{ قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ } أي : الرؤساء الأغنياء المتبوعون الذين قد جرت العادة باستكبارهم على الحق ، وعدم انقيادهم للرسل ، { إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ } فلم يكفهم - قبحهم اللّه - أنهم لم ينقادوا له ، بل استكبروا عن الانقياد له ، وقدحوا فيه أعظم قدح ، ونسبوه إلى الضلال ، ولم يكتفوا بمجرد الضلال حتى جعلوه ضلالا مبينا واضحا لكل أحد .
وهذا من أعظم أنواع المكابرة ، التي لا تروج على أضعف الناس عقلا ، وإنما هذا الوصف منطبق على قوم نوح ، الذين جاءوا إلى أصنام قد صوروها ونحتوها بأيديهم ، من الجمادات التي لا تسمع ولا تبصر ، ولا تغني عنهم شيئا ، فنزلوها منزلة فاطر السماوات ، وصرفوا لها ما أمكنهم من أنواع القربات ، فلولا أن لهم أذهانا تقوم بها حجة اللّه عليهم لحكم عليهم بأن المجانين أهدى منهم ، بل هم أهدى منهم وأعقل ، فرد نوح عليهم ردا لطيفا ، وترقق لهم لعلهم ينقادون له فقال
فكيف كان استقبال المنحرفين الضالين من قوم نوح لهذه الدعوة الخالصة الواضحة المستقيمة ؟
( قال الملأ من قومه : إنا لنراك في ضلال مبين ) !
كما قال مشركو العرب لمحمد [ ص ] إنه صبأ ، ورجع عن دين إبراهيم !
وهكذا يبلغ الضال من الضلال أن يحسب من يدعوه إلى الهدى هو الضال ! بل هكذا يبلغ التبجح الوقحبعدما يبلغ المسخ في الفطر ! . . هكذا تنقلب الموازين ، وتبطل الضوابط ، ويحكم الهوى ؛ ما دام أن الميزان ليس هو ميزان الله الذي لا ينحرف ولا يميل .
وماذا تقول الجاهلية اليوم عن المهتدين بهدى الله ؟ إنها تسميهم الضالين ، وتعد من يهتدي منهم ويرجع بالرضى والقبول ! . . أجل من يهتدي إلى المستنقع الكريه ، وإلى الوحل الذي تتمرغ الجاهلية فيه !
وماذا تقول الجاهلية اليوم للفتاة التي لا تكشف عن لحمها ؟ وماذا تقول للفتى الذي يستقذر اللحم الرخيص ؟ إنها تسمي ترفعهما هذا ونظافتهما وتطهرهما " رجعية " وتخلفاً وجموداً وريفية ! وتحاول الجاهلية بكل ما تملكه من وسائل التوجيه والإعلام أن تغرق ترفعهما ونظافتهما وتطهرهما في الوحل الذي تتمرغ فيه في المستنقع الكريه !
وماذا تقول الجاهلية لمن ترتفع اهتماماته عن جنون مباريات الكرة ؛ وجنون الأفلام والسينما والتليفزيون وما إليه ؛ وجنون الرقص والحفلات الفارغة والملاهي ؟ إنها تقول عنه : إنه " جامد " . ومغلق على نفسه ، وتنقصه المرونة والثقافة ! وتحاول أن تجره إلى تفاهة من هذه ينفق فيها حياته . .
{ قَالَ الْمَلأ مِنْ قَوْمِهِ } أي : الجمهور والسادة والقادة والكبراء منهم : { إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ } أي : في دعوتك إيانا إلى ترك عبادة هذه الأصنام التي وجدنا عليها آباءنا . وهكذا حال الفجار إنما يرون الأبرار في ضلالة ، كما قال تعالى : { وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ } [ المطففين : 32 ] ، { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ } [ الأحقاف : 11 ] إلى غير ذلك من الآيات .
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ الْمَلاُ مِن قَوْمِهِ إِنّا لَنَرَاكَ فِي ضَلاَلٍ مّبِينٍ } .
وهذا خبر من الله جلّ ثناؤه عن جواب مشركي قوم نوح لنوح ، وهم الملأ والملأ : الجماعة من الرجال لا امرأة فيهم أنهم قالوا له حين دعاهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له : إنّا لَنَرَاكَ يا نوح فِي ضَلالٍ مُبِينٍ يعنون : في أمر زائل عن الحقّ ، مبين زواله عن قصد الحدّ لمن تأمّله .
و { الملأ } الجماعة الشريفة ، قال الطبري : لا امرأة فيهم ، وحكاه النقاش عن ثعلب في الملأ والرهط والنفر والقوم ، وقيل هم مأخوذون من أنهم يملؤون النفس والعين ، ويحتمل أن يكون من أنهم إذا تمالؤوا على أمر تم ، وقال سلمة بن سلامة بن وقش الأنصاري عند قفول رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة بدر إنما قتلنا عجائز صلعاً ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : «أولئك الملأ من قريش لو حضرت أفعالهم لاحتقرت فعلك » والملأ صفة غالبة وجمعه أملاء وليس من باب رهط وإن كانا اسمين للجمع لأن رهط لا واحد له من لفظه ، و «ملأ » يوجد من لفظه مالىء قال أحمد بن يحيى : المالىء الرجل الجليل الذي يملأ العين بجهرته فيجيء كعازب وخادم ورائح فإن أسماء جموعها عرب وخدم وروح ، وإن كان اللفظة من تمالأ القوم على كذا فهي مفارقة باب رهط ومنه قول علي رضي الله عنه : ما قتلت عثمان ولا مالأت في دمه ، وقال ابن عباس «الملؤ » بواو وكذلك هي في مصاحف الشام ، وقولهم لنراك يحتمل أن يجعل من رؤية البصر ، ويحتمل من رؤية القلب وهو الأظهر و { في ضلال } أي في إتلاف وجهالة بما نسلك .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.