قال تعالى : { انْظُرْ } متعجبا { كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ } التي هي أضل الأمثال وأبعدها عن الصواب { فَضَلُّوا } في ذلك أو فصارت سببا لضلالهم لأنهم بنوا عليها أمرهم والمبني على فاسد أفسد منه .
{ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا }{[474]} أي : لا يهتدون أي اهتداء فنصيبهم الضلال المحض والظلم الصرف .
أي : فلا يهتدون إلى الحق ، ولا يجدون إليه مخلصًا .
قال محمد بن إسحاق في السيرة : حدثني محمد بن مسلم{[17574]} بن شهاب الزهري ، أنه حُدث أن أبا سفيان بن حرب ، وأبا جهل بن هشام ، والأخنس بن شَرِيق بن عمرو بن وهب الثقفي ، حليف ابن{[17575]} زهرة ، خرجوا ليلة ليستمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو يصلي بالليل في بيته ، فأخذ كل واحد منهم مجلسًا يستمع فيه ، وكلُّ لا يعلم بمكان صاحبه ، فباتوا يستمعون له ، حتى إذا طلع الفجر تفرّقوا . حتى إذا جمعتهم الطريق ، فتلاوموا ، وقال بعضهم لبعض : لا تعودوا ، فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئًا ، ثم انصرفوا . حتى إذا كانت الليلة الثانية عاد كل رجل منهم إلى مجلسه ، فباتوا يستمعون له ، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا حتى إذا جمعتهم{[17576]} الطريق فقال بعضهم لبعض مثل ما قال أول مرة ، ثم انصرفوا . حتى إذا كانت الليلة الثالثة ، أخذ كل رجل{[17577]} منهم مجلسه ، فباتوا يستمعون له ، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا ، فجَمعهم{[17578]} الطريق فقال بعضهم لبعض : لا نبرح حتى نتعاهد لا نعود ، فتعاهدوا على ذلك ، ثم تفرقوا .
فلما أصبح الأخنس بن شَريق أخذ عصاه ، ثم خرج حتى أتى أبا سفيان بن حرب في بيته ، فقال : أخبرني يا أبا حنظلة عن رأيك فيما سمعت من محمد ؟ قال : يا أبا ثعلبة ، والله لقد سمعتُ أشياء أعرفها وأعرف ما يُراد بها ، وسمعتُ أشياء ما عرفتُ معناها ، ولا ما يراد بها . قال الأخنس : وأنا والذي حَلفت به . قال : ثم خرج من عنده حتى أتى أبا جهل ، فدخل عليه بيته ، فقال : يا أبا الحكم ، ما رأيك فيما سمعت من محمد ؟ قال : ماذا سمعتُ ؟ ! تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف : أطعموا فأطعمنا ، وحملوا فحملنا ، وأعطوا فأعطينا ، حتى إذا تجاثينا على الرُّكب ، وكنا كفَرَسي رِهان قالوا : منا نبي يأتيه الوحي من السماء ، فمتى ندرك هذه ؟ والله لا نؤمن به{[17579]} أبدا ولا نصدقه . قال : فقام عنه الأخنس وتركه{[17580]} .
القول في تأويل قوله تعالى : { انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأمْثَالَ فَضَلّواْ فَلاَ يَسْتَطِيعْونَ سَبِيلاً } .
يقول تعالى ذكره : انظر يا محمد بعين قلبك فاعتبر كيف مثّلوا لك الأمثال ، وشبهوا لك الأشباه ، بقولهم : هو مسحور ، وهو شاعر ، وهو مجنون فَضَلّوا يقول : فجاروا عن قصد السبيل بقيلهم ما قالوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً يقول : فلا يهتدون لطريق الحقّ لضلالهم عنه وبُعدهم منه ، وأن الله قد خذلهم عن إصابته ، فهم لا يقدرون على المَخْرَج مما هم فيه من كفرهم بتوفقّهم إلى الإيمان به ، كما :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً قال : مخرجا ، الوليد بن المغيرة وأصحابه أيضا .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأمْثالَ فَضَلّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً مخرجا الوليد بن المغيرة وأصحابه .
