وقوله : { لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ } أي : ليس لوقوعها إذا أراد الله كونها صارف يصرفها ، ولا دافع يدفعها ، كما قال : { اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ } [ الشورى : 47 ] ، وقال : { سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ . لِلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ } [ المعارج : 1 ، 2 ] ، وقال تعالى : { وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ } [ الأنعام : 73 ] .
ومعنى { كَاذِبَة } - كما قال محمد بن كعب - : لا بد أن تكون . وقال قتادة : ليس فيها مثنوية ولا ارتداد ولا رجعة .
وقوله : لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ يقول تعالى : ليس لوقعة الواقعة تكذيب ولا مردودية ولا مثنوية ، والكاذبة في هذا الموضع مصدر ، مثل العاقبة والعافية . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ : أي ليس لها مثنوية ، ولا رجعة ، ولا ارتداد .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله : لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ قال : مثنوية .
و : { كاذبة } يحتمل أن يكون مصدراً كالعاقبة والعافية وخائنة الأعين . فالمعنى ليس لها تكذيب ولا رد ولا مثنوية{[10874]} ، وهذا قول قتادة والحسن ويحتمل أن يكون صفة لمقدر ، كأنه قال : { ليس لوقعتها } حال { كاذبة } ، ويحتمل الكلام على هذا معنيين : أحدهما { كاذبة } ، أي مكذوب فيما أخبر به عنها فسماها { كاذبة } بهذا ، كما تقول هذه قصة كاذبة أي مكذوب فيها ، والثاني حالة كاذبة أي لا يمضي وقوعها ، كما تقول : فلان إذا حمل لم يكذب .
وجملة { ليس لوقعتها كاذبة } استئناف بياني ناشىء عن قوله : { إذا وقعت الواقعة } إلخ وهو اعتراض بين جملى { إذا وقعت الواقعة } وبين جملة { فأصحاب الميمنة } [ الواقعة : 8 ] الخ .
والجواب قوله : { فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة وأصحاب المشئمة ما أصحاب المشئمة } [ الواقعة : 8 ، 9 ] ، فيفد جواباً للشرط ويفيد تفصيل جملة { وكنتم أزواجاً ثلاثة } [ الواقعة : 7 ] ، وتكون الفاء مستعملة في معنيين : ربطِ الجواب ، والتفريع ، وتكون جملة { ليس لوقعتها كاذبة } وما بعده اعتراضاً .
والواقعة أصلها : الحادثة التي وقعت ، أي حصلت ، يقال : وقع أمر ، أي حصل كما يقال : صِدْق الخبرِ مطابقتُه للواقع ، أي كون المعنى المفهوم منه موافقاً لمسمى ذلك المعنى في الوجود الحاصل أو المتوقع على حسب ذلك المعنى ، ومن ذلك حادثة الحرب يقال : واقعة ذي قار ، وواقعة القادسية .
فراعوا في تأنيثها معنى الحادث أو الكائنة أو الساعة ، وهو تأنيث كثير في اللغة جار على ألسنة العرب لا يكونون راعوا فيه إلا معنى الحادثة أو الساعة أو نحو ذلك ، وقريب منه قولهم : دارت عليه الدائرة ، قال تعالى : { يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة } [ المائدة : 52 ] وقال : { عليهم دائرةُ السَّوْء } [ التوبة : 98 ] .
والمراد بالواقعة هنا القيامة فجعل هذا الوصف علماً لها بالغلبة في اصطلاح القرآن قال تعالى : { فيومئذٍ وقعت الواقعة } [ الحاقة : 15 ] كما سميت الصاخّة والطامّة والآزفة ، أي الساعة الواقعة . وبهذا الاعتبار صار في قوله : { إذا وقعت الواقعة } محسن التجنيس .
و { الواقعة } : الموصوفةُ بالوقوع ، وهو الحدوث .
و { كاذبة } يجوز أن يكون اسم فاعل من كذب المجرد ، جرى على التأنيث للدلالة على أنه وصف لمحذوف مؤنث اللفظ . وتقديره هنا نفس ، أي تنتفي كل نفس كاذبة ، فيجوز أن يكون من كَذَب اللازم إذا قال خلاف ما في نفس الأمر وذلك أن منكري القيامة يقولون : لا تقع القيامة فيكذبون في ذلك فإذا وقعت آمنت النفوس كلها بوقوعها فلم تبق نفس تكذب ، أي في شأنها أو في الإِخبار عنها . وذلك التقدير كله مما يدل عليه المقام .
ويجوز أن يكون من كذَب المتعدي مثل الذي في قولهم كذبتْ فلاناً نفسه ، أي حدثتْه نفسه ، أيْ رَأيه بحديث كذب وذلك أن اعتقاد المنكر للبعث اعتقاد سوَّله له عقله القاصر فكأنَّ نفسه حدثته حديثاً كذَبته به ، ويقولون : كذبتْ فلاناً نفسه في الخطب العظيم ، إذا أقْدم عليه فأخفق كأنَّ نفسه لما شجعته على اقتحامه قد قالت له : إنك تطيقه فتعرَّضْ له ولا تبال به فإنك مُذَلِّلُه فإذا تبين له عجزه فكأنَّ نفسه أخبرته بما لا يكون فقد كذبته ، كما يقال : كذبته عينه إذا تخيّل مرئياً ولم يكن .
