9- أَلَزِمُوا وطنهم ولم يسيروا في أرجاء الأرض ليشاهدوا كيف كانت نهاية الذين كفروا من قبلهم ؟ كانوا أشد من هؤلاء الكافرين الحاضرين قوة ، وقلبوا وجه الأرض ، ليستخرجوا ما فيها من مياه ومعادن وزروع ، وعمروا الأرض أكثر مما عمرها هؤلاء ، وجاءتهم رسل الله بالمعجزات الواضحات فكفروا ، فأخذهم الله - لأنه ما كان ليجزيهم من غير ذنب ، ولا ليأخذهم قبل تذكيرهم وإمهالهم - ولكن كان هؤلاء لا يظلمون إلا أنفسهم .
ولهذا نبههم على السير في الأرض والنظر في عاقبة الذين كذبوا رسلهم وخالفوا أمرهم ممن هم أشد من هؤلاء قوة وأكثر آثارا في الأرض من بناء قصور ومصانع ومن غرس أشجار ومن زرع وإجراء أنهار ، فلم تغن عنهم قوتهم ولا نفعتهم آثارهم حين كذبوا رسلهم الذين جاءوهم بالبينات الدالات على الحق وصحة ما جاءوهم به ، فإنهم حين ينظرون في آثار أولئك لم يجدوا إلا أمما بائدة وخلقا مهلكين ومنازل بعدهم موحشة وذم من الخلق عليهم متتابع . وهذا جزاء معجل نموذج للجزاء الأخروي ومبتدأ له .
وكل هذه الأمم المهلكة لم يظلمهم اللّه بذلك الإهلاك وإنما ظلموا أنفسهم وتسببوا في هلاكها .
ومن هذه الجولة في ضمير السماوات والأرض وما بينهما . وهي جولة بعيدة الآماد والآفاق في هيكل الكون الهائل ، وفي محتوياته المنوعة ، الشاملة للأحياء والأشياء ، والأفلاك والأجرام ، والنجوم والكواكب ، والجليل والصغير ، والخافي والظاهر ، والمعلوم والمجهول . . . من هذه الجولة البعيدة في ضمير الكون ينقلهم إلى جولة أخرى في ضمير الزمان ، وأبعاد التاريخ ، يرون فيها طرفا من سنة الله الجارية ، التي لا تتخلف مرة ولا تحيد :
أو لم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم ، كانوا أشد منهم قوة ؛ وأثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمروها ؛ وجاءتهم رسلهم بالبينات ، فما كان الله ليظلمهم ، ولكن كانوا أنفسهم يظلمون . ثم كان عاقبة الذين أساءوا السوأى ، أن كذبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزئون . .
وهي دعوة إلى التأمل في مصائر الغابرين ؛ وهم ناس من الناس ، وخلق من خلق الله ، تكشف مصائرهم الماضية عن مصائر خلفائهم الآتية . فسنة الله هي سنة الله في الجميع . وسنة الله حق ثابت يقوم عليه هذا الوجود ، بلا محاباة لجيل من الناس ، ولا هوى يتقلب فتتقلب معه العواقب . حاشا لله رب العالمين !
وهي دعوة إلى إدراك حقيقة هذه الحياة وروابطها على مدار الزمان ، وحقيقة هذه الإنسانية الموحدة المنشأ والمصير على مدار القرون . كي لا ينعزل جيل من الناس بنفسه وحياته ، وقيمه وتصوراته ، ويغفل عن الصلة الوثيقة بين أجيال البشر جميعا ، وعن وحدة السنة التي تحكم هذه الأجيال جميعا ؛ ووحدة القيم الثابتة في حياة الأجيال جميعا .
فهؤلاء أقوام عاشوا قبل جيل المشركين في مكة ( كانوا أشد منهم قوة ) . . ( وأثاروا الأرض ) . . فحرثوها وشقوا عن باطنها ، وكشفوا عن ذخائرها ( وعمروها أكثر مما عمروها ) . . فقد كانوا أكثر حضارة من العرب ، وأقدر منهم على عمارة الأرض . . . ثم وقفوا عند ظاهر الحياة الدنيا لا يتجاوزونه إلى ما وراءه : ( وجاءتهم رسلهم بالبينات ) . . ، فلم تتفتح بصائرهم لهذه البينات ؛ و لم يؤمنوا فتتصل ضمائرهم بالنور الذي يكشف الطريق . فمضت فيهم سنة الله في المكذبين ؛ ولم تنفعهم قوتهم ؛ ولم يغن عنهم علمهم ولا حضارتهم ؛ ولقوا جزاءهم العادل الذي يستحقونه : ( فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ) . .
