{ 12 } { وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا }
وهذه عادة المنافق عند الشدة والمحنة ، لا يثبت إيمانه ، وينظر بعقله القاصر ، إلى الحالة القاصرة{[692]} ويصدق ظنه .
ثم ذكر الله تعالى قول المنافقين والمرضى القلوب ونبه عليهم على جهة الذم لهم ، وروي عن يزيد بن رومان أن معتب بن قشير قال : يعدنا محمد أن نفتتح كنوز كسرى وقيصر ومكة ونحن الآن لا يقدر أحدنا أن يذهب إلى الغائط ما يعدنا { إلا غروراً } ، أي أمراً يغرنا ويوقعنا فيما لا طاقة لنا به ، وقال غيره من المنافقين نحو هذا فنزلت الآية فيهم ، وقولهم { الله ورسوله } إنما هو على جهة الهزء كأنه يقولون على زعم هذا الذي يدعي ، أنه رسول يدل على هذا أن من المحال أن يكون اعتقادهم أن ذلك الوعد هو من الله تعالى ومن رسوله ثم يصفونه بالغرور بل معناه على زعم هذا .
عطف على { وإذْ زاغتْ الأبصار } [ الأحزاب : 10 ] فإن ذلك كله مما ألحَق بالمسلمين ابتلاء فبعضه من حال الحرب وبعضه من أذى المنافقين ، ليحذروا المنافقين فيما يحدث من بعد ، ولئلا يخشوا كيدهم فإن الله يصرفه كما صرف أشدَّه يوم الأحزاب .
وقول المنافقين هذا يحتمل أن يكونوا قالوه عَلَناً بين المسلمين قصدوا به إدخال الشك في قلوب المؤمنين لعلهم يردونهم عن دينهم فأوهموا بقولهم { ما وَعَدَنا الله ورسوله } الخ . . . أنهم ممن يؤمن بالله ورسوله ، فنسبة الغرور إلى الله ورسوله إما على معنى التشبيه البليغ وإما لأنهم بجهلهم يجوزون على الله أن يغرّ عباده ، ويحتمل أنهم قالوا ذلك بين أهل ملتهم فيكون نسبْة الوعد إلى الله ورسوله تهكماً كقول فرعون { إنّ رسولكم الذي أُرْسِل إليكم لمجنون } [ الشعراء : 27 ] .
والغرور : ظهور الشيء المكروه في صورة المحبوب ، وقد تقدم عند قوله تعالى : { لا يغرنّك تقلُّبُ الذين كفروا في البلاد } في سورة آل عمران ( 196 ) ، وقوله تعالى : { زُخْرف القول غروراً } في سورة الأنعام ( 112 ) . والمعنى : أن الله وعدهم النصر فكان الأمر هزيمة وهم يعنون الوعد العام وإلاَّ فإن وقعة الخندق جاءت بغتة ولم يُرْوَ أنهم وُعدوا فيها بنصر . والذين في قلوبهم مرض } هم الذين كانوا مترددين بين الإيمان والكفر فأخلصوا يومئذ النفاق وصمّمُوا عليه .
والمراد بالطائفة الذين قالوا : { يا أهل يثرب لا مقامَ لكم فارجعوا } عبدُ الله بن أبيِّ ابنُ سَلول وأصحابُه . كذا قال السدي . وقال الأكثر : هو أوس بن قَيظي أحدُ بني حارثة ، وهو والد عَرابة بن أوس الممدوح بقول الشمّاخ :
رأيت عرابةَ الأوْسيَّ يسمو *** إلى الخيرات منقطع القرين
في جماعة من منافقي قومه . والظاهر هو ما قاله السُدّي لأن عبد الله بن أبَيّ رأس المنافقين ، فهو الذي يدعو أهل يثرب كلّهم .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"وَإذْ يقُولُ المُنافِقونَ وَالّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ": شَكّ في الإيمان، وضعف في اعتقادهم إياه: "ما وعدنا الله ورسوله إلاّ غُرورا"... عن قتادة، قوله "وَإذْ يَقولُ المُنافِقُونَ وَالّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنا اللّهُ وَرَسُولُهُ إلاّ غُرُورا "قال: قال ذلك أُناس من المنافقين: قد كان محمد يعدُنا فتح فارس والروم، وقد حُصِرنا هاهنا، حتى ما يستطيع أحدُنا أن يبرُز لحاجته...
حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا محمد بن خالد بن عَثْمة، قال: حدثنا كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المُزَنيّ، قال: ثني أبي، عن أبيه، قال: خطّ رسول الله صلى الله عليه وسلم الخندق عام ذُكِرت الأحزاب، من أحمر الشيخين، طرف بني حارثة، حتى بلغ المَذَاد، ثم جعل أربعين ذراعا بين كلّ عشرة، فاختلف المهاجرون والأنصار في سَلْمان الفارسيّ، وكان رجلاً قويّا، فقال الأنصار: سَلْمان منا، وقال المهاجرون: سلمان منا، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «سَلْمانُ مِنّا أهْلَ البَيْتِ». قال عمرو بن عوف: فكنت أنا وسَلْمانُ وحُذَيفةُ بن اليمان والنّعمانُ بن مُقَرّن المُزَنيّ، وستةٌ من الأنصار، في أربعين ذراعا، فحفَرنا تحت دوبار حتى بلغنا الصّرَى، أخرج الله من بطن الخندق صخرة بيضاء مروة، فكسرت حديدنا، وشَقّت علينا، فقلنا: يا سلمان، ارْقَ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره خبر هذه الصخرة، فإما أن نعدل عنها، فإن المعدل قريب، وإما أن يأمرنا فيها بأمره، فإنا لا نحبّ أن نجاوز خَطّه. فرقي سَلمان حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ضارب عليه قُبةً تركية، فقال: يا رسول الله بأبينا أنت وأمنا، خرجت صخرة بيضاء من بطن الخندق، مَرْوَة، فكسرت حديدنا، وشقّت علينا، حتى ما يجيء منها قليل ولا كثير، فمرنا فيها بأمرك، فإنا لا نحبّ أن نجاوز خَطّك، فهبط رسول الله صلى الله عليه وسلم مع سلمان في الخندق، ورَقِينا نحن التسعة على شَفَة الخندق، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم المِعْول من سَلمان، فضرب الصخرة ضربة صَدَعها، وبَرَقت منها بَرْقة أضاءت ما بين لابتيها، يعني: لابتي المدينة، حتى لكأن مصباحا في جوف بيت مظلم، فكّبر رسول الله صلى الله عليه وسلم تكبير فتح، وكبر المسلمون. ثم ضربها رسول الله صلى الله عليه وسلم الثانية، فصَدَعها وبَرَقت منها بَرْقة أضاءت ما بين لابتيها، حتى لكأن مصباحا في جوف بيت مظلم، فكبّر رسول الله صلى الله عليه وسلم تكبير فتح، وكبر المسلمون، ثم ضربها رسول الله صلى الله عليه وسلم الثالثة، فكسرها، وبَرَقَت منها بَرْقة أضاءت ما بين لابتيها، حتى لكأن مصباحا في جوف بيت مظلم، فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم تكبير فتح، ثم أخذ بيد سَلْمانَ فَرِقي، فقال سلمان: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لقد رأيت شيئا ما رأيته قطّ، فالتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى القوم، فقال: «هَلْ رأيْتُمْ ما يقُولُ سَلْمانُ؟» قَالُوا: نعم يا رسول الله، بأبينا أنت وأمنا وقد رأيناك تضرب، فيخرج بَرْق كالموجِ، فرأيناك تكبّر فنكبر، ولا نرى شيئا غير ذلك، قال: «صَدَقْتُمْ ضَرَبْتُ ضَرْبَتِي الأُولى، فبَرَقَ الّذِي رأيتُمْ، أضَاءَ لي مِنْهُ قُصُورُ الْحِيرَةِ وَمَدَائِنُ كسْرَى، كأنّها أنْيابُ الكِلابِ، فأخْبَرَنِي جَبْرَائِيلُ عَلَيْهِ السّلامُ أنّ أُمّتِي ظاهِرَةٌ عَلَيْها، ثُمّ ضَرَبْتُ ضَرْبَتِي الثّانِيَةَ، فبَرَقَ الّذِي رأيْتُمْ، أضَاءَ لي مِنْهُ قُصُورُ الحُمْرِ مِنْ أرْضِ الرّومِ، كأنّها أنْيابُ الكِلابِ، وأخْبَرَنِي جَبْرائِيلُ عَلَيْهِ السّلامُ أنّ أُمّتِي ظاهِرَةٌ عَلَيْها، ثُمّ ضَرَبْتُ ضَرْبَتِي الثّالِثَةَ، وَبَرَقَ مِنْها الّذِي رأيْتُمْ، أضَاءَتْ لي مِنْها قُصُورُ صَنْعاءَ، كأنّها أنْيابُ الكِلابِ، وأخْبَرَنِي جَبْرَائِيلُ عَلَيْهِ السّلامُ أنّ أُمّتِي ظاهِرَةٌ عَلَيْها، فأَبْشِرُوا، يُبَلّغْهُمُ النصْرُ، وأبْشِرُوا، يُبَلّغُهُمُ النّصْرُ، وأبْشِرُوا يُبَلّغُهُمُ النّصْرُ». فاستبشر المسلمون، وقالوا: الحمد لله موعود صدق، بأن وعَدَنا النصر بعد الحَصْر، فطَبّقت الأحزاب، فقال المسلمون "هَذا ما وَعَدَنا اللّهُ وَرَسولُهُ... "الآية، وقال المنافقون: ألا تعجبون.؟ يُحَدّثكم ويمنيكم ويَعِدكم الباطل، يُخْبركم أنه يبصر من يثربَ قصور الحِيرة ومدائن كسرى، وأنها تفتُح لكم، وأنتم تحفرون الخندق من الفَرَق، ولا تستطيعون أن تَبْرزُوا؟ وأُنزل القرآن: "وَإذْ يَقُولُ المُنافِقُونَ وَالّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنا اللّهُ وَرَسُولُهُ إلاّ غُرُورا".
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
فيه وجهان: أحدهما: أن المرض النفاق، قاله قتادة. الثاني: أنه الشرك، قاله الحسن.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
قال العتابي: ليس عاقل يقول: إن الله وعد غرورا، لكنهم لما كذبوا رسوله وشكوا في خبره، فكأنهم كذبوا الله، وإذا نسبوا الرسول بأنه غرهم، فقد نسبوا الله إلى ذلك في المعنى، وإن لم يصرحوا به.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
صَرَّحوا بالتكذيب -لما انطوت عليه قلوبُهم- حين وجدوا للمقال مجالاً.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
ثم ذكر الله تعالى قول المنافقين والمرضى القلوب ونبه عليهم على جهة الذم لهم، وروي عن يزيد بن رومان أن معتب بن قشير قال: يعدنا محمد أن نفتتح كنوز كسرى وقيصر ومكة ونحن الآن لا يقدر أحدنا أن يذهب إلى الغائط ما يعدنا {إلا غروراً}، أي أمراً يغرنا ويوقعنا فيما لا طاقة لنا به، وقال غيره من المنافقين نحو هذا فنزلت الآية فيهم.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما علم بهذا أن الحال المزلزل لهم كان في غاية الهول، أشار إلى أنهم لم يزلزلهم بأن حكى أقوال المزلزلين، ولم يذكر أقوالهم وسيذكرها بعد ليكون الثناء عليهم بالثبات مع عظيم الزلزال مذكوراً مرتين إشارة وعبارة، فقال: {وإذ} وأشار إلى تكريرهم لدليل النفاق بالمضارع فقال: {يقول} أي مرة بعد أخرى {المنافقون} أي الراسخون في النفاق، لأن قلوبهم مريضة ملأى مرضاً {والذين في قلوبهم مرض} أي من أمراض الاعتقاد بحيث أضعفها في الاعتقاد والثبات في مواطن اللقاء وفي كل معنى جليل، فهم بحيث لم يصلوا إلى الجزم بالنفاق ولا الإخلاص في الإيمان، بل هم على حرف فعندهم نوع النفاق...
