المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية  
{وَٱلۡبَحۡرِ ٱلۡمَسۡجُورِ} (6)

واختلف الناس في معنى : { المسجور } فقال مجاهد وشمر بن عطية{[10629]} معناه : الموقد ناراً . ( وروي أن البحر هو جهنم ){[10630]} . وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه ليهودي : أين جهنم ؟ فقال هي البحر ، فقال علي : ما أظنه إلا صادقاً ، وقرأ : { والبحر المسجور } ، [ ومنه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم «أن البحر طبق جهنم » ]{[10631]} . قال الثعلبي : وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «لا يركبن البحر إلا حاج أو معتمر أو مجاهد فإن تحت البحر ناراً » .

وفي حديث آخر : «فإن البحر نار في نار » . وقال قتادة : { المسجور } المملوء . وهذا معروف في اللغة . ورجحه الطبري بوجود نار البحر كذلك ، وإلى هذا يعود القول الأول لأن قولهم : سجرت التنور معناه : ملأتها بما يحترق ويتقد و : { البحر المسجور } المملوء ماء ، وهكذا هو معرض للعبرة ، ومن هذا قول النمر بن تولب : [ المتقارب ]

إذا شاء طالع مسجورة . . . ترى حولها النبع والسماسما

سقتها رواعد من صي . . . ف وإن من خريف فلن يعدما{[10632]}

يصