { وآتينا موسى الكتاب } [ الإسراء : 2 ] لأنه لما أظهر اسم الكتاب أشعر بأنه كتاب آخر من كتبهم ، وهو الأسفار المسماة بكتب الأنبياء : أشعياء ، وأرميا ، وحزقيال ، ودانيال ، وهي في الدرجة الثانية من التوراة . وكذلك كتاب النبي مَلاَخي .
والإفساد مرتين ذكر في كتاب أشعياء وكتاب أرمياء .
ففي كتاب أشعياء نذارات في الإصحاح الخامس والعاشر . وأولى المرتين مذكورة في كتاب أرمياء في الإصحاح الثاني والإصحاح الحادي والعشرين وغيرهما . وليس المراد بلفظ الكتاب كتاباً واحداً فإن المفرد المعرف بلام الجنس يراد به المتعدد . وعن ابن عباس الكتاب أكثر من الكتب . ويجوز أن يراد بالكتاب التوراة وكتب الأنبياء ولذلك أيضاً وقع بالإظهار دون الإضمار .
وجملة { لتفسدن في الأرض مرتين } إلى قوله { حصيرا } مبيّنة لجملة { وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب } . وأيّا مّا كان فضمائر الخطاب في هذه الجملة مانعة من أن يكون المراد بالكتاب في قوله تعالى : { وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب } اللوح المحفوظ أو كتاب الله ، أي علمه .
وهذه الآية تشير إلى حوادث عظيمة بين بني إسرائيل وأعدائهم من أمتين عظيمتين : حوادث بينهم وبين البابليين ، وحوادث بينهم وبين الرومانيين . فانقسمت بهذا الاعتبار إلى نوعين : نوع منهما تنْدَرج فيه حوادثهم مع البابليين ، والنوع الآخر حوادثهم مع الرومانيين ، فعبر عن النوعين بمرتين لأن كل مرة منهما تحتوي على عدة ملاحم .
فالمرة الأولى هي مجموع حوادث متسلسلة تسمى في التاريخ بالأسر البابلي وهي غزوات ( بختنصر ) مَلِك بابل وأشور بلاَد أورشليم . والغزو الأول كان سنة 606 قبل المسيح ، أسَر جماعات كثيرة من اليهود ويسمى الأسر الأول . ثم غزاهم أيضاً غزواً يسمى الأسر الثاني ، وهو أعظم من الأول ، كان سنة 598 قبل المسيح ، وأسَرَ ملكَ يهوذا وجمعاً غفيراً من الإسرائيليين وأخذ الذهب الذي في هيكل سليمان وما فيه من الآنية النفيسة .
والأسر الثالث المُبير سنة 588 قبل المسيح غزاهم « بختنصر » وسبى كل شعب يهوذا ، وأحرق هيكل سليمان ، وبقيت أورشليم خراباً يباباً . ثم أعادوا تعميرها كما سيأتي عند قوله تعالى : { ثم رددنا لكم الكرة } [ الإسراء : 6 ] .
وأما المرة الثانية فهي سلسلة غزوات الرومانيين بلادَ أورشليم . وسيأتي بيانها عند قوله تعالى : { فإذا جاء وعد الآخرة } [ الإسراء : 6 ] الآية .
وإسناد الإفساد إلى ضمير بني إسرائيل مفيد أنه إفساد من جمهورهم بحيث تعد الأمة كلُّها مُفسدة وإن كانت لا تخلو من صالحين .
والعلو في قوله : { ولتعلن علوا كبيراً } مجاز في الطغيان والعصيان كقوله : { إن فرعون علا في الأرض } [ القصص : 4 ] وقوله : { إنه كان عالياً من المسرفين } [ الدخان : 31 ] وقوله : { ألا تعلوا علي وأتوني مسلمين } [ النمل : 31 ] تشبيهاً للتكبر والطغيان بالعلو على الشيء لامتلاكه تشبيه معقول بمحسوس .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
... معنى القضاء: الفراغ من الشيء، ثم يستعمل في كلّ مفروغ منه، فتأويل الكلام في هذا الموضع: وفرغ ربك إلى بني إسرائيل فيما أنزل من كتابه على موسى صلوات الله وسلامه عليه بإعلامه إياهم وإخباره لهم "لَتُفْسِدُنّ فِي الأرْضِ مَرّتَيْنِ "يقول: لتعصنّ الله يا معشر بني إسرائيل ولتخالفنّ أمره في بلاده مرّتين، "وَلَتَعْلُنّ عَلُوّا كَبِيرا" يقول: ولتستكبرنّ على الله باجترائكم عليه استكبارا شديدا...
