( فإذا سويته ونفخت فيه من روحي )
فهي روح الله تنقل هذا التكوين العضوي الوضيع إلى ذلك الأفق الإنساني الكريم ، منذ بدء التكوين ، وتجعله ذلك الخلق المتفرد الذي توكل إليه الخلافة في الأرض بحكم تفرد خصائصه منذ بدء التكوين .
ومتى كان في نطاق هذا المخلوق الإنساني أن يدرك كيف يفعل الخالق العظيم ?
وهنا نصل إلى الأرض الصلبة التي نستوي عليها مطمئنين . .
لقد كان خلق الشيطان - من قبل - من نار السموم . فهو سابق إذن للإنسان في الخلق . هذا ما نعلمه . أما كيف هو وكيف كان خلقه . فذلك شأن آخر . ليس لنا أن نخوض فيه . إنما ندرك من صفاته بعض صفات نار السموم . ندرك من صفاته التأثير في عناصر الطين بحكم أنه من النار . والأذى والمسارعة فيه بحكم أنها نار السموم . ثم تنكشف لنا من ثنايا القصة صفة الغرور والاستكبار . وهي ليست بعيدة في التصور عن طبيعة النار !
ولقد كان خلق الإنسان من عناصر هذا الطين اللزج المتحول إلى صلصال ؛ ثم من النفخة العلوية التي فرقت بينه وبين سائر الأحياء ؛ ومنحته خصائصه الإنسانية ، التي أفردته منذ نشأته عن كل الكائنات الحية ؛ فسلك طريقا غير طريقها منذ الابتداء . بينما بقيت هي في مستواها الحيواني لا تتعداه !
هذه النفخة التي تصله بالملأ الأعلى ؛ وتجعله أهلا للاتصال بالله ، وللتلقي عنه ؛ ولتجاوز النطاق المادي الذي تتعامل فيه العضلات والحواس ، إلى النطاق التجريدي الذي تتعامل فيه القلوب والعقول . والتي تمنحه ذلك السر الخفي الذي يسرب به وراء الزمان والمكان ، ووراء طاقة العضلات والحواس ، إلى ألوان من المدركات وألوان من التصورات غير محدودة في بعض الأحيان .
ذلك كله مع ثقلة الطين في طبعه ، ومع خضوعه لضرورات الطين وحاجاته : من طعام وشراب ولباس وشهوات ونزوات . ومن ضعف وقصور وما ينشئه الضعف والقصور من تصورات ونزعات وحركات . . هذا مع أن هذا الكائن " مركب " منذ البدء من هذين الأفقين اللذين لا ينفصلان فيه . طبيعته طبيعة " المركب " لا طبيعة " المخلوط " أو الممزوج ! . . " ولا بد من ملاحظة هذه الحقيقة ودقة تصورها كلما تحدثنا عن تركيب الإنسان من الطين ومن النفخة العلوية التي جعلت منه هذا المخلوق الفريد التكوين . . إنه لا انفصال بين هذين الأفقين في تكوينه ، ولا تصرف لأحدهما بدون الآخر في حالة واحدة من حالاته . إنه لا يكون طينا خالصا في لحظة ، ولا يكون روحا خالصا في لحظة ؛ ولا يتصرف تصرفا واحدا إلا بحكم تركيبه الذي لا يقع فيه الانفصال !
والتوازن بين خصائص العناصر الطينية فيه والعناصر العلوية هو الأفق الأعلى الذي يطلب إليه أن يبلغه ، وهو الكمال البشري المقدر له . فليس مطلوبا منه أن يتخلى عن طبيعة أحد عنصريه ومطالبه ليكون ملكا أو ليكون حيوانا . وليس واحد منهما هو الكمال المنشود للإنسان . والارتفاع الذي يخل بالتوازن المطلق نقص بالقياس إلى هذا المخلوق وخصائصه الأصيلة ، والحكمة التي من أجلها خلق على هذا النحو الخاص .
والذي يحاول أن يعطل طاقاته الجسدية الحيوية هو كالذي يحاول أن يعطل طاقاته الروحية الطليقة . . كلاهما يخرج على سواء فطرته ؛ ويريد من نفسه ما لم يرده الخالق له . وكلاهما يدمر نفسه بتدمير ذلك المركب في كيانها الأصيل . وهو محاسب أمام الله على هذا التدمير .
من أجل هذا أنكر الرسول [ ص ] على من أراد أن يترهبن فلا يقرب النساء ، ومن أراد أن يصوم الدهر فلا يفطر ، ومن أراد أن يقوم الليل فلا ينام . أنكر عليهم كما ورد في حديث عائشة - رضي الله عنها - وقال : " فمن رغب عن سنتي فليس مني " .
