وأخبر تعالى { إن هذا } الذي قصه الله على عباده هو { القصص الحق } وكل قصص يقص عليهم مما يخالفه ويناقضه فهو باطل { وما من إله إلا الله } فهو المألوه المعبود حقا الذي لا تنبغي العبادة إلا له ، ولا يستحق غيره مثقال ذرة من العبادة { وإن الله لهو العزيز } الذي قهر كل شيء وخضع له كل شيء { الحكيم } الذي يضع الأشياء مواضعها ، وله الحكمة التامة في ابتلاء المؤمنين بالكافرين ، يقاتلونهم ويجادلونهم ويجاهدونهم بالقول والفعل{[158]} .
ثم يمضي التعقيب بعد الدعوة إلى المباهلة - وربما كانت الآيات التالية قد نزلت بعد الامتناع عنها - يقرر حقيقة الوحي ، وحقيقة القصص ، وحقيقة الوحدانية التي يدور حولها الحديث ؛ ويهدد من يتولى عن الحق ويفسد في الأرض بهذا التولي : ( إن هذا لهو القصص الحق . وما من إله إلا الله . وإن الله لهو العزيز الحكيم .
والحقائق التي تقررها هذه النصوص سبق تقريرها . وهي تذكر هنا للتوكيد بعد الدعوة إلى المباهلة وآبائها . .
{ إن هذا } أي ما قص من نبأ عيسى ومريم . { لهو القصص الحق } بجملتها خبر إن ، أو هو فصل يفيد أن ما ذكره في شأن عيسى ومريم حق دون ما ذكروه ، وما بعده خبر واللام دخلت فيه لأنه أقرب إلى المبتدأ من الخبر ، وأصلها أن تدخل على المبتدأ { وما من إله إلا الله } صرح فيه ب{ من } المزيدة للاستغراق تأكيدا للرد على النصارى في تثليثهم { وإن الله لهو العزيز الحكيم } لا أحد سواه يساويه في القدرة التامة والحكمة البالغة ليشاركه في الألوهية .
جملة { إن هذا لهو القصص الحق } وما عطف عليها بالواو اعتراض لبيان ما اقتضاه قوله : { الكاذبين } [ آل عمران : 61 ] لأنهم نفوا أن يكون عيسى عبد الله ، وزعموا أنه غلب فإثبات أنه عبد هو الحق .
واسم الإشارة راجع إلى ما ذكر من نفي الإلهية عن عيسى .
والضمير في قوله لَهو القصصُ ضمير فصل ، ودخلت عليه لام الابتداء لزيادة التقوية التي أفادَها ضمير الفصل ؛ لأنّ اللام وَحدها مفيدة تقوية الخبر وَضمير الفصل يفيد القصر أي هذا القصص لا ما تَقُصُّه كتُب النصارى وعَقائِدهم .
والقصَص بفتح القاف والصاد اسم لما يُقَص ، يقال : قَصّ الخبر قَصّاً إذا أخبر به ، والقَصُّ أخص من الإخبار ؛ فإنّ القص إخبار بخبرٍ فيه طولٌ وتفصيل وتسمى الحادثة التي من شأنها أن يُخبر بها قِصة بكسر القاف أي مقصوصة أي مما يقُصها القُصّاص ، ويقال للذي ينتصب لتحديث الناس بأخبار الماضين قَصّاص بفتح القاف . فالقصصُ اسم لما يُقص : قال تعالى : { نحن نقص عليك أحسن القصص } وقيل : هو اسم مصدر وليس هو مصدراً ، ومن جرى على لسانه من أهل اللغة أنه مصدر فذلك تسامح من تسامح الأقدمين ، فالقصّ بالإدغام مصدر ، والقصص بالفَكّ اسم للمصدر واسم للخبر المقصوص .
وقوله : { وما من إله إلا الله } تأكيد لحقيَّة هذا القصص . ودخلت من الزائدة بعد حرف نفي تنصيصاً على قصد النفي الجنس لتدل الجملة على التوحيد ، ونفي الشريك بالصراحة ، ودلالةِ المطابقة ، وأن ليس المراد نفي الوحدة عن غير الله ، فيوهم أنه قد يكون إلاَ هَان أو أكثر في شقّ آخر ، وإن كان هذا يؤول إلى نفي الشريك لكن بدلالة الالتزام .
وقوله : { وإن الله لهو العزيز الحكيم } فيه ما في قوله : { إن هذا لهو القصص الحق } فأفاد تقوية الخَبر عَن الله تعالى بالعزّة والحكم ، والمقصود إبطال إلهية المسيح على حسب اعتقاد المخاطبين من النصارى ، فإنهم زعموا أنه قتله اليهود وذلك ذِلّة وعجز لا يلتئمان مع الإلهية فكيف يكون إله وهو غير عزيز وهو محكوم عليه ، وهو أيضاً إبطال لإلهيته على اعتقادنا ؛ لأنه كان محتَاجَاً لإنقاذه من أيدي الظالمين .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{إن هذا} الذي ذكرته في عيسى {لهو القصص الحق}. والذي تقولون هو الباطل. {وما من إله إلا الله وإن الله لهو العزيز} في ملكه. {الحكيم} في أمره...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
إن هذا الذي أنبأتك به يا محمد من أمر عيسى، فقصصته عليك من أنبائه، وأنه عبدي ورسولي، وكلمتي ألقيتها إلى مريم، وروح مني، {لَهُوَ القَصَصُ} والنبأ {الحَقّ} فاعلم ذلك، واعلم أنه ليس للخلق معبود يستوجب عليهم العبادة بملكه إياهم إلا معبودك الذي تعبده وهو الله العزيز الحكيم.
{العَزِيزُ}: العزيز في انتقامه ممن عصاه، وخالف أمره، وادّعى معه إلها غيره، أو عبد ربا سواه. {الحَكِيمُ}: في تدبيره، لا يدخل ما دبره وهْن ولا يلحقه خلل.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{إن هذا لهو القصص الحق} يعني الخبر الحق...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
إن قيل: لم قال:"إن هذا لهو القصص" مع قيام الحجة، وشهادة المعجزة له؟ قلنا: معناه البيان عن أن مخالفتهم له بعد وضوح أمره يجري مجرى العناد فيه، وكذلك قوله: "وما من إله إلا الله". والقصص: الخبر الذي تتابع فيه المعاني وأصله اتباع الأثر، وفلان يقص أثر فلان أي يتبعه.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
لا يتسلط على شواهد التوحيد غبار شبهة، ولا يدرك سر حكمه وهم مخلوق، ولا يدانيه معلوم يحصره الوجود، أو موهوم يصوره التقدير...
{وإن الله لهو العزيز الحكيم}: وفيه إشارة إلى الجواب عن شبهات النصارى، وذلك لأن اعتمادهم على أمرين؛ أحدهما: أنه قدر على إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص، فكأنه تعالى قال: هذا القدر من القدرة لا يكفي في الإلهية، بل لا بد وأن يكون عزيزا غالبا لا يدفع ولا يمنع، وأنتم قد اعترفتم بأن عيسى ما كان كذلك، وكيف وأنتم تقولون إن اليهود قتلوه؟ والثاني: أنهم قالوا: إنه كان يخبر عن الغيوب وغيرها، فيكون إلها، فكأنه تعالى قال: هذا القدر من العلم لا يكفي في الإلهية، بل لا بد وأن يكون حكيما، أي عالما بجميع المعلومات وبجميع عواقب الأمور، فذكر {العزيز الحكيم} ههنا إشارة إلى الجواب عن هاتين الشبهتين ونظير هذه الآية ما ذكره تعالى في أول السورة من قوله {هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء لا إله إلا هو العزيز الحكيم} [آل عمران: 6]...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{وإن الله لهو العزيز} الذي قهر كل شيء وخضع له كل شيء {الحكيم} الذي يضع الأشياء مواضعها، وله الحكمة التامة في ابتلاء المؤمنين بالكافرين، يقاتلونهم ويجادلونهم ويجاهدونهم بالقول والفعل...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والقَصُّ أخص من الإخبار؛ فإنّ القص إخبار بخبرٍ فيه طولٌ وتفصيل وتسمى الحادثة التي من شأنها أن يُخبر بها قِصة بكسر القاف أي مقصوصة أي مما يقُصها القُصّاص،... والمقصود إبطال إلهية المسيح على حسب اعتقاد المخاطبين من النصارى، فإنهم زعموا أنه قتله اليهود وذلك ذِلّة وعجز لا يلتئمان مع الإلهية فكيف يكون إله وهو غير عزيز وهو محكوم عليه، وهو أيضاً إبطال لإلهيته على اعتقادنا؛ لأنه كان محتَاجَاً لإنقاذه من أيدي الظالمين...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
أكد سبحانه وتعالى صدق ما أخبر به عن عيسى عليه السلام فقال تعالى: {إن هذا لهو القصص الحق} أي إن هذا الذي أخبرت هو القصص الثابت الذي لا مجال فيه لإنكار منكر،ولا لتشكيك متشكك، وقد أكد سبحانه صدق القصص في تلك الجملة السامية بأربعة مؤكدات هي: إن، فهي للتوكيد، واللام في قوله تعالى: {لهو القصص الحق} وضمير الفصل، والقصر الذي تضمنه تعريف الطرفين؛ إذ المعنى فيه ان ما أخبرت به في شان عيسى عليه السلام هو وحده الخبر الحق،ولا حق في سواه،بل ما عندهم ترهات وأباطيل.
وإن هذا الخبر يتضمن في ذاته ان المسيح عيسى عليه السلام ليس إلها ولا ابن إله،وانه عبد الله ورسوله الأمين،وانه من أولى العزم من الرسل،وان الألوهية الحق هي لله تعالى وحده؛ ولذا صرح بهذا عقب تأكيده القصص الحق، فقال تعالى: {وما من إله إلا الله وإن الله لهو العزيز الحكيم}: هذا نفي بات قاطع للألوهية من غير الله تعالى، وإثبات الألوهية لله وحده، وقد أكد النفي بكلمة "من "فهي تفيد استغراق النفي استغراقا مستمرا ثابتا مؤكدا، وفي النفي والإثبات تأكيدا لمعنى المستثنى ابلغ تأكيد، وغن هذا النفي فيه رد بالغ على النصارى الذين ادعوا ألوهية للمسيح عليه السلام.
{وإن الله لهو العزيز الحكيم}: معناه ان الله سبحانه وتعالى المنفرد بالألوهية وحده هو العزيز الغالب الذي لا يقهر،الحكيم الذي يدبر كل شيء بكمال سلطانه وسيطرته على هذا الوجود الذي لا ينازعه السلطان فيه غيره كائنا من كان.وغن الجملة السامية فيها تأكيد لمعنى العزة والسلطان الكامل بالتعبير بإن،وباللام،وبضمير الفصل،وبتعريف الطرفين.
وفي هذا الكلام رد على أولئك الذين يزعمون ان المسيح إله،ويعتقدون مع ذلك انه غلب على امره وصلب ولم يستطع لنفسه حولا ولا طولا،ولا حيلة يخرج بها من ذلك المأزق،ولكن هكذا يعتقدون،وبه يؤمنون.