وقال آخرون: معنى ذلك: وقضينا على بني إسرائيل في أمّ الكتاب، وسابق علمه...
وقال آخرون: معنى ذلك: أخبرنا...
وكلّ هذه الأقوال تعود معانيها إلى ما قلت في معنى قوله: "وَقَضَيْنا" وإن كان الذي اخترنا من التأويل فيه أشبه بالصواب لإجماع القرّاء على قراءة قوله "لَتُفْسِدُنّ" بالتاء دون الياء، ولو كان معنى الكلام: وقضينا عليهم في الكتاب، لكانت القراءة بالياء أولى منها بالتاء، ولكن معناه لما كان أعلمناهم وأخبرناهم، وقلنا لهم، كانت التاء أشبه وأولى للمخاطبة...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين}...
ثم اختلف في قوله: {مرتين} قال بعضهم من أهل التأويل: إن بني إسرائيل عصوا ربهم، فسلك الله عليهم جالوت، فقتلهم وسبى ذرياتهم، وسلب أموالهم، فكانوا كذلك زمانا، ثم تابوا، ورجعوا عن ذلك، ثم بعت الله داوود، فقتل جالوت، واستنقذهم من يديه، وردهم ثم عادوا إلى ما كانوا من قبل. ثم سلط عليهم بَخْتُنُصَّرَ، ففعل بهم ما فعل جالوت... وقال بعضهم: بعث أولا بُخْتُنصَّر، ثم فلانا وفلانا... وليس لنا على معرفة ذلك حاجة سوى ما فيه من وجوه الحكمة والدلالة:
أحدهما: دلالة إثبات رسالة محمد صلى الله عليه وسلم لأنه أخبر عما كان في كتبهم من غير أن علم ما في كتبهم، واختلف إلى أحد منهم، فكان على ما أخبر. دل أنه إنما عرف ذلك بما أخبره في كتابه.
والثاني: أنه لم يهلك قوم بنفس الكفر إهلاك استئصال حتى كان منهم مع الكفر السعي في الأرض بالفساد والعناد للآيات...
{ولتعلن علوا كبيرا} قيل: لتجرؤن جراءة عظيمة، وقيل: ولتقهرن، ولتغلبن غلبة...
وقيل: العلو، هو العتو والجراءة والتكبر.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{وَقَضَيْنآ إلى بنى إسراءيل} وأوحينا إليهم وحياً مقضيا، أي مقطوعاً مبتوتاً بأنهم يفسدون في الأرض لا محالة، ويعلون، أي: يتعظمون ويبغون.
{فِي الكتاب} في التوراة، و {لَتُفْسِدُنَّ} جواب قسم محذوف. {مَّرَّتَيْنِ} أولاهما: قتل زكريا وحبس أرميا حين أنذرهم سخط الله، والآخرة: قتل يحيى بن زكريا وقصد قتل عيسى ابن مريم.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
... مقتضى هذه الآيات أن الله تعالى أعلم بني إسرائيل في التوراة أنه سيقع منهم عصيان وطغيان وكفر لنعم الله تعالى عندهم في الرسل والكتب وغير ذلك، وأنه سيرسل عليهم أمة تغلبهم وتقتلهم وتذلهم، ثم يرحمهم بعد ذلك، ويجعل لهم الكرّة ويردهم إلى حالهم الأولى من الظهور، فيقع منهم المعاصي وكفر النعم والظلم والقتل والكفر بالله من بعضهم، فيبعث الله عليهم أمة أخرى تخرب ديارهم وتقتلهم وتجليهم جلاء مبرحاً، وأعطى الوجود بعد ذلك هذا الأمر كله...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{وقضينا} أي بعظمتنا بالوحي المقطوع به، منزلين ومنهين {إلى بني إسرائيل} أي عبدنا يعقوب عليه السلام الذي كان أطوع أهل زمانه لنا {في الكتاب} الذي أوصلناه إليهم على لسان موسى عليه السلام {لتفسدن} أكد بالدلالة على القسم باللام لأنه يستبعد الإفساد مع الكتاب المرشد {في الأرض} أي المقدسة التي كأنها لشرفها هي الأرض بما يغضب الله {مرتين ولتعلن} أي بما صرتم إليه من البطر لنسيان المنعم {علواً كبيراً} بالظلم والتمرد، ولا ينتقم منكم إلا على حسب ما تقتضيه حكمتنا في الوقت الذي نريد بعد إمهال طويل؛ والقضاء: فصل الأمر على إحكام.
