ولما كان العبد لا بد أن يغفل وينال منه الشيطان ، الذي لا يزال مرابطا ينتظر غرته وغفلته ، ذكر تعالى علامة المتقين من الغاوين ، وأن المتقي إذا أحس بذنب ، ومسه طائف من الشيطان ، فأذنب بفعل محرم أو ترك واجب - تذكر من أي باب أُتِيَ ، ومن أي مدخل دخل الشيطان عليه ، وتذكر ما أوجب اللّه عليه ، وما عليه من لوازم الإيمان ، فأبصر واستغفر اللّه تعالى ، واستدرك ما فرط منه بالتوبة النصوح والحسنات الكثيرة ، فرد شيطانه خاسئا حسيرا ، قد أفسد عليه كل ما أدركه منه .
ثم يتخذ السياق القرآني طريقاً آخر للإيحاء إلى نفس صاحب الدعوة بالرضى والقبول ، وذكر الله عند الغضب لأخذ الطريق على الشيطان ونزغه اللئيم :
( إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون ) . .
وتكشف هذه الآية القصيرة عن إيحاءات عجيبة ، وحقائق عميقة ، يتضمنها التعبير القرآني المعجز الجميل . . إن اختتام الآية بقوله : ( فإذا هم مبصرون )ليضيف معاني كثيرة إلى صدر الآية . ليس لها ألفاظ تقابلها هناك . . إنه يفيد أن مس الشيطان يعمي ويطمس ويغلق البصيرة . ولكن تقوى الله ومراقبته وخشية غضبه وعقابه . . تلك الوشيجة التي تصل القلوب بالله وتوقظها من الغفلة عن هداه . . تذكر المتقين . فإذا تذكروا تفتحت بصائرهم ؛ وتكشفت الغشاوة عن عيونهم : ( فإذا هم مبصرون ) . . إن مس الشيطان عمى ، وإن تذكر الله إبصار . . إن مس الشيطان ظلمة ، وإن الاتجاه إلى الله نور . . إن مس الشيطان تجلوه التقوى ، فما للشيطان على المتقين من سلطان . .
يخبر تعالى عن المتقين من عباده الذين أطاعوه فيما أمر ، وتركوا ما عنه زجر ، أنهم { إِذَا مَسَّهُمْ } أي : أصابهم " طيف " وقرأ آخرون : " طائف " ، وقد جاء فيه حديث ، وهما قراءتان مشهورتان ، فقيل : بمعنى واحد . وقيل : بينهما فرق ، ومنهم من فسر ذلك بالغضب ، ومنهم من فسره بمس الشيطان بالصرع ونحوه ، ومنهم من فسره بالهم بالذنب ، ومنهم من فسره بإصابة الذنب .
وقوله : { تَذَكَّرُوا } أي : عقاب الله وجزيل ثوابه ، ووعده ووعيده ، فتابوا وأنابوا ، واستعاذوا بالله ورجعوا إليه من قريب . { فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ } أي : قد استقاموا وصحوا مما كانوا فيه .
وقد أورد{[12558]} الحافظ أبو بكر بن مردويه هاهنا حديث محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : جاءت امرأة إلى النبي{[12559]} صلى الله عليه وسلم وبها طيف فقالت : يا رسول الله ، ادع الله أن يشفيني . فقال : " إن شئت دعوت الله فشفاك ، وإن شئت فاصبري ولا حساب عليك " . فقالت : بل أصبر ، ولا حساب علي .
ورواه غير واحد من أهل السنن ، وعندهم : قالت{[12560]} يا رسول الله ، إني أصرع وأتكشف ، فادع الله أن يشفيني . فقال{[12561]} إن شئت دعوت الله أن يشفيك ، وإن شئت صبرت ولك الجنة ؟ " فقالت : بل أصبر ، ولي الجنة ، ولكن{[12562]} ادع الله أن لا أتكشف ، فدعا لها ، فكانت لا تتكشف .
وأخرجه الحاكم في مستدركه ، وقال : صحيح على شرط مسلم ، ولم يخرجاه{[12563]}
وقد ذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمة " عمرو بن جامع " من تاريخه : أن شابًا كان يتعبد في المسجد ، فهويته امرأة ، فدعته إلى نفسها ، وما{[12564]} زالت به حتى كاد يدخل معها المنزل ، فذكر هذه الآية : { إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ } فخر مغشيًا عليه ، ثم أفاق فأعادها ، فمات . فجاء عمر فَعزَّى فيه أباه{[12565]} وكان قد دفن ليلا فذهب فصلى على قبره بمن معه ، ثم ناداه عمر فقال : يا فتى{[12566]} { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ } [ الرحمن : 46 ] وأجابه الفتى من داخل القبر : يا عمر ، قد أعطانيهما ربي ، عز وجل ، في الجنة مرتين{[12567]}
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنّ الّذِينَ اتّقَواْ إِذَا مَسّهُمْ طَائِفٌ مّنَ الشّيْطَانِ تَذَكّرُواْ فَإِذَا هُم مّبْصِرُونَ } . .
يقول تعالى ذكره : إنّ الّذِينَ اتّقَوْا الله من خلقه ، فخافوا عقابه بأداء فرائضه ، واجتناب معاصيه إذَا مَسّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشّيْطانِ تَذَكّرُوا يقول : إذا ألمّ بهم طيف من الشيطان من غضب أو غيره مما يصدّ عن واجب حقّ الله عليهم ، تذكّروا عقاب الله وثوابه ووعده ووعيده ، وأبصروا الحقّ فعملوا به ، وانتهوا إلى طاعة الله فيما فرض عليهم وتركوا فيه طاعة الشيطان .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : «طَيْفٌ » فقرأته عامة قرّاء أهل المدينة والكوفة : طائِفٌ على مثال فاعل ، وقرأه بعض المكيين والبصريين والكوفيين : «طَيْفٌ مِنَ الشّيْطانِ » .
