{ قَالَ } إبليس معارضا لربه ومناقضا : { أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ } وبزعمه أن عنصر النار خير من عنصر الطين ، وهذا من القياس الفاسد ، فإن عنصر النار مادة الشر والفساد ، والعلو والطيش والخفة وعنصر الطين مادة الرزانة والتواضع وإخراج أنواع الأشجار والنباتات وهو يغلب النار ويطفئها ، والنار تحتاج إلى مادة تقوم بها ، والطين قائم بنفسه ، فهذا قياس شيخ القوم ، الذي عارض به الأمر الشفاهي من اللّه ، قد تبين غاية بطلانه وفساده ، فما بالك بأقيسة التلاميذ الذين عارضوا الحق بأقيستهم ؟ فإنها كلها أعظم بطلانا وفسادا من هذا القياس .
قال : { أنَا خيرٌ منه } قولٌ من الشيطان حكي على طريقة المحاورات . وجملة { خلقتني من نارٍ وخلقته من طِينٍ } بيان لجملة { أنا خيرٌ منه } . وقد جعل إبليس عذره مبْنياً على تأصيل أن النار خير من الطين ولم يرد في القرآن أن الله رد عليه هذا التأصيل لأنه أحقر من ذلك فلعنه وأطرده لأنه ادعى باطلاً وعصى ربّه استكباراً : وطَرْدُه أجمع لإِبطال علمه ودحض دليله ، غير أن النور الذي في النار نور عارض قائم بالأجسام الملْتهبة التي تسمّى ناراً ، وليس للنار قيام بنفسها ولذلك لم تَعْدُ أن يكون كيانها مخلوطاً بما يُلهبها .
ومعنى كون الشيطان مخلوقاً من النار أَنَّ ابتداء تكوّن الذَّرة الأصلية لقوام ماهيته من عنصر النار ، ثم تمتزج تلك الذرة بعناصر أخرى مثل الهواء وما الله أعلم به . ومعنى كون آدم مخلوقاً من الطين أن ابتداء تكوّن ذَرات جثمانه من عنصر التراب وأدخل على تلك الذرات ما امتزجت به عناصر الهواء والماء والنار وما يتولد على ذلك التركيب من عناصر كيماوية وقوة كهربائية تتقوم بمجموعها ماهية الإِنسان .
وتكون { من } في الموضعين ابتدائية لا تبعيضية .
وقد جزم الفلاسفة الأولون والأطباء بأن عنصر النار أشرف من عنصر التراب ويعبر عنه بالأرض لأن النار لطيفة مضيئة اللون والتراب كثيف مظلم اللون .
وقال الشيرازي في « شرح كليات القانون » : إن النار وإن ترَجحت على الأرض بما ذكر فالأرض راجحة عليها بأنها خير للحيوان والنبات ، وغيرُ مفسدة ببردها ، بخلاف النار فإنها مفسدة بحرّها لكونه في الغاية إلى غير ذلك .
والحق : أن أفضليّة العناصر لا تقتضي أفضلية الكائنات المنشأَة منها لأن العناصر أجرام بسيطة لا تتكون المخلوقات من مجردها بل المخلوقات تتكون بالتركيب بين العناصر ، والأجسامُ الإِنسانية مركبة من العناصر كلّها . والروح الآدمي لطيفة نورانية تفوَّق بها الإِنسان على جميع المركبات بأن كان فيه جزء ملَكي شارك به الملائكة ، ولذلك طلب منه خالقه تعالى وتقدّس أن يلحق نفسه بالملائكة فتحقق ذلك الالتحاق كاملاً في الأنبياء والمرسلين ومن أجل ذلك قلنا : إن الأنبياء والرسل أفضل من الملائكة لاستواء الفريقين في تمحض النورانية وتميُّز فريق الأنبياء بأنهم لَحقوا تلك المراتب بالاصطفاء والطاعة ، فليس لإِبليس دليل في التفضيل على آدم وإنما عرضت له شبهة ضالة ولذلك جوزي على إبائه من السجود إليه بالطرد من الملأِ الأعلى .