تيسير التفسير لاطفيش 1332 هـ :
{لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ} أرض بلاد بيت المقدس أو مطلق الأرض لشيوع فسادهم فيها...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ} أي: تقدمنا وعهدنا إليهم وأخبرناهم في كتابهم أنهم لا بد أن يقع منهم إفساد في الأرض مرتين بعمل المعاصي والبطر لنعم الله والعلو في الأرض والتكبر فيها وأنه إذا وقع واحدة منهما سلط الله عليهم الأعداء وانتقم منهم وهذا تحذير لهم وإنذار لعلهم يرجعون فيتذكرون...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وهذا القضاء إخبار من الله تعالى بما سيكون منهم، حسب ما وقع في علمه الإلهي من مآلهم؛ لا أنه قضاء قهري عليهم، تنشأ عنه أفعالهم. فالله سبحانه لا يقضي بالإفساد على أحد (قل: إن الله لا يأمر بالفحشاء) إنما يعلم الله ما سيكون علمه بما هو كائن. فما سيكون -بالقياس إلى علم الله- كائن، وإن كان بالقياس إلى علم البشر لم يكن بعد، ولم يكشف عنه الستار...
ولقد قضى الله لبني إسرائيل في الكتاب الذي آتاه لموسى أنهم سيفسدون في الأرض مرتين، وأنهم سيعلون في الأرض المقدسة ويسيطرون. وكلما ارتفعوا فاتخذوا الارتفاع وسيلة للإفساد سلط عليهم من عباده من يقهرهم ويستبيح حرماتهم ويدمرهم تدميرا:...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
عطف على جملة {وآتينا موسى الكتاب} [الإسراء: 2]، أي آتينا موسى الكتاب هُدى، وبينا لبني إسرائيل في الكتاب ما يحل بهم من جراء مخالفة هدي التوراة إعلاماً لهذه الأمة بأن الله لم يدخر أولئك إرشاداً ونصحاً، فالمناسبة ظاهرة.
والقضاء بمعنى الحكم وهو التقدير، ومعنى كونه في الكتاب أن القضاء ذكر في الكتاب، وتعدية قضينا بحرف (إلى) لتضمين قضينا معنى (أبلغنا)، أي قضينا وأنهينا، كقوله تعالى: {وقضينا إليه ذلك الأمر} في سورة [الحجر: 66]. فيجوز أن يكون المراد ب (الكتاب) كتاب التوراة والتعريف للعهد لأنه ذكر الكتاب آنفاً...
ويجوز أن يكون الكتاب بعض كتبهم الدينية...
والإفساد مرتين ذكر في كتاب أشعياء وكتاب أرمياء...
وجملة {لتفسدن في الأرض مرتين} إلى قوله {حصيرا} مبيّنة لجملة {وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب}. وأيّا مّا كان فضمائر الخطاب في هذه الجملة مانعة من أن يكون المراد بالكتاب في قوله تعالى: {وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب} اللوح المحفوظ أو كتاب الله، أي علمه.
وهذه الآية تشير إلى حوادث عظيمة بين بني إسرائيل وأعدائهم من أمتين عظيمتين: حوادث بينهم وبين البابليين، وحوادث بينهم وبين الرومانيين. فانقسمت بهذا الاعتبار إلى نوعين: نوع منهما تنْدَرج فيه حوادثهم مع البابليين، والنوع الآخر حوادثهم مع الرومانيين، فعبر عن النوعين بمرتين لأن كل مرة منهما تحتوي على عدة ملاحم.