ضرب المثل له هو قولهم مسحور ، ساحر ، مجنون ، متكهن ، لأنه لم يكن عندهم متيقناً بأحد هذه ، فإنما كانت منهم على جهة التشبيه ، ثم رأى الوليد بن المغيرة أن أقرب هذه الأمور على تخيل الطارئين عليهم هو أنه ساحر ، ثم حكم الله عليهم بالضلال ، وقوله { فلا يستطيعون سبيلاً } يحتمل معنيين : أحدهما لا يستطيعون سبيلاً إلى الهدى والنظر المؤدي إلى الإيمان ، فتجري الآية مجرى قوله { وجعلنا على قلوبهم أكنة }{[7589]} [ الأنعام : 25 ] ونحو هذا ، والآخر : لا يستطيعون سبيلاً إلى فساد أمرك وإطفاء نور الله فيك بضربهم الأمثال لك واتباعهم كل حيلة{[7590]} في جهتك ، وحكى الطبري أن هذه الآية نزلت في الوليد بن المغيرة وأصحابه .
جملة مستأنفة استئنافاً ابتدائياً ونظائرها كثيرة في القرآن .
والتعبير بفعل النظر إشارة إلى أنه بلغ من الوضوح أن يكون منظوراً .
والاستفهام ب ( كيف ) للتعجيب من حالة تمثيلهم للنبيء عليه الصلاة والسلام بالمسحور ونحوه .
وأصل ( ضرب ) وضع الشيء وتثبيته يقال : ضرب خيمة ، ويطلق على صوغ الشيء على حجم مخصوص ، يقال : ضرب دنانير ، وهو هنا مستعار للإبراز والبيان تشبيهاً للشيء المبرز المبين بالشيء المثبت . وتقدم عند قوله تعالى : { إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلاً } في [ البقرة : 26 ] .
واللام في { لك } للتعليل والأجْل ، أي ضربوا الأمثال لأجلك ، أي لأجل تمثيلك ، أي مثلوك . يقال : ضربت لك مثلاً بكذا . وأصله مثلتك بكذا ، أي أجِد كذا مثلاً لك ، قال تعالى : { فلا تضربوا لله الأمثال } [ النحل : 74 ] وقال : { واضرب لهم مثلاً أصحاب القرية } [ يس : 13 ] أي اجعلهم مثلاً لحالهم .
وجمع { الأمثال } هنا ، وإن كان المحكي عنهم أنهم مثلوه بالمسحور ، وهو مثل واحد ، لأن المقصود التعجيب من هذا المثل ومن غيره فيما يصدر عنهم من قولهم : هو شاعر ، هو كاهن ، هو مجنون ، هو ساحر ، هو مسحور . وسميت أمثالاً باعتبار حالهم لأنهم تحيروا فيما يصفونه به للناس لئلا يعتقدوه نبيئاً ، فجعلوا يتطلبون أشبه الأحوال بحاله في خيالهم فيلحقونه به ، كمن يدرج فرداً غريباً في أشبه الأجناس به ، كمن يقول في الزرافة : إنها مِن الأفراس أو من الإبل أو من البقر .
وفُرع ضَلالُهم على ضرب أمثالهم لأن ما ضربوه من الأمثال كله باطل وضلال وقوة في الكفر . فالمراد تفريع ضلالهم الخاص ببطلان تلك الأمثال ، أي فظهر ضلالهم في ذلك كقوله : { كذبت قبلهم قوم نوح فكذبوا عبدنا } [ القمر : 9 ] .
ويجوز أن يراد بالضلال هنا أصل معناه ، وهو الحيرة في الطريق وعدم الاهتداء ، أي ضربوا لك أشباهاً كثيرة لأنهم تحيروا فيما يعتذرون به عن شأنك العظيم .
وتفريع { فلا يستطيعون سبيلاً } على { فضلوا } تفريع لتوغلهم في الحيرة على ضلالهم في ضرب تلك الأمثال .
والسبيل : الطريق ، واستطاعته استطاعة الظفر به ، فيجوز أن يراد بالسبيل سبيل الهدى على الوجه الأول في تفسير الضلال ، ويجوز أن يكون تمثيلاً لحال ضلالهم بحال الذي وقف في فيفاء لا يدري من أية جهة يسلك إلى المقصود ، على الوجه الثاني في تفسير الضلال .
والمعنى على هذا : أنهم تحيروا كيف يصفون حالك للناس لتوقعهم أن الناس يكذبونهم ، فلذلك جعلوا ينتقلون في وصفه من صفة إلى صفة لاستشعارهم أن ما يصفونه به باطل لا يطابقه الواقع .