ثم نبههم على صدق رسله فيما جاءوا به عنه ، بما أيدهم به من المعجزات ، والدلائل{[22780]} الواضحات ، من إهلاك مَنْ كفر بهم ، ونجاة مَنْ صدقهم ، فقال : { أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ } أي : بأفهامهم وعقولهم ونظرهم وسماعهم أخبار الماضين ؛ ولهذا قال : { فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً } أي : كانت الأمم الماضية والقرون السالفة أشد منكم - أيها المبعوث إليهم محمد صلوات الله وسلامه عليهٍّ- {[22781]} وأكثر أموالا وأولادا ، وما أوتيتم معشار ما أوتوا ، ومُكنوا في الدنيا تمكينا لم تبلغوا إليه ، وعمروا فيها أعمارًا طوالا فعمروها أكثر منكم . واستغلوها أكثر من استغلالكم ، ومع هذا لما جاءتهم رسلهم بالبينات وفرحوا بما أوتوا ، أخذهم الله بذنوبهم ، وما كان لهم من الله مِنْ واق ، ولا حالت أموالهم ولا أولادهم بينهم وبين بأس{[22782]} الله ، ولا دفعوا عنهم مثقال ذرة ، وما كان الله ليظلمهم فيما أحل بهم من العذاب والنكال { وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } أي : وإنما أوتوا من أنفسهم حيث كذبوا بآيات الله ، واستهزؤوا بها ، وما ذاك إلا بسبب ذنوبهم السالفة وتكذيبهم المتقدم . ولهذا قال : { ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوءَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ } ،
القول في تأويل قوله تعالى : { أَوَلَمْ يَسيرُواْ فِي الأرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوَاْ أَشَدّ مِنْهُمْ قُوّةً وَأَثَارُواْ الأرْضَ وَعَمَرُوهَآ أَكْثَرَ مِمّا عَمَرُوهَا وَجَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيّنَاتِ فَمَا كَانَ اللّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلََكِن كَانُوَاْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } .
يقول تعالى ذكره : أَوَ لم يسر هؤلاء المكذّبون بالله ، الغافلون عن الاَخرة من قريش في البلاد التي يسلكونها تجرا ، فينظروا إلى آثار الله فيمن كان قبلهم من الأمم المكذّبة ، كيف كان عاقبة أمرها في تكذيبها رسلها ، فقد كانوا أشدّ منهم قوّة ، وأثاروا الأرض يقول : واستخرجوا الأرض ، وحرثوها وعمروها أكثر مما عمر هؤلاء ، فأهلكهم الله بكفرهم وتكذيبهم رسلهم ، فلم يقدروا على الامتناع ، مع شدّة قواهم مما نزل بهم من عقاب الله ، ولا نفعتهم عمارتهم ما عمروا من الأرض ، إذ جاءتهم رسلهم بالبينات من الاَيات ، فكذّبوهم ، فأحلّ الله بهم بأسه ، فما كان الله ليظلمهم بعقابه إياهم على تكذيبهم رسله وجحودهم آياته ، ولكن كانوا أنفسهم يظلمون بمعصيتهم ربهم . وبنحو الذي قلنا في تأويل قوله وأثارُوا الأرْضَ قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : أوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أشَدّ مِنْهُمْ قُوّةً ، وأثارُوا الأرْضَ وَعَمرُوها أكْثَرَ مِمّا عَمَرُوها قال : ملكوا الأرض وعمروها .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد وأثارُوا الأرْضَ قال : حرثوها .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة أو لَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ . . . إلى قوله وأثارُوا الأرْضَ وَعمَرُوها كقوله : وآثارا فِي الأرْضِ ، قوله : وَعمَرُوها أكثر مما عمر هؤلاء وَجاءَتهُمْ رُسُلُهُمْ بالْبَيّناتِ .