ولما كان العبد ، -ولو حرص على الاستقامة- لا بد أن يحصل منه خلل بتقصير بمأمور ، أو ارتكاب منهي ، أمره بدواء ذلك بالاستغفار المتضمن للتوبة فقال : { وَاسْتَغْفِرُوهُ } ثم توَّعد من ترك الاستقامة فقال : { وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الذين لا يؤتون الزكاة } أي : الذين عبدوا من دونه من لا يملك نفعًا ولا ضرًا ، ولا موتًا ، ولا حياة ، ولا نشورًا ودنسوا أنفسهم ، فلم يزكوها بتوحيد ربهم والإخلاص له ، ولم يصلوا ولا زكوا ، فلا إخلاص للخالق بالتوحيد والصلاة ، ولا نفع للخلق بالزكاة وغيرها . { وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هم كَافِرُونَ } أى : لا يؤمنون بالبعث ، ولا بالجنة والنار ، فلذلك لما زال الخوف من قلوبهم ، أقدموا على ما أقدموا عليه ، مما يضرهم في الآخرة .
إن أقصى ما كان الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] يؤمر به في مقابلة التبجح والاستهتار أن يقول :
( وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم كافرون ) . .
وتخصيص الزكاة في هذا الموضع لا بد كانت له مناسبة حاضرة ، لم نقف عليها ، فهذه الآية مكية . والزكاة لم تفرض إلا في السنة الثانية من الهجرة في المدينة . وإن كان أصل الزكاة كان معروفاً في مكة . والذي جد في المدينة هو بيان أنصبتها في المال ، وتحصيلها كفريضة معينة . أما في مكة فقد كانت أمراً عاماً يتطوع به المتطوعون ، غير محدود ، وأداؤه موكول إلى الضمير . . أما الكفر بالآخرة فهو عين الكفر الذي يستحق الويل والثبور .
وقد ذكر بعضهم أن المقصود بالزكاة هنا الإيمان والطهارة من الشرك . وهو محتمل كذلك في مثل هذه الظروف .
يقول تعالى ذكره : قل يا محمد لهؤلاء المعرضين عن آيات الله من قومك : أيها القوم ، ما أنا إلا بشر من بني آدم مثلكم في الجنس والصورة والهيئة لست بمَلك يُوحَى إليّ يوحي الله إليّ أن لا معبود لكم تصلح عبادته إلا معبود واحد فاسْتَقِيمُوا إلَيْهِ يقول : فاستقيموا إليه بالطاعة ، ووجهوا إليه وجوهكم بالرغبة والعبادة دون الاَلهة والأوثان وَاسْتَغْفِرُوهُ يقول : وسلوه العفو لكم عن ذنوبكم التي سلفت منكم بالتوبة من شرككم ، يتب عليكم ويغفر لكم .
وقوله : وَوَيْلٌ للْمُشْرِكِينَ الّذِينَ لا يُوءْتَونَ الزّكاةَ وَهُمْ بالاَخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ يقول تعالى ذكره : وصديد أهل النار ، وما يسيل منهم للمدعين لله شريكا العابدين الأوثان دونه الذين لا يؤتون الزكاة .
اختلف أهل التأويل في ذلك ، فقال بعضهم : معناه : الذي لا يعطون الله الطاعة التي تطهرهم ، وتزَكّي أبدانهم ، ولا يوحدونه وذلك قول يُذكر عن ابن عباس . ذكر الرواية بذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : وَوَيْلٌ للْمُشْرِكِينَ الّذِينَ لا يُوءْتُونَ الزّكاةَ قال : هم الذين لا يشهدون أن لا إله إلا الله .
