وقوله تعالى : { ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ } أي : هذا الجزاء بسبب ما عملتم من الأعمال السيئة في حياتكم الدنيا ، جازاكم الله بها هذا الجزاء ، { وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ } أي : لا يظلم أحدا من خلقه ، بل هو الحكم العدل ، الذي لا يجور ، تبارك وتعالى وتقدس وتنزه الغني الحميد ؛ ولهذا جاء في الحديث الصحيح عند مسلم ، رحمه الله ، من رواية أبي ذر ، رضي الله عنه ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله تعالى يقول : يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي ، وجعلته بينكم محرمًا فلا تظالموا . يا عبادي ، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ، فمن وجد خيرًا فليحمد الله ، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه " {[13088]} ولهذا قال تعالى : { كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ }
{ ذلك } الضرب والعذاب . { بما قدّمت أيديكم } بسبب ما كسبتم من الكفر والمعاصي وهو خبر لذلك . { وأن الله ليس بظلام للعبيد } عطف على " ما " للدلالة على أن سببيته بانضمامه إليه إذ لولاه لأمكن أن يعذبهم بغير ذنوبهم لا أن لا يعذبهم بذنوبهم . فإن ترك التعذيب من مستحقه ليس بظلم شرعا ولا عقلا حتى ينتهض نفي الظلم سببا للتعذيب وظلام التكثير لأجل العبيد .
وقوله تعالى : { ذلك بما قدمت أيديكم } يحتمل أن يكون من قول الملائكة في وقت توفيتهم لهم على الصورة المذكورة ، ويحتمل أن يكون كلاماً مستأنفاً تقريعاً من الله عز وجل للكافرين حيهم وميتهم ، { وأن } يصح أن تكون في موضع رفع على تقدير والحكم أن ، ويصح أن تكون في موضع خفض عطفاً على ما في قوله { بما قدمت } ، وقال مكي والزهراوي : ويصح أن تكون في موضع نصب بإسقاط الباء تقديره «وبأن » ، فلما حذفت الباء حصلت في موضع نصب .
قال القاضي أبو محمد : وهذا غير متجه ولا بيّن إلا أن تنصب بإضمار فعل .
اسم الإشارة { ذلك بما قدمت أيديكم } إلى ما يشاهدونه من العذاب ، وجيء بإشارة البعيد لتعظيم ما يشاهدونه من الأهوال .
والجملة مستأنفة لقصد التنكيل والتشفّي . والباء للسببية ، وهي ، مع المجرور ، خبر عن اسم الإشارة .
و« ما » في قوله : { بما قدمت أيديكم } موصولة ، ومعنى { قدمت أيديكم } أسلفته من الأعمال فيما مضى ، أي من الشرك وفروعه من الفواحش .
وذكر الأيدي استعارة مكنية بتشبيه الأعمال التي اقترفوها ، وهي ما صدقُ { ما قدمت } بما يجتنيه المجتني من الثمر ، أو يقبضه البائع من الأثمان ، تشبيه المعقول بالمحسوس ، وذكر رديف المشبه وهو الأيدي التي هي آلة الاكتساب ، أي : بما قدّمته أيديكم لكم .
وقوله : { وأن الله ليس بظالم للعبيد } عطف على { ما قدمت أيديكم } والتقدير : وبأنّ الله ليس بظلام للعبيد ، وهذا علّة ثانية لإيقاع تلك العقوبة عليهم ، فالعلة الأولى ، المفادة من باء السببية تعليل لإيقاع العقاب . والعلّة الثانية ، المفادة من العطف على الباء ومجرورها ، تعليل لصفة العذاب ؛ أي هو عذاب معادل لأعمالهم ، فمورد العلّتين شيء واحد لكن باختلاف الاعتبار .
ونفي الظلم عن الله تعالى كناية عن عدله ، وأنّ الجزاء الأليم كَانَ كِفاء للعمل المجازَى عنه دون إفراط .
وجعل صاحب « الكشّاف » التعليلين لشيء واحد ، وهو ذلك العذاب ، فجعلهما سببين لكفرهم ومعاصيهم ، وأنّ التعذيب من العَدل مثل الإثابة ، وهو بعيد ، لأنّ ترك الله المؤاخذة على الاعتداء على حقوقه إذا شاء ذلك ، ليس بظلم ، والموضوع هو العقاب على الإشراك والفواحش ، وأمّا الاعتداء على حقوق الناس فترك المؤاخذة به على تسليم أنّه ليس بعدل ، وقد يعوض المعتدى عليه بترضية من الله ، فلذلك كان ما في « الكشّاف » غير خال عن تعسف حمله عليه الإسراع لنصرة مذهب الاعتزال من استحالة العفو عن العصاة ، لأنّه مناف للعدل أو للحكمة .
ونفي ظَلاَّم بصيغة المبالغة لا يفيد إثبات ظلم غير قوي ؛ لأنّ الصيغ لا مفاهيم لها ، وجرت عادة العلماء أن يجيبوا بأنّ المبالغة منصرفة إلى النفي كما جاء ذلك كثيراً في مثل هذا ، ويزاد هنا الجواب باحتمال أنّ الكثرة باعتبار تعلّق الظلم المنفي ، لو قدر ثبوته ، بالعبيد الكثيرين ، فعبّر بالمبالغة عن كثرة إعداد الظلم باعتبار تعدّد أفراد معموله .
والتعريف باللام في { العبيد } عوض عن المضاف إليه ، أي : لعبيدِهِ كقوله : { فإن الجنة هي المأوى } [ النازعات : 41 ] ويجوز أن يكون { العبيد } أطلق على ما يرادف الناس كما أطلق العباد في قوله تعالى : { يا حسرة على العباد } في سورة [ يس : 30 ] .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.