فالمرة الأولى هي مجموع حوادث متسلسلة تسمى في التاريخ بالأسر البابلي وهي غزوات (بختنصر) مَلِك بابل وأشور بلاَد أورشليم. والغزو الأول كان سنة 606 قبل المسيح، أسَر جماعات كثيرة من اليهود ويسمى الأسر الأول. ثم غزاهم أيضاً غزواً يسمى الأسر الثاني، وهو أعظم من الأول، كان سنة 598 قبل المسيح، وأسَرَ ملكَ يهوذا وجمعاً غفيراً من الإسرائيليين وأخذ الذهب الذي في هيكل سليمان وما فيه من الآنية النفيسة.
والأسر الثالث المُبير سنة 588 قبل المسيح غزاهم « بختنصر» وسبى كل شعب يهوذا، وأحرق هيكل سليمان، وبقيت أورشليم خراباً يباباً. ثم أعادوا تعميرها كما سيأتي عند قوله تعالى: {ثم رددنا لكم الكرة} [الإسراء: 6].
وأما المرة الثانية فهي سلسلة غزوات الرومانيين بلادَ أورشليم. وسيأتي بيانها عند قوله تعالى: {فإذا جاء وعد الآخرة} [الإسراء: 6] الآية.
وإسناد الإفساد إلى ضمير بني إسرائيل مفيد أنه إفساد من جمهورهم بحيث تعد الأمة كلُّها مُفسدة وإن كانت لا تخلو من صالحين.
والعلو في قوله: {ولتعلن علوا كبيراً} مجاز في الطغيان والعصيان كقوله: {إن فرعون علا في الأرض} [القصص: 4] وقوله: {إنه كان عالياً من المسرفين} [الدخان: 31] وقوله: {ألا تعلوا علي وأتوني مسلمين} [النمل: 31] تشبيهاً للتكبر والطغيان بالعلو على الشيء لامتلاكه تشبيه معقول بمحسوس.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
قال سبحانه وتعالى مقسما: {ولتعلن علوا كبيرا} فقرن علوهم بفسادهم، وذلك لما استمكن في قلوبهم من الحسد والحقد، وإن اقتران علوهم بالفساد يفيد أمرين: الأمر الأول: أن علوهم يعقبه طغيان، والطغيان يعقبه الفساد. الأمر الثاني: أن علوهم فيه اعتداء فاجر فاعتداؤهم بقتل الأنبياء وأكلهم الربا والسحت وأن يقتل بعضهم بعضا، ويلاحظ أنه ذكر الفساد مرتين، ولم يذكر عدد العلو لأنه لا عدد له إن وجدت أسبابه...
ووصف الله تعالى علوهم بأنه يكون علوا كبيرا؛ وذلك لأنه يكون على أيدي أنبياء، وسرعان ما تعود إليهم نفوسهم الآثمة فيقتلون ما أعلاهم به الأنبياء إلى فساد وانحراف، ألم تروه بعد أن أنقذهم الله تعالى من فرعون، وأغرقه وملأه رأوا قوما يعكفون على أصنام لهم {...قالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة (138)} [الأعراف]، وعبدوا العجل في غيبة موسى وقد ذهب على موعد من ربه...
... {في الكتاب}: أي: في التوراة، كتابهم الذي نزل على نبيهم، وهم محتفظون به وليس في كتاب آخر، فالحق سبحانه قضى عليهم. أي: حكم عليهم حكماً وأعلمهم به، حيث أوحاه إلى موسى، فبلغهم به في التوراة، وأخبرهم بما سيكون منهم من ملابسات استقبال منهج الله على ألسنة الرسل، أينفذونه وينصاعون له، أم يخرجون عنه ويفسدون في الأرض؟
إذا كان رسولهم عليه السلام قد أخبرهم بما سيحدث منهم، وقد حدث منهم فعلاً ما أخبرهم به الرسول وهم مختارون، فكان عليهم أن يخجلوا من ربهم عز وجل، ولا يتمادوا في تصادمهم بمنهج الله وخروجهم عن تعاليمه، وكان عليهم أن يصدقوا رسولهم فيما أخبرهم به، وأن يطيعوا أمره.