وقد أقام الإسلام شريعته للإنسان على أساس تكوينه ذاك ؛ وأقام له عليها نظاما بشريا لا تدمر فيه طاقة واحدة من طاقات البشر . إنما قصارى هذا النظام أن يحقق التوازن بين هذه الطاقات ، لتعمل جميعها في غير طغيان ولا ضعف ؛ ولا اعتداء من إحداها على الأخرى . فكل اعتداء يقابله تعطيل . وكل طغيان يقابله تدمير .
والإنسان حفيظ على خصائص فطرته ومسؤول عنها أمام الله . والنظام الذي يقيمه الإسلام للناس حفيظ على هذه الخصائص التي لم يهبها الله جزافا للإنسان .
والذي يريد قتل النوازع الفطرية الحيوانية في الإنسان يدمر كيانه المتفرد . ومثله الذي يريد قتل النوازع الفطرية الخاصة بالإنسان دون الحيوان من الاعتقاد في الله والإيمان بالغيب الذي هو من خصائص الإنسان . . والذي يسلب الناس عقائدهم يدمر كينونتهم البشرية ، كالذي يسلب الناس طعامهم وشرابهم ومطالبهم الحيوية سواء . . كلاهما عدو " للإنسان " يجب أن يطارده كما يطارد الشيطان !
إن الإنسان حيوان وزيادة . . فله مثل مطالب الحيوان ، وله ما يقابل هذه الزيادة . وليست هذه المطالب دون هذه هي " المطالب الأساسية " كما يزعم أعداء الإنسان من أصحاب المذاهب المادية " العلمية " .
هذه بعض الخواطر التي تطلقها في النفس حقيقة تكوين الإنسان ، كما يقررها القرآن . نمر بها سراعا ، حتى لا نوقف تدفق النص القرآني في عرض مشاهد القصة الكبرى ، راجين أن نعود إليها ببعض التعقيبات في نهايتها :
لقد قال الله للملائكة : " إني خالق بشرا من صلصال من حمأ مسنون . فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين . . "
وقد كان ما قاله الله . فقوله - تعالى - إرادة . وتوجه الإرادة ينشيء الخلق المراد . ولا نملك أن نسأل كيف تلبست نفخة الله الأزلي الباقي بالصلصال المخلوق الفاني . فالجدل على هذا النحو عبث عقلي . بل عبث بالعقل ذاته ، وخروج به عن الدائرة التي يملك فيها أسباب التصور والإدراك والحكم . وكل ما ثار من الجدل حول هذا الموضوع وكل ما يثور إن هو إلا جهل بطبيعة العقل البشري وخصائصه وحدوده ، وإقحام له في غير ميدانه ، ليقيس عمل الخالق إلى مدركات الإنسان ، وهو سفه في إنفاق الطاقة العقلية ، وخطأ في المنهج من الأساس . إنه يقول : كيف يتلبس الخالد بالفاني ، وكيف يتلبس الأزلي بالحادث ? ثم ينكر أو يثبت ويعلل ! بينما العقل الإنساني ليس مدعوا أصلا للفصل في الموضوع . لأن الله يقول : إن هذا قد كان . ولا يقول : كيف كان . فالأمر إذن ثابت ولا يملك العقل البشري أن ينفيه . وكذلك هو لا يملك أن يثبته بتفسير من عنده - غير التسليم بالنص - لأنه لا يملك وسائل الحكم . فهو حادث . والحادث لا يملك وسائل الحكم على الأزلي في ذاته ، ولا على الأزلي في خلقه للحادث . وتسليم العقل ابتداء بهذه البديهية أو القضية - وهي أن الحادث لا يملك وسائل الحكم على الأزلي في أي صورة من صوره . يكفي ليكف العقل عن إنفاق طاقته سفها في غير مجاله المأمون .
( فسجد الملائكة كلهم أجمعون ) . .
كما هي طبيعة هذا الخلق - الملائكة - الطاعة المطلقة بلا جدل أو تعويق .
و { سويته } معناه : كملته وأتقنته حتى استوت أجزاؤه على ما يجب ، وقوله : { من روحي } إضافة خلق وملك إلى خالق مالك ، أي من الروح الذي هو لي ولفظة الروح هنا للجنس .
وقوله : { فقعوا } من وقع يقع ، وفتحت القاف لأجل حرف الحلق ، وهذه اللفظة تقوي أن سجود الملائكة إنما كان على المعهود عندنا ، لا أنه خضوع وتسليم ، وإشارة ، كما قال بعض الناس ، وشبهوه بقول الشاعر [ أبي الأخزر الحماني ] : [ الطويل ]
فكلتاهما خرّت وأسجد رأسها . . . كما سجدت نصرانة لم تحنف{[7166]}
وهذا البيت يشبه أن يكون السجود فيه كالمعهود عندنا .
وحكى الطبري في تفسير هذه الآية عن ابن عباس : أنه قال : خلق الله ملائكة أمرهم بالسجود لآدم فأبوا ، فأرسل عليهم ناراً فأحرقتهم ، ثم خلق آخرين فأمرهم بالسجود فأطاعوا إلا إبليس فإنه كان من الأولين .
قال القاضي أبو محمد : وقول ابن عباس - من الأولين - يحتمل أن يريد في حالهم وكفرهم ، ويحتمل أن يريد : في أنه بقي منهم .
التسوية : تعديل ذات الشيء . وقد أطلقت هنا على اعتدال العناصر فيه واكتمالها بحيث صارت قابلة لنفخ الروح .
والنفخ : حقيقته إخراج الهواء مضغوطاً بين الشفتين مضمومتين كالصفير ، واستعير هنا لوضع قوة لطيفة السريان قوية التأثير دَفعة واحدة ، وليس ثَمة نفخ ولا منفوخ .
وتقريب نفخ الروح في الحي أنه تكون القوّة البخارية أو الكهربائية المنبعثة من القلب عند انتهاء استواء المزاج وتركيب أجزاء المزاج تكوناً سريعاً دفعياً وجريان آثار تلك القوة في تجاويف الشرايين إلى أعماق البدن في تجاويف جميع أعضائه الرئيسة وغيرها .
وإسناد النفخ وإضافة الروح إلى ضمير اسم الجلالة تنويه بهذا المخلوق . وفيه إيماء إلى أن حقائق العناصر عند الله تعالى لا تتفاضل إلا بتفاضل آثارها وأعمالها ، وأن كراهة الذات أو الرائحة إلى حالة يكرهها بعض الناس أو كلهم إنما هو تابع لما يلائم الإدراك الحسي أو ينافره تبعاً لطباع الأمزجة أو لإِلفِ العادة ولا يُؤْبَه في علم الله تعالى . وهذا هو ضابط وصف القذارة والنّزاهة عند البشر .
ألا ترى أن المني يستقذر في الحس البشري على أن منه تكوين نوعه ، ومنه تخلقت أفاضل البشر . وكذلك المسك طَيّب في الحس البشري لملاءمة رائحته للشّم وما هو إلا غُدة من خارجات بعض أنواع الغزال ، قال تعالى : { وبدأ خلق الإنسان من طين ثم جعل نسلَهُ من سلالة من ماء مهين ثم سوّاه ونفخ فيه من روحه وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلاً ما تشكرون } [ سورة السجدة : 7 9 ] .
وهذا تأصيل لكون عالم الحقائق غير خاضع لعالم الأوهام . وفي الحديث « لَخلُوف فم الصائم أطيبُ عند الله من ريح المسك » . وفيه لا يُكْلَم أحد في سبيل الله ؛ واللّهُ أعلم بمن يكلم في سبيله إلا جاء يوم القيامة ودَمه يَشْخُب اللّونُ لونُ الدم والريح ريح المسك .
ومعنى { فقعوا له ساجدين } أُسقُطوا له ساجدين ، وهذه الحال لإفادة نوع الوقوع ، وهو الوقوع لقصد التعظيم ، كقوله تعالى : { وخرّوا له سجداً } [ سورة يوسف : 100 ] . وهذا تمثيل لتعظيم يناسب أحوال الملائكة وأشكالهم تقديراً لبديع الصنع والصلاحية لمختلف الأحوال الدال على تمام علم الله وعظيم قدرته .
وأمر الملائكة السجود لا ينافي تحريم السجود في الإسلام لغير الله من وجوه :
أحدها : أن ذلك المنع لسدّ ذريعة الإشراك والملائكة معصومون من تطرّق ذلك إليهم .
وثانيها : أن شريعة الإسلام امتازت بنهاية مبالغ الحق والصلاح ، فجاءت بما لم تجىء به الشرائع السالفة لأن الله أراد بلوغ أتباعها أوج الكمال في المدارك ، ولم يكن السجود من قبل محظوراً فقد سجد يعقوب وأبناؤه ليوسف عليهم السلام وكانوا أهل إيمان .
وثالثها : أن هذا إخبار عن أحوال العالم العلوي ، و لا تقاس أحكامه على تكاليف عالم الدنيا .