{ وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ } أي : المملوء ماء ، قد سجره الله ، ومنعه من أن يفيض على وجه الأرض ، مع أن مقتضى الطبيعة ، أن يغمر وجه الأرض ، ولكن حكمته اقتضت أن يمنعه عن الجريان والفيضان ، ليعيش من على وجه الأرض ، من أنواع الحيوان وقيل : إن المراد بالمسجور ، الموقد الذي يوقد [ نارا ] يوم القيامة ، فيصير نارا تلظى ، ممتلئا على عظمته وسعته من أصناف العذاب .
وقوله : وَالبَحْرِ المَسْجُورِ اختلف أهل التأويل في معنى البحر المسجور ، فقال بعضهم : الموقد . وتأوّل ذلك : والبحر الموقد المحمّي . ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، عن داود ، عن سعيد بن المسيب ، قال : قال عليّ رضي الله عنه لرجل من اليهود : أين جهنم ؟ فقال : البحر ، فقال : ما أراه إلا صادقا ، والبَحْرِ المَسْجورِ وَإذَا البِحارِ سُجِرَتْ مخففة .
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا يعقوب ، عن حفص بن حُمَيد ، عن شمر بن عطية ، في قوله : وَالبَحْرِ المَسْجُورِ قال : بمنزلة التنّور المسجور .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد وَالبَحْرِ المَسْجُورِ قال : الموقَد .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَالبَحْرِ المَسْجُورِ قال : الموقد ، وقرأ قول الله تعالى : وَإذَا البِحارُ سُجّرَتْ قال : أوقدت .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : وإذا البحار مُلئت ، وقال : المسجور : المملوء . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَالبَحْرِ المَسْجُورِ الممتلىء .
وقال آخرون : بل المسجور : الذي قد ذهب ماؤه . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس في قوله : والبَحْرِ المَسْجُورِ قال : سجره حين يذهب ماؤه ويفجر .
وقال آخرون : المسجور : المحبوس . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، في قوله : وَالبَحْرِ المَسْجُورِ يقول : المحبوس .
وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب قول من قال : معناه : والبحر المملوء المجموع ماؤه بعضه في بعض ، وذلك أن الأغلب من معاني السجر : الإيقاد ، كما يقال : سجرت التنور ، بمعنى : أوقدت ، أو الامتلاء على ما وصفت ، كما قال لبيد :
فَتَوَسّطا عُرْضَ السّرِيّ وَصَدّعا *** مَسْجُورَةً مُتَجاوِرا قُلاّمُها
وكما قال النمر بن تولَب العُكْليّ :
إذَا شاءَ طالَعَ مَسْجُورَةً *** تَرَى حَوْلَها النّبْعَ والسّا سمَا
سَقْتْها رَوَاعِدُ مِنْ صَيّفٍ *** وَإنْ مِنْ خَرِيفٍ فَلَنْ يَعْدَما
فإذا كان ذلك الأغلب من معاني السّجْر ، وكان البحر غير مُوقَد اليوم ، وكان الله تعالى ذكره قد وصفه بأنه مسجور ، فبطل عنه إحدى الصفتين ، وهو الإيقاد صحّت الصفة الأخرى التي هي له اليوم ، وهو الامتلاء ، لأنه كلّ وقت ممتلىء .
وقيل : إن هذا البحر المسجور الذي أقسم به ربنا تبارك وتعالى بحر في السماء تحت العرش . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن أبي صالح ، عن عليّ والبَحْرِ المَسْجُورِ قال : بحر في السماء تحت العرش .
قال : ثنا مهران ، قال : وسمعته أنا من إسماعيل ، قال : حدثنا مهران عن سفيان ، عن ليث ، عن مجاهد ، عن عبد الله بن عمرو وَالبَحْرِ المَسْجُورِ قال : بحر تحت العرش .
حدثني محمد بن عمارة ، قال : حدثنا عبيد الله بن موسى ، قال : أخبرنا إسماعيل بن أبي خالد ، عن أبي صالح في قوله : والبَحْرِ المَسْجُورِ قال : بحر تحت العرش .
والبحر : يجوز أن يراد به البحر المحيط بالكرة الأرضية . وعندي : أن المراد بحر القلزم ، وهو البحر الأحمر ومناسبة القَسَم به أنه به أُهلك فرعون وقومه حين دخله موسى وبنو إسرائيل فلحق بهم فرعون .