وقوله تعالى: {لتفسدن في الأرض مرتين}: جاءت هذه العبارة هكذا مؤكدة باللام، وهذا يعني أن في الآية قسماً دل عليه جوابه، فكأن الحق سبحانه يقول: ونفسي لتفسدن في الأرض، لأن القسم لا يكون إلا بالله. أو نقول: إن المعنى: مادمنا قد قضينا وحكمنا حكماً مؤكداً لا يستطيع أحد الفكاك منه، ففي هذا معنى القسم، وتكون هذه العبارة جواباً ل "قضينا"؛ لأن القسم يجيء للتأكيد، والتأكيد حاصل في قوله تعالى: {وقضينا}.
فما هو الإفساد؟ الإفساد: أن تعمد إلى الصالح في ذاته فتخرجه عن صلاحه، فكل شيء في الكون خلقه الله تعالى لغاية، فإذا تركته ليؤدي غايته فقد أبقيته على صلاحه، وإذا أخللت به يفقد صلاحه ومهمته، والغاية التي خلقه الله من أجلها.
والحق سبحانه وتعالى قبل أن يخلقنا على هذه الأرض خلق لنا مقومات حياتنا في السماء والأرض والشمس والهواء.. الخ وليس مقومات حياتنا فحسب، بل وأعد لنا في كونه ما يمكن الإنسان بعقله وطاقته أن يزيد الصالح صلاحاً، فعلى الأقل إن لم تستطع أن تزيد الصالح صلاحاً فأبق الصالح على صلاحه...
ويقول تعالى لبني إسرائيل: {لتفسدن في الأرض مرتين}: وهل أفسد بنو إسرائيل في الأرض مرتين فقط؟
والله إن كانوا كذلك فقد خلاهم ذم، والأمر إذن هين، لكنهم أفسدوا في الأرض إفساداً كثيراً متعدداً، فلماذا قال تعالى: مرتين؟
تحدث العلماء كثيراً عن هاتين المرتين، وفي أي فترات التاريخ حدثتا، وذهبوا إلى أنهما قبل الإسلام، والمتأمل لسورة الإسراء يجدها قد ربطتهم بالإسلام، فيبدو أن المراد بالمرتين أحداث حدثت منهم في حضن الإسلام.
فالحق سبحانه وتعالى بعد أن ذكر الإسراء ذكر قصة بني إسرائيل، فدل ذلك على أن الإسلام تعدى إلى مناطق مقدساتهم، فأصبح بيت المقدس قبلة للمسلمين، ثم أسرى برسول الله صلى الله عليه وسلم إليه، وبذلك دخل في حوزة الإسلام؛ لأنه جاء مهيمناً على الأديان السابقة، وجاء للناس كافة.
إذن: كان من الأولى أن يفسروا هاتين المرتين على أنهما في حضن الإسلام؛ لأنهم أفسدوا كثيراً قبل الإسلام، ولا دخل للإسلام في إفسادهم السابق؛ لأن الحق سبحانه يقول: {وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علوا كبيرا}: فإن كان الفساد مطلقاً. أي: قبل أن يأتي الإسلام فقد تعدد فسادهم، وهل هناك أكثر من قولهم بعد أن جاوز بهم البحر فرأوا جماعة يعكفون على عبادة العجل، فقالوا لموسى عليه السلام: {اجعل لنا إلها كما لهم آلهة "138 "} (سورة الأعراف): هل هناك فساد أكثر من أن قتلوا الأنبياء الذين جعلهم الله مثلاً تكوينية وأسوة سلوكية، وحرفوا كتاب الله؟
والناظر في تحريف بني إسرائيل للتوراة يجد أنهم حرفوها من وجوه كثيرة وتحريفات متعددة، فمن التوراة ما نسوه، كما قال تعالى: {ونسوا حظا مما ذكروا به.." 13 "} (سورة المائدة): والذي لم ينسوه لم يتركوه على حاله، بل كتموا بعضه، والذي لم يكتموه لم يتركوه على حاله، بل حرفوه، كما قال تعالى: {يحرفون الكلم عن مواضعه.. "13 "} (سورة المائدة): ولم يقف الأمر بهم عند هذا النسيان والكتمان والتحريف، بل تعدى إلى أن أتوا بكلام من عند أنفسهم، وقالوا هو من عند الله، قال تعالى: {فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا.." 79 "} (سورة البقرة: فهل هناك إفساد في منهج الله أعظم من هذا الإفساد؟ ومن العلماء من يرى أن الفساد الأول ما حدث في قصة طالوت وجالوت في قوله تعالى: {ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله قال هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا.. "346 "} (سورة البقرة): فقد طلبوا القتال بأنفسهم وارتضوه وحكموا به، ومع ذلك حينما جاء القتال تنصلوا منه ولم يقاتلوا. ويرون أن الفساد الثاني قد حدث بعد أن قوت دولتهم، واتسعت رقعتها من الشمال إلى الجنوب، فأغار عليهم بختنصر وهزمهم، وفعل بهم ما فعل.