وإنما بسطنا القول هنا لردّ شبه طائفة من الملاحدة الذين يصوبون شبهة إبليس طعناً في الدين لا إيماناً بالشياطين ليعلموا أنه لو سلمنا أن النار أشرف من الطين لما كان ذلك مُقتضياً أن يكون ما ينشأ من النار أفضل مما ينشأ من الطين لأن المخلوق كائن مركب من عناصر وأجزاء متفاوتة والتركيب قد يُدخل على المادة الأولى شرفاً وقد يدخل عليها حَقارة ، والتفاضل إنما يتقوم من الكمال في الذات والآثار .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
"قالَ أنا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ" يقول جلّ ثناؤه: قال إبليس لربه: فعلت ذلك فلم أسجد للذي أمرتني بالسجود له؛ لأني خير منه وكنت خيرا لأنك خلقتني من نار وخلقته من طين، والنار تأكل الطين وتُحرقه، فالنار خير منه؛ لم أفعل ذلك استكبارا عليك، ولا لأني كنت من العالين، ولكني فعلته من أجل أني أشرف منه، وهذا تقريع من الله للمشركين الذين كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم، وأبَوا الانقياد له واتباع ما جاءهم به من عند الله استكبارا عن أن يكونوا تبعا لرجل منهم حين قالُوا: "أأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذّكْرُ مِنْ بَيْنِنا" و "هَلْ هَذَا إلاّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ"، فقصّ عليهم تعالى ذكره، قصة إبليس وإهلاكه باستكباره عن السجود لآدم بدعواه أنه خير منه، من أجل أنه خلق من نار، وخلق آدم من طين، حتى صار شيطانا رجيما وحقت عليه من الله لعنته، محذّرهم بذلك أن يستحقوا باستكبارهم على محمد، وتكذيبهم إياه فيما جاءهم به من عند الله حسدا، وتعظما من اللعن والسخط ما استحقه إبليس بتكبره عن السجود لآدم...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
قياس أخطأ فيه، وذلك أنه لما توهم أن النار أفضل من الطين، قاس أن ما يخلق من الأفضل فهو أفضل من الذي يخلق من المفضول، ولم يدر أن الفضائل تخصيصات من الله تعالى يسم بها من شاء، وفي قوله رد على حكمة الله تعالى وتجويز، وذلك بين في قوله: {أرأيتك هذا الذي كرمت علي} [الإسراء: 62].
{أنا خير منه}: وعند هذه المقالة اقترن كفر إبليس به، إما عناداً على قول من يجيزه وإما بأن سلب المعرفة، وظاهر أمره أنه كفر عناداً؛ لأن الله تعالى قد حكم عليه بأنه كافر، ونحن نجده خلال القصة يقول: يا رب بعزتك وإلى يوم يبعثون، فهذا كله يقتضي المعرفة، وإن كان للتأويل فيه مزاحم فتأمله...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما صدعه سبحانه بهذا الإنكار، دل على إبلاسه بقوله مستأنفاً: {قال} مدعياً لأنه من العالين: {أنا خير منه} أي فلا حكمة في أمري بالسجود له، ثم بين ما ادعاه بقوله: {خلقتني من نار} أي وهي في غاية القوة والإشراق {وخلقته من طين} أي وهو في غاية الكدورة والضعف...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
إنه الحسد ينضح من هذا الرد، والغفلة أو الإغفال للعنصر الكريم الزائد على الطين في آدم، والذي يستحق هذا التكريم، وهو الرد القبيح الذي يصدر عن الطبيعة التي تجردت من الخير كله في هذا الموقف المشهود...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
معنى كون الشيطان مخلوقاً من النار أَنَّ ابتداء تكوّن الذَّرة الأصلية لقوام ماهيته من عنصر النار، ثم تمتزج تلك الذرة بعناصر أخرى مثل الهواء وما الله أعلم به. ومعنى كون آدم مخلوقاً من الطين أن ابتداء تكوّن ذَرات جثمانه من عنصر التراب وأدخل على تلك الذرات ما امتزجت به عناصر الهواء والماء والنار وما يتولد على ذلك التركيب من عناصر كيماوية وقوة كهربائية تتقوم بمجموعها ماهية الإِنسان...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
المخلوق مقابل خالقه يفتقد الاستقلال، إذ أنّ كلّ ما لديه هو من خالقه، ولهجة كلام إبليس توضّح أنّه كان يريد استقلالا وحكماً في مقابل حكم البارئ عز وجل، وهذا مصدر آخر من مصادر الكفر، ويمكن القول أنّ أسباب ضلال الشيطان، تعود إلى عدّة اُمور منها الغرور والتكبّر والجهل والحسد، وهذه الصفات القبيحة اتّحدت وأسقطته إلى الحضيض بعد سنين طوال من مرافقة الملائكة، وكأنّه كان معلّماً لهم.. أسقطته من أوج الفخر إلى أدنى الحضيض، وما أخطر هذه الصفات القبيحة أينما وجدت!!...