واختلف أهل العلم بكلام العرب في فرق ما بين الطائف والطيف . قال بعض البصريين : الطائف والطيف سواء ، وهو ما كان كالخيال والشيء يلمّ بك . قال : ويجوز أن يكون الطيف مخففا عن طيّف مثل ميّت ومَيْت . وقال بعض الكوفيين : الطائف : ما طاف بك من وسوسة الشيطان ، وأما الطيف : فإنما هو من اللمم والممس . وقال آخر منهم : الطيف : اللمم ، والطائف : كلّ شيء طاف بالإنسان . وذُكر عن أبي عمرو بن العلاء أنه كان يقول : الطيف : الوسوسة .
قال أبو جعفر : وأولى القراءتين في ذلك عندي بالصواب قراءة من قرأ : طائِفٌ مِنَ الشّيْطانِ لأن أهل التأويل تأوّلوا ذلك بمعنى الغضب والزلة تكون من المطيف به . وإذا كان ذلك معناه كان معلوما إذ كان الطيف إنما هو مصدر من قول القائل : طاف يطيف ، أن ذلك خبر من الله عما يمسّ الذين اتقوا من الشيطان ، وإنما يمسهم ما طاف بهم من أسبابه ، وذلك كالغضب والوسوسة . وإنما يطوف الشيطان بابن آدم ليستزله عن طاعة ربه أو ليوسوس له ، والوسوسة والاستزلال هو الطائف من الشيطان ، وأما الطيف فإنما هو الخيال ، وهو مصدر من طاف يطيف ، ويقول : لم أسمع في ذلك طاف يَطيف ، ويتأوّله بأنه بمعنى الميت وهو من الواو . وحكى البصريون وبعض الكوفيين سماعا من العرب : طاف يطيف ، وطفت أطيف ، وأنشدوا في ذلك :
أنّى ألَمّ بِكَ الخَيالُ يَطِيفُ ***ومَطافُه لَكَ ذِكْرَةٌ وَشُعُوفُ
وأما أهل التأويل ، فإنهم اختلفوا في تأويله ، فقال بعضهم : ذلك الطائف هو الغضب . ذكر من قال ذلك .
حدثنا أبو كريب وابن وكيع ، قالا : حدثنا ابن يمان ، عن أشعث ، عن جعفر ، عن سعيد : إذَا مَسّهُمْ طائِفٌ قال : الطيف : الغضب .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عن محمد بن عبد الرحمن ، عن القاسم بن أبي بزّة ، عن مجاهد ، في قوله : «إذَا مَسهُمْ طَيْفٌ مِنَ الشّيْطانِ » قال : هو الغضب .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عبد الله بن رجاء ، عن ابن جريج ، عن عبد الله بن كثير ، عن مجاهد ، قال : الغضب .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : إذَا مسّهُمْ طَيْفٌ مِنَ الشّيْطانِ تَذَكّرُوا قال : هو الغضب .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : طائِفٌ مِنَ الشّيْطانِ قال : الغضب .
وقال آخرون : هو اللّمة والزلة من الشيطان . ذكر من قال ذلك .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : إنّ الّذِينَ اتّقَوْا إذَا مَسهُمْ طائِفٌ مِنَ الشّيْطانِ تَذَكّرُوا الطائف : اللمة من الشيطان . فإذَا هُمْ مُبْصِرُونَ .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : إنّ الّذِينَ اتّقَوْا إذَا مَسّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشّيْطانِ يقول : نزغ من الشيطان . تَذَكّرُوا .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : إنّ الّذِينَ اتّقَوْا إذَا مَسّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشّيْطانِ تَذَكّرُوا يقول : إذا زلوا تابوا . .
قال أبو جعفر : وهذان التأويلان متقاربا المعنى ، لأن الغضب من استزلال الشيطان . واللمة من الخطيئة أيضا منه ، وكان ذلك من طائف الشيطان . وإذ كان ذلك كذلك ، فلا وجه لخصوص معنى منه دون معنى ، بل الصواب أن يعُمّ كما عمه جلّ ثناؤه ، فيقال : إن الذين اتقوا إذا عرض لهم عارض من أسباب الشيطان ما كان ذلك العارض ، تذكروا أمر الله وانتهوا إلى أمره .
وأما قوله : فإذَا هُمْ مُبْصِرُونَ فإنه يعني : فإذا هم مبصرون هدى الله وبيانه وطاعته فيه ، فمنتهون عما دعاهم إليه طائف الشيطان . كما :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : فإذَا هُمْ مُبْصِرُونَ يقول : إذا هم منتهون عن المعصية ، آخذون بأمر الله ، عاصون للشيطان .
{ إن الذين اتقوا إذا مسّهم طائف من الشيطان } لمة منه ، وهو اسم فاعل من طاف يطوف كأنها طافت بهم ودارت حولهم فلم تقدر أن تؤثر فيهم ، أو من طاف به الخيال يطيف طيفا . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي ويعقوب " طيف " على أنه مصدر أو تخفيف " طيف " كلين وهين ، والمراد بالشيطان الجنس ولذلك جمع ضميره . { تذكّروا } ما أمر الله به ونهى عنه . { فإذا هم مبصرون } بسبب التذكر مواقع الخطأ ومكايد الشيطان فيتحرزون عنها ولا يتبعونه فيها ، والآية تأكيد وتقرير لما قبلها وكذا قوله : { وإخوانهم يمدّونهم } .