التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي  
{قَالَ ٱلۡمَلَأُ مِن قَوۡمِهِۦٓ إِنَّا لَنَرَىٰكَ فِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٖ} (60)

بهذا الأسلوب المقنع المهذب دعا نوح قومه إلى وحدانية الله . فكيف كان ردهم عليه ؟ لقد ردوا عليه ردا سقيما حكاه القرآن في قوله : { قَالَ الملأ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } .

الملأ : الأشراف والسادة من القوم . سموا بذلك لأنهم يملأون العيون مهابة . وقيل : هم الرجال ليس فيهم نساء . والملأ : اسم جمع لا واحد له من لفظه : كرهط .

والجملة الكريمة مستأنفة ، كأنه قيل فماذا قالوا له ؟ فقيل : قال الملأ . . . إلخ والرؤية هنا قلبية ومفعولاها الضمير والظرف ، وقيل : بصرية فيكون الظرف في موضع الحال . أى : قال الأشراف من قوم نوح له عندما دعاهم إلى وحدانية الله : إنا لنراك بأمرك لنا بعبادة الله وحده وترك آلهتنا في انحراف بين عن طريق الحق والرشاد .

يقال : ضل الطريق يضل وضل عنه ضلالا وضلالة ، أى زل عنه فلم يهتدوا إليه ، وجعلوا الضلال ظرفا له { فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } مبالغة في وصفهم له وزادوا في المبالغة بأن أكدوا ذلك بالجملة المصدرة بإن ولام التأكيد .

ورحم الله ابن كثير فقد قال عند تفسيره لهذه الآية . وهكذا حال الفجار ، إنما يرون الأبرار في ضلالة ، كقوله - تعالى - : { وَإِذَا رَأَوْهُمْ قالوا إِنَّ هؤلاء لَضَالُّونَ } { وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَآ إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُواْ بِهِ فَسَيَقُولُونَ هاذآ إِفْكٌ قَدِيمٌ } إلى غير ذلك من الآيات .

{ ونادى أَصْحَابُ النار أَصْحَابَ الجنة أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ المآء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله قالوا إِنَّ الله حَرَّمَهُمَا عَلَى الكافرين الذين اتخذوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الحياة الدنيا فاليوم نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَآءَ يَوْمِهِمْ هذا وَمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ } .

إفاضة الماء : صبه ، ومادة الفيض فيها معنى الكثرة .

والمعنى : أن أهل النار - بعد أن أحاط بهم العذاب المهين - أخذوا يستجدون أهل الجنة بذلة وانكسار فيقولون لهم : أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله من طعام ، لكى نستعين بهما على ما نحن فيه من سموم وحميم .

وهنا يرد عليهم أهل الجنة بما يقطع آمالهم بسبب أعمالهم فيقولون لهم : إن الله منع كلا منهما على الكافرين ، الذين اتخذوا دينهم لهوا ولعبا ، أى الذين اتخذوا دينهم - الذي أمرهم الله باتباع أوامره واجتناب نواهيه - مادة للسخرية والتلهى ، وصرف الوقت فيما لا يفد ، فأصبح الدين - في زعمهم - صورة ورسوما لا تزكى نفساً ، ولا تطهر قلباً ، ولا تهذب خلقا وهم فوق ذلك قد غرتهم الحياة الدنيا - أى شغلتهم بمتعها ولذائذها وزينتها عن كل ما يقربهم إلى الله ، ويهديهم إلى طريقه القويم .

وقوله - تعالى - : { فاليوم نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَآءَ يَوْمِهِمْ هذا } معناه فاليوم نفعل بهم فعل الناسى بالمنسى من عدم الاعتناء بهم وتركهم في النار تركا كليا بسبب تركهم الاستعداد لهذا اليوم ، وبسبب جحودهم لآياتنا التي جاءتهم بها أنبياؤهم .

فالنسيان في حق الله - تعالى - مستعمل في لازمه ، بمعنى أن الله لا يجيب دعاءهم ، ولا يرحم ضعفهم وذلهم ، بل يتركهم في النار كما تركوا الإيمان والعمل الصالح في الدنيا .

وهكذا تسوق لنا السورة الكريمة مشاهد متنوعة لأهوال يوم القيامة ، فتحكى لنا أحوال الكافرين ، كما تصور لنا ما أعده الله للمؤمنين . كما تسوق لنا ما يدور بين الفريقين من محاورات ومناقشات فيها العبر والعظات { لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السمع وَهُوَ شَهِيد }