اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{ذَٰلِكَ بِمَا قَدَّمَتۡ أَيۡدِيكُمۡ وَأَنَّ ٱللَّهَ لَيۡسَ بِظَلَّـٰمٖ لِّلۡعَبِيدِ} (51)

قوله : { ذلك بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ } .

أي : ذلك الضرب الذي وقع بكم ، أو عذاب الحريق : { بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ } بما كسبت أيديكم وهذا إخبار عن قول الملائكة - عليهم السلام - .

قال الواحديُّ : " يجوز أن يقال " ذلك " مبتدأ ، وخبره { بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ } ويجوز أن يكون خبره محذوفاً ، والتقدير : ذلك جزاؤكم بما قدمت أيديكم ، ويجوزُ أن يكون محل " ذلك " نَصْباً والتقدير : فعلنا ذلك بما قدمت أيديكم " .

فصل

فإن قيل : قوله { ذلك بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ } يقتضي أنَّ فاعل هذا الفعل هو اليد ، وذلك ممتنع لوجوه ، أولها : أنَّ هذا العذاب إنما وصل إليهم بسبب كفرهم ، ومحل الكفر هو القلب لا اليد وثانيها : أن اليد ليست محلاًّ للمعرفة والعلم ، فلا يتوجَّه التكليف عليها ، فلا يمكن إيصال العذاب إليها .

فالجوابُ : أن اليد ههنا عبارة عن القدرة وحسن هذا المجاز كون اليد آلة العمل ، والقدرة هي المؤثرة في العمل ، فحسن جعل اليد كناية عن القدرة .

واعْلَمْ أن الإنسان جوهر واحد ، وهو الفعال ، وهو الدراك ، وهو المؤمن ، وهو الكافر وهو المطيعُ ، وهو العاصي ، وهذه الأعضاء آلات لهُ ، وأدوات له في الفعل ؛ فأضيف الفعل في الظَّاهر إلى الآله ، وهو في الحقيقة مضاف إلى جوهر ذاتِ الإنسان .

فإن قيل : إنَّه جعل هذا العقاب ، إنَّما تولَّد من الفعل الذي صدر عنه ، والعقاب إنما يتولَّد من العقائد الباطلة .

فالجوابُ : أنَّا بيَّنا أنَّ الفعل إنما ينشأ عن الاعتقاد ، فأطلق على المسبب اسم السَّببِ وهذا من أشهر وجوه المجاز .

قوله : { وَأَنَّ الله لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ } .

في محل " أنَّ " وجهان :

أحدهما : النصبُ بنزع الخافض يعني : بأنَّ اللَّهَ .

والثاني : أنَّكَ إن جعلت قوله : " ذلك " في موضع رفع ، جعلت " أنَّ " في موضع رفع أيضاً ، أي : وذلك أنَّ الله .

قال الكسائيُّ : " ولو كسرت ألف " أنَّ " على الابتداء كان صواباً ، وعلى هذا التقدير يكون كلاماً مبتدأ منقطعاً عمَّا قبله " .

فصل

قالت المعتزلةُ{[17415]} : لو كان اللَّه تعالى يخلق الكفر في الكافر ، ثم يعذبه عليه لكان ظالماً ، وأيضاً قوله تعالى : { ذلك بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ الله لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ } يدلُّ على أنه تعالى إنَّما لم يكن ظالماً بهذا العذاب ؛ لأنَ العبد قدَّم ما استوجب عليه هذا العذاب ، وذلك يدلُّ على أنَّهُ لو لم يصدر منه تعالى ذلك التقديم لكان ظالماً في هذا العذاب ، وأيضاً : لو كان موجد الكفر والمعصية هو الله لا العبد لوجب كون الله ظالماً ، وهذه المسألة قد سبق ذكرها مُسْتَقْصَاةً في آل عمران .


[17415]:ينظر: تفسير الفخر الرازي 15/143.