الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري - الزمخشري  
{قَالَ أَنَا۠ خَيۡرٞ مِّنۡهُ خَلَقۡتَنِي مِن نَّارٖ وَخَلَقۡتَهُۥ مِن طِينٖ} (76)

استنكف منه أنه سجود لمخلوق ، فذهب بنفسه ، وتكبر أن يكون سجوده لغير الخالق ، وانضم إلى ذلك أنّ آدم مخلوق من طين وهو مخلوق من نار . ورأى للنار فضلاً على الطين فاستعظم أن يسجد لمخلوق مع فضله عليه في المنصب ، وزلّ عنه أنّ الله سبحانه حين أمر به أعزَّ عباده عليه وأقربهم منه زلفى وهم الملائكة ، وهم أحقّ بأن يذهبوا بأنفسهم عن التواضع للبشر الضئيل ، ويستنكفوا من السجود له من غيرهم ، ثم لم يفعلوا وتبعوا أمر الله وجعلوه قدّام أعينهم ، ولم يلتفتوا إلى التفاوت بين الساجد والمسجود له ، تعظيماً لأمر ربهم وإجلالاً لخطابه : كان هو مع انحطاطه عن مراتبهم حرى بأن يقتدي بهم ويقتفي أثرهم ، ويعلم أنهم في السجود لمن هو دونهم بأمر الله ، أوغل في عبادته منهم في السجود له ، لما فيه من طرح الكبرياء وخفض الجناح ، فقيل له : ما منعك أن تسجد لما خلقت بيديّ ، أي : ما منعك من السجود لشيء هو كما تقول مخلوق خلقته بيدي - لا شكّ في كونه مخلوقاً - امتثالاً لأمري وإعظاماً لخطابي كما فعلت الملائكة ، فذكر له ما تركه من السجود مع ذكر العلة التي تشبث بها في تركه ، وقيل له : لما تركته مع وجود هذه العلة ، وقد أمرك الله به ، يعني : كان عليك أن تعتبر أمر الله ولا تعتبر هذه العلة ، ومثاله : أن يأمر الملك وزيره أن يزور بعض سقاط الحشم فيمتنع اعتباراً لسقوطه ، فيقول له : ما منعك أن تتواضع لمن لا يخفى عليّ سقوطه ، يريد : هلا اعتبرت أمرى وخطابي وتركت اعتبار سقوطه ، وفيه : أني خلقته بيدي ، فأنا أعلم بحاله ، ومع ذلك أمرت الملائكة بأن يسجدوا له لداعي حكمة دعاني إليه : من إنعام عليه بالتكرمة السنية وابتلاء للملائكة ، فمن أنت حتى يصرفك عن السجود له ، ما لم يصرفني عن الأمر بالسجود له . وقيل : معنى { لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَىَّ } لما خلقت بغير واسطة . وقرىء : «بيدي » كما قرىء : «بمصرخي » . وقرىء : «بيدي » على التوحيد { مِنَ العالين } ممن علوت وفقت ، فأجاب بأنه من العالين حيث { قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مّنْهُ } وقيل : استكبرت الآن ، أم لم تزل مند كنت من المستكبرين . ومعنى الهمزة : التقرير . وقرىء : «استكبرت » بحذف حرف الاستفهام ؛ لأنّ أم تدلّ عليه . أو بمعنى الإخبار . هذا على سبيل الأولى ، أي : لو كان مخلوقاً من نار لما سجدت له ، لأنه مخلوق مثلي ، فكيف أسجد لمن هو دوني لأنه من طين والنار تغلب الطين وتأكله ، وقد جرت الجملة الثانية من الأولى وهي { خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ } مجرى المعطوف عطف البيان من المعطوف عليه في البيان والإيضاح .