حدثني سعد بن عبد الله بن عبد الحكم ، قال : حدثنا حفص ، قال : حدثنا الحكم بن أبان ، عن عكرمة ، قوله : وَوَيْلٌ للْمُشْرِكِينَ الّذِينَ لا يُوءْتُونَ الزّكاةَ : الذين لا يقولون لا إله إلا الله .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : الذين لا يقرّون بزكاة أموالهم التي فرضها الله فيها ، ولا يعطونها أهلها . وقد ذكرنا أيضا قائلي ذلك قبلُ . وقد :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَوَيْلٌ للْمُشْرِكِينَ الّذِينَ لا يُوءْتُونَ الزّكاةَ قال : لا يقرّون بها ولا يؤمنون بها . وكان يقال : إن الزكاة قنطرة الإسلام ، فمن قطعها نجا ، ومن تخلف عنها هلك وقد كان أهل الردّة بعد نبيّ الله قالوا : أما الصلاة فنصلّي ، وأما الزكاة فوالله لا تغصب أموالنا قال : فقال أبو بكر : والله لا أفرّق بين شيء جمع الله بينه واللّهِ لو منعوني عِقالاً مما فرض الله ورسوله لقاتلناهم عليه .
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ وَوَيْلٌ للْمُشْرِكِينَ الّذِينَ لا يُوءْتُونَ الزّكاةَ قال : لو زَكّوا وهم مشركون لم ينفعهم .
والصواب من القول في ذلك ما قاله الذين قالوا : معناه : لا يؤدّون زكاة أموالهم وذلك أن ذلك هو الأشهر من معنى الزكاة ، وأن في قوله : وَهُمْ بالاَخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ دليلاً على أن ذلك كذلك ، لأن الكفار الذين عنوا بهذه الاَية كانوا لا يشهدون أن لا إله إلا الله ، فلو كان قوله : الّذِينَ لا يُوءْتُونَ الزّكاةَ مرادا به الذين لا يشهدون أن لا إله إلا الله لم يكن لقوله : وَهُمْ بالاَخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ معنى ، لأنه معلوم أن من لا يشهد أن لا إله إلا الله لا يؤمن بالاَخرة ، وفي اتباع الله قوله : وَهُمْ بالاَخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ قوله : الّذِينَ لا يُوءْتُونَ الزّكاةَ ما ينبىء عن أن الزكاة في هذا الموضع معنيّ بها زكاة الأموال .
وقوله : وَهُمْ بالاَخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ يقول : وهم بقيام الساعة ، وبعث الله خلقه أحياء من قبورهم ، من بعد بلائهم وفنائهم منكرون .
ويعلم من هذا أن مانع الزكاة من المسلمين له حظ من الويل الذي استحقه المشركون لمنعهم الزكاة في ضمن شركهم ، ولذلك رأى أبو بكر قتال مانعي الزكاة ممن لم يرتدوا عن الإسلام ومنَعوا الزكاة مع المرتدين ، ووافقه جميع أصحاب رسول صلى الله عليه وسلم ف { الزكاة } في الآية هي الصدقة لوقوعها مفعول { يؤتون } ، ولم تكن يومئذٍ زكاة مفروضة في الإسلام غير الصدقة دون تعيين نُصُببٍ ولا أصناففِ الأرزاق المزكّاةِ ، وكانت الصدقة مفروضة على الجملة ، ولبعض الصدقة ميقات وهي الصدقة قبل مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم قال تعالى : { يأيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة } [ المجادلة : 12 ] .
وجملة { وهُمْ بالآخِرَةِ هُمْ كافرون } إما حال من ضمير { يؤتون } وإما معطوفة على الصلة . وضمير { هُمْ كافرون } ضمير فصل لا يفيد هنا إلا توكيد الحكم ويشبه أن يكون هنا توكيداً لفظياً لا ضميرَ فصل ومثله قوله : { وهم بالآخرة هم كافرون } في سورة يوسف ( 37 ) ، وقوله : { إنني أنا اللَّه } في سورة طه ( 14 ) .
وتقديم { بِالآخِرَة } على متعلقه وهو { كافرون } لإِفادة الاهتمام .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.