ولما كان المكذب لهم بتصديق وعد الله -ولله الحمد- كثيراً، أكدوا قولهم وذكروا الاسم الأعظم وأضافوا الرسول إليه فقالوا: {ما وعدنا الله} الذي ذكر لنا أنه محيط الجلال والجمال {ورسوله} أي الذي قال من قال من قومنا: إنه رسول، استهزاء منهم، وإقامة للدليل في زعمهم لهذا البلاء على بطلان تلك الدعوى {إلا غرورا} أي باطلاً استدرجنا به إلى الانسلاخ عما كنا عليه من دين آبائنا وإلى الثبات على ما صرنا إليه بعد ذلك الانسلاخ بما وعدنا به من ظهور هذا الدين على الدين كله، والتمكين في البلاد حتى في حفر الخندق، فإنه قال: إنه أبصر بما برق له في ضربه لصخرة سلمان مدينة صنعاء من اليمن وقصور وكسرى بالحيرة من أرض فارس، وقصور الشام من أرض الروم، وإن تابعيه سيظهرون على ذلك كله وقد صدق الله وعده في جميع ذلك حتى في لبس سراقة بن مالك ابن جعشم سوارى كسرى بن هرمز كما هو مذكور مستوفى في دلائل النبوة للبيهقي، وكذبوا في شكهم.
ففاز المصدقون، وخاب الذين هم في ريبهم يترددون.
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :
{والذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} ظاهر العطف أنهم قوم لم يكونوا منافقين فقيل: هم قوم كان المنافقون يستميلونهم بإدخال الشبهة عليهم، وقيل: قوم كانوا ضعفاء الاعتقاد لقرب عهدهم بالإسلام. وجوز أن يكون المراد بهم المنافقين أنفسهم والعطف لتغاير الوصف.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
وهذه عادة المنافق عند الشدة والمحنة، لا يثبت إيمانه، وينظر بعقله القاصر، إلى الحالة القاصرة ويصدق ظنه.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
فقد وجد هؤلاء في الكرب المزلزل، والشدة الآخذة بالخناق فرصة للكشف عن خبيئة نفوسهم وهم آمنون من أن يلومهم أحد؛ وفرصة للتوهين والتخذيل وبث الشك والريبة في وعد الله ووعد رسوله، وهم مطمئنون أن يأخذهم أحد بما يقولون؛ فالواقع بظاهره يصدقهم في التوهين والتشكيك، وهم مع هذا منطقيون مع أنفسهم ومشاعرهم؛ فالهول قد أزاح عنهم ذلك الستار الرقيق من التجمل، وروع نفوسهم ترويعا لا يثبت له إيمانهم المهلهل! فجهروا بحقيقة ما يشعرون غير مبقين ولا متجملين! ومثل هؤلاء المنافقين والمرجفين قائمون في كل جماعة؛ وموقفهم في الشدة هو موقف إخوانهم هؤلاء، فهم نموذج مكرر في الأجيال والجماعات على مدار الزمان!
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وقول المنافقين هذا يحتمل أن يكونوا قالوه عَلَناً بين المسلمين قصدوا به إدخال الشك في قلوب المؤمنين لعلهم يردونهم عن دينهم فأوهموا بقولهم {ما وَعَدَنا الله ورسوله} الخ... أنهم ممن يؤمن بالله ورسوله، فنسبة الغرور إلى الله ورسوله إما على معنى التشبيه البليغ، وإما لأنهم بجهلهم يجوزون على الله أن يغرّ عباده، ويحتمل أنهم قالوا ذلك بين أهل ملتهم فيكون نسبْة الوعد إلى الله ورسوله تهكماً كقول فرعون {إنّ رسولكم الذي أُرْسِل إليكم لمجنون} [الشعراء: 27].