وقوله : ألَكُمُ الذّكَرُ وَلَهُ الأُنْثَى يقول : أتزعمون أن لكم الذكر الذي ترضونه ، ولله الأنثى التي لا ترضونها لأنفسكم تِلكَ إذا قِسْمَةٌ ضِيزَى يقول جلّ ثناؤه : قسمتكم هذه قسمة جائرة غير مستوية ، ناقصة غير تامة ، لأنكم جعلتم لربكم من الولد ما تكرهون لأنفسكم ، وآثرتم أنفسكم بما ترضونه ، والعرب تقول : ضِزته حقه بكسر الضاد ، وضُزته بضمها فأنا أضيزه وأضوزه ، وذلك إذا نقصته حقه ومنعته وحُدثت عن معمر بن المثنى قال : أنشدني الأخفش :
فإنْ تَنْأَ عَنّا نَنْتَقِصْكَ وَإنْ تَغِبْ *** فَسَهْمُكَ مَضْئُوزٌ وأنْفُكَ رَاغِمُ
ومن العرب من يقول : ضَيْزى بفتح الضاد وترك الهمز فيها ومنهم من يقول : ضأزى بالفتح والهمز ، وضُؤزى بالضم والهمز ، ولم يقرأ أحد بشيء من هذه اللغات . وأما الضّيزى بالكسر فإنها فُعلى بضم الفاء ، وإنما كُسرت الضاد منها كما كسرت من قولهم : قوم بيض وعِين ، وهي «فُعْل » لأن واحدها : بيضاء وعيناء ليؤلفوا بين الجمع والاثنين والواحد ، وكذلك كرهوا ضمّ الضاد من ضِيزَى ، فتقول : ضُوزَى ، مخافةِ أن تصير بالواو وهي من الياء . وقال الفرّاء : إنما قضيت على أوّلها بالضمّ ، لأن النعوت للمؤنث تأتي إما بفتح ، وإما بضمّ فالمفتوح : سكْرَى وعَطشى والمضموم : الأنثى والحُبلى فإذَا كان اسما ليس بنعت كسر أوّله ، كقوله : وَذَكّرْ فإنّ الذّكْرَى تَنْفَعُ المُؤْمِنِينَ كسر أوّلها ، لأنها اسم ليس بنعت ، وكذلك الشّعَرى كسر أوّلها ، لأنها اسم ليس بنعت . وبنحو الذي قلنا في تأويل قوله : قِسْمَةٌ ضِيزَى قال أهل التأويل ، وإن اختلفت ألفاظهم بالعبارة عنها ، فقال بعضهم : قِسْمة عَوْجاء . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : تِلكَ إذا قِسْمَةٌ ضِيزَى قال : عوجاء .
وقال آخرون : قسمة جائرة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة تِلكَ إِذا قِسْمَةٌ ضِيزَى يقول : قسمة جائرة .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة قِسْمَةٌ ضِيزَى قال : قسمة جائرة .
حدثنا محمد بن حفص أبو عبيد الوصائيّ ، قال : حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا ابن لهيعة ، عن ابن عمرة ، عن عكرِمة ، عن ابن عباس ، في قوله : تِلكَ إذا قِسْمَةٌ ضِيزَى قال : تلك إذا قسمة جائرة لا حقّ فيها .
وقال آخرون : قسمة منقوصة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان تِلكَ إذا قِسْمَةٌ ضِيزَى قال : منقوصة .
وقال آخرون : قسمة مخالفة . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : تِلكَ إذا قِسْمَةٌ ضِيزَى قال : جعلوا لله تبارك وتعالى بنات ، وجعلوا الملائكة لله بنات ، وعبدوهم ، وقرأ أَمِ اتّخَذَ مِمّا يَخْلُقُ بَناتٍ وأصْفاكُمْ بالبَنِينَ وَإذَا بُشّرَ . . . الاَية ، وقرأ وَيجْعَلُونَ لِلّهِ البَناتِ . . . إلى آخر الاَية ، وقال : دعوا لله ولدا ، كما دعت اليهود والنصارى ، وقرأ كَذَلِكَ قالَ الّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قال : والضيزى في كلام العرب : المخالفة ، وقرأ إنْ هِيَ إلاّ أسمْاءٌ سَمّيْتُمُوها أنْتُمْ وآباؤكُمْ .
{ تلك إذاً قسمة ضيزى } أي عوجاء ، قاله مجاهد ، وقيل { ضيزى } معناه : جائرة ، قاله ابن عباس وقتادة ، وقال سفيان معناه : منقوصة ، وقال ابن زيد معناه : مخالفة ، والعرب تقول : ضزته حقه أضيزه ، بمعنى : منعته منه وظلمته فيه ، و : { ضيزى } من هذا التصريف وأصلها فُعلى بضم الفاء ضوزى لأنه القياس ، إذ لا يوجد في الصفات فِعلى بكسر الفاء ، كذا قال سيبويه وغيره ، فإذا كان هذا فهي ضوزى : كسر أولها كما كسر أول عِين وبيض طلباً للتخفيف ، إذ الكسرة والياء أخف من الضمة والواو كما قالوا بيوت وعصى هي في الأصل فعول بضم الفاء ، وتقول العرب : ضزته أضوزه فكان يلزم على هذا التصريف أن يكون ضوزى فعلى ، وفي جميع هذا نظر .
وقرأ ابن كثير : «ضئيزى » بالهمز على أنه مصدر كذكرى ، وقرأ الجمهور بغير همز .
وجملة { تلك إذا قسمة ضيزى } تعليل للإنكار والتهكم المفاد من الاستفهام في { ألكم الذكر وله الأنثى } ، أي قد جرتُم في القسمة وما عدلتم فأنتم أحقاء بالإِنكار .
والإِشارة ب { تلك } إلى المذكور باعتبار الإِخبار عنه بلفظ { قسمة } فإنه مؤنث اللفظ .
و { إذن } حرف جواب أريد به جواب الاستفهام الإِنكاري ، أي ترتب على ما زعمتم أن ذلك قسمة ضِيزى ، أي قسمتم قسمة جائرة .
و { ضيزى } : وزنه فُعْلى بضم الفاء من ضازة حَقَّه ، إذا نقصه ، وأصل عين ضاز همزة ، يقال : ضَأَزه حقه كمنعه ثم كثر في كلامهم تخفيف الهمزة فقالوا : ضَازهُ بالألف . ويجوز في مضارعه أن يكون يائي العين أو واويها قال الكسائي : يجوز ضَاز يضِيز ، وضَاز يضُوز . وكأنه يريد أن لك الخيار في المهموز العين إذا خفف أن تُلحقه بالواو أو الياء ، لكن الأكثر في كلامهم اعتبار العين ياء فقالوا : ضَازه حقه ضَيْزاً ولم يقولوا ضَوْزاً لأن الضوز لوك التمر في الفم ، فأرادوا التفرقة بين المصدرين ، وهذا من محاسن الاستعمال وعن المؤرّج السَّدُوسي كرهوا ضم الضاد في ضوزى فقالوا : ضيزى . كأنه يريد استثقلوا ضم الضاد ، أي في أول الكلمة مع أن لهم مندوحة عنه بالزنة الأخرى .
ووزن { ضيزى } : فُعْلى اسم تفضيل { مثل كُبْرى وطُوبى } أي شديدة الضيز فلما وقعت الياء الساكنة بعد الضمة حرّكوه بالكسر محافظة على الياء لئلا يقلبوها واواً فتصير ضوزى وهو ما كرهوه كما قال المؤرج . وهذا كما فعلوا في بيض جمع أبيض ولو اعتبروه تفضيلاً من ضاز يضوز لقالوا : ضُوزى ولكنهم أهملوه .
وقيل : وزن { ضِيزى } فِعلى بكسر الفاء على أنه اسم مثل دِفلى وشِعْرى ، ويبعِّد هذا أنه مشتق فهو بالوصفية أجدر . قال سيبويه : لا يوجد فِعلَى بكسر الفاء في الصفات ، أو على أنه مصدر مثل ذِكرى وعلى الوجهين كسرته أصلية .
وقرأ الجمهور { ضيزى } بياء ساكنة بعد الضاد . وقرأه ابن كثير بهمزة ساكنة بعد الضاد مراعاة لأصل الفعل كما تقدم آنفاً . وهذا وسم لهم بالجور زيادة على الكفر لأن التفكير في الجور كفعله فإن تخيلات الإِنسان ومعتقداته عنوان على أفكاره وتصرفاته .