وهذه التفسيرات على أن الفسادين سابقان للإسلام، والأولى أن نقول: إنهما بعد الإسلام، وسوف نجد في هذا ربطاً لقصة بني إسرائيل بسورة الإسراء.
قالوا: لأن الإسلام حينما جاء كن يستشهد بأهل الكتاب على صدق محمد صلى الله عليه وسلم، ونفس أهل الكتاب كانوا يستفتحون به على الذين كفروا، فكان أهل الكتاب إذا جادلوا الكفار والمشركين في المدينة كانوا يقولون لهم: لقد أظل زمان نبي يأتي فتتبعه، ونقتلكم به قتل عاد وإرم.
لذلك يقول الحق سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم: إنهم ينكرون عليك أن الله يشهد ومن عنده علم الكتاب، فمن عنده علم الكتاب منهم يعرف بمجيئك، وأنك صادق، ويعرف علامتك، بدليل أن الصادقين منهم آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم.
ويقول أحدهم: لقد عرفته حين رأيته كمعرفتي لابني، ومعرفتي لمحمد أشد، لأنه قد يشك في نسبة ولده إليه، ولكنه لا يشك في شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم لما قرأه في كتبهم، وما يعلمه من أوصافه، لأنه صلى الله عليه وسلم موصوف في كتبهم، ويعرفونه كما يعرفون أبناءهم.
إذن: كانوا يستفتحون برسول الله على الذين كفروا، وكانوا مستشرقين لمجيئه، وعندهم مقدمات لبعثه صلى الله عليه وسلم. ومع ذلك: {فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به.." 89 "} (سورة البقرة): فلما كفروا به، ماذا كان موقفه صلى الله عليه وسلم بعد أن هاجر إلى المدينة؟
في المدينة أبرم رسول الله صلى الله عليه وسلم معهم معاهدة يتعايشون بموجبها، ووفى بهم رسول الله ما وفوا، فلما غدروا هم، واعتدوا على حرمات المسلمين وأعراضهم، جاس رسول الله صلى الله عليه وسلم خلال ديارهم، وقتل منهم من قتل، وأجلاهم عن المدينة إلى الشام وإلى خيبر؛ وكان هذا بأمر من الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم، فقال تعالى: {هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي الأبصار "2 "} (سورة الحشر): وهذا هو الفساد الأول الذي حدث من يهود بني النضير، وبني قينقاع، وبني قريظة، الذين خانوا العهد مع رسول الله، بعد أن كانوا يستفتحون به على الذين كفروا، ونص الآية القادمة يؤيد ما نذهب إليه من أن الإفسادين كانا بعد الإسلام.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
... إنها نبوءة المستقبل التي توحي إليهم بأنهم سينحرفون عن تعاليم الكتاب، الذي يريد لهم أن يتخذوا مفاهيمه وشريعته قاعدةً لبناء الحياة على أسسٍ ثابتةٍ لا على أسسٍ مهتزةٍ، ومنهجاً لإصلاحها لا لإفسادها، ولكنها شهوات اللحم والدم التي تبتعد بالناس عن خط التوازن في النظرة إلى الأشياء، ثم هناك انفعالات الفكرة الشوهاء التي تثير فيهم الغرور، وتدفعهم إلى العصبية، وتقودهم إلى العدوان... وهكذا عاشوا لعنة المستقبل الذي سيصنعون شروره بأيديهم، وسيسقطون في هزائمه بتصرفاتهم، وسينتظرون أن تحل بهم اللعنة مرتين، لأن الفساد الأكبر سيتكرر بهذا المستوى...