و { المَسجور } : قيل المملوءُ ، مشتقاً من السَّجر ، وهم الملء والإِمداد . فهو صفة كاشفة قصد منها التذكير بحال خلق الله إياه مملوءاً ماء دون أن تملأه أودية أو سيول ، أو هي للاحتراز عن إرادة الوادي إذ الوادي ينقص فلا يبقى على ملئه وذلك دال على عظم القدرة .
والظاهر عندي : أن وصفه بالمسجور للإِيماء إلى الحالة التي كان بها هلاك فرعون بعد أن فَرق الله البحر لموسى وبني إسرائيل ثم أسجره ، أي أفاضه على فرعون وملئه .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
عن الحسن في قوله: {والبحر المسجور} قال: المملوء.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"وَالبَحْرِ المَسْجُورِ "اختلف أهل التأويل في معنى البحر المسجور؛
فقال بعضهم: الموقد. وتأوّل ذلك: والبحر الموقد المحمّي... قال: قال ابن زيد، في قوله: "وَالبَحْرِ المَسْجُورِ" قال: الموقد، وقرأ قول الله تعالى: "وَإذَا البِحارُ سُجّرَتْ" قال: أوقدت.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: وإذا البحار مُلئت، وقال: المسجور: المملوء...
وقال آخرون: بل المسجور: الذي قد ذهب ماؤه...
وقال آخرون: المسجور: المحبوس...
وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب قول من قال: معناه: والبحر المملوء المجموع ماؤه بعضه في بعض، وذلك أن الأغلب من معاني السجر: الإيقاد، كما يقال: سجرت التنور، بمعنى: أوقدت، أو الامتلاء على ما وصفت...
فإذا كان ذلك الأغلب من معاني السّجْر، وكان البحر غير مُوقَد اليوم، وكان الله تعالى ذكره قد وصفه بأنه مسجور، فبطل عنه إحدى الصفتين وهو الإيقاد، صحّت الصفة الأخرى التي هي له اليوم، وهو الامتلاء، لأنه كلّ وقت ممتلئ.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{والبحر المسجور} قال أهل الأدب: هو البحر الملآن الحارّ لأنه، جل وعلا، منذ أنشأه حارًّا ممتلئا عميقا، لم يتغيّر في وقت من الأوقات ولا في حال من الأحوال. بل كان على حالة واحدة حارًّا مالحا ممتلئا عميقا عريضا، ليس كسائر الأنهار التي ربما تتغير عن جهتها من قلة الماء وسكونه وغورِها في الأرض وامتلائها من الطين وحاجتها إلى الحفر وغير ذلك من التغيّر الذي يكون بها.
فأما البحر فهو على حالة واحدة في الأحوال كلها.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{المسجور} المملوء. وهذا معروف في اللغة. ورجحه الطبري بوجود نار البحر كذلك، وإلى هذا يعود القول الأول لأن قولهم: سجرت التنور معناه: ملأتها بما يحترق ويتقد.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ} أي: المملوء ماء، قد سجره الله، ومنعه من أن يفيض على وجه الأرض، مع أن مقتضى الطبيعة، أن يغمر وجه الأرض، ولكن حكمته اقتضت أن يمنعه عن الجريان والفيضان، ليعيش من على وجه الأرض، من أنواع الحيوان.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
وممّا يلفت النظر أنّ المفسّرين لم يتناولوا بالبحث علاقة هذه الأقسام الخمسة فيما بينها، إلاّ أنّ الظاهر أنّ الأقسام الثلاثة الأول بينها ارتباط وعلاقة، لأنّها جميعاً تتحدّث عن الوحي وخصوصياته، فالطور محلّ نزول الوحي، والكتاب المسطور إشارة إلى الكتاب السماوي أيضاً، سواءً كان التوراة أو القرآن، والبيت المعمور هو محلّ ذهاب وإيّاب الملائكة ورُسِل وحي الله. أمّا القَسَمان الآخران فيتحدّثان عن الآيات التكوينية في مقابل الأقسام الثلاثة التي كانت تتحدّث عن الآيات التشريعيّة. وهذان القَسَمان واحد منهما يشير إلى أهمّ دلائل التوحيد وعلائمه وهو «السماء» بعظمتها، والآخر يشير واحد من علائم المعاد المهمّة ودلائله، وهو الواقع بين يدي القيامة!. فبناءً على هذا فإنّ التوحيد والنبوّة والمعاد جمعت في هذه الأقسام [أو الأيْمان] الخمسة.