والمعنى : إذا وقعت القيامة تحقق منكروها ذلك فأقلعوا عن اعتقادهم أنها لا تقع وعلموا أنهم ضلّوا في استدلالهم وهذا وعيد بتحذير المنكرين للقيامة من خزي الخيبة وسفاهة الرأي بين أهل الحشر .
وإطلاق وصف الكذب في جميع هذا استعارة بتشبيه السبب للفعل غير المثمر بالمخبر بحديث كذب أو تشبيه التسبب بالقول قال أبو علي الفارسي : الكذب ضرب من القول فكما جاز أن يتسع في القول في غير نطق نحو قول أبي النجم :
قد قالت الأنساع للبطن الحق{[409]}
جاز في الكذب أن يجعل في غير نطق نحو :
بأَنْ كذَبَ القراطف والقروف{[410]}
واللام في { لوقعتها } لام التوقيت نحو { أقم الصلاة لدلوك الشمس } [ الإسراء : 78 ] وقوله تعالى : { فطلقوهن لعدتهن } [ الطلاق : 1 ] . وقولهم : كتبتُه لكذا من شهر كذا ، وهي بمعنى ( عند ) وأصلها لام الاختصاص شاع استعمالها في اختصاص الموقَّت بوقته كقوله تعالى : { ولما جاء موسى لميقاتنا } [ الأعراف : 143 ] . وهو توسع في معنى الاختصاص بحيث تنوسي أصل المعنى . وفي الحديث سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم « أي الأعمال أفضل فقال : الصلاة لوقتها » . وهذا الاستعمال غير الاستعمال الذي في قوله تعالى : { ليس لهم طعام إلا من ضريع } [ الغاشية : 6 ] .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ليس لوقعتها} يعني ليس لصيحتها {كاذبة} أنها كائنة ليس لها مشورة ولا ارتداد...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ "يقول تعالى: ليس لوقعة الواقعة تكذيب ولا مردودية ولا مثنوية...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
أي هي حق، ليست بكذب. وقال بعضهم: أي لا يكذب بها أحد إذا وقعت، ليست كالآيات التي عاينوها في الدنيا مع ما عرفوا أنها آيات كذبوها...يقول تعالى: إذا عاينوا القيامة، يقرون بها، ويصدقونها، ولا يكذبون بها... ويحتمل أن يكون: {ليس لوقعتها كاذبة} أي ليست الأنباء والأخبار التي جاءت على وقوعها وقيامها كاذبة، بل هي صادقة.
جهود الإمام الغزالي في التفسير 505 هـ :
أي جف القلم بما هو كائن، وتمت السابقة حتى نزلت الواقعة: إما خافضة قوما كانوا مرفوعين في الدنيا، وإما رافعة قوما كانوا مخفوضين في الدنيا. (الإحياء: 4/178)...
{ليس لوقعتها} إشارة إلى أنها تقع دفعة واحدة فالوقعة للمرة الواحدة.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
{لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ} أي: ليس لوقوعها إذا أراد الله كونها صارف يصرفها، ولا دافع يدفعها...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{ليس لوقعتها} أي تحقق وجودها {كاذبة} أي كذب فهي مصدر عبر عنه باسم الفاعل للمبالغة بأنه ليس في أحوالها شيء يمكن أن ينسب إليه كذب ولا يمشي فيها كذب أصلاً ولا يقر عليه، بل كل ما أخبر بمجيئه جاء من غير أن يرده شيء، وكل ما أخبر بنفيه انتفى فلا يأتي به شيء،...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
هذا الأسلوب الخاص يتناسب مع الصورة المروعة المفزعة التي يرسمها هذا المطلع بذاته. فالواقعة بمعناها وبجرس اللفظ ذاته -بما فيه من مد ثم سكون- تلقى في الحس كأنما هي ثقل ضخم ينقض من عل ثم يستقر، لغير ما زحزحة بعد ذلك ولا زوال! (ليس لوقعتها كاذبة)...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والواقعة أصلها: الحادثة التي وقعت، أي حصلت، يقال: وقع أمر، أي حصل كما يقال: صِدْق الخبرِ مطابقتُه للواقع، أي كون المعنى المفهوم منه موافقاً لمسمى ذلك المعنى في الوجود الحاصل أو المتوقع على حسب ذلك المعنى، ومن ذلك حادثة الحرب يقال: واقعة ذي قار، وواقعة القادسية. فراعوا في تأنيثها معنى الحادث أو الكائنة أو الساعة...وقريب منه قولهم: دارت عليه الدائرة، قال تعالى: {يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة} [المائدة: 52] وقال: {عليهم دائرةُ السَّوْء} [التوبة: 98]. و {كاذبة} يجوز أن يكون اسم فاعل من كذب المجرد، جرى على التأنيث للدلالة على أنه وصف لمحذوف مؤنث اللفظ. وتقديره هنا نفس، أي تنتفي كل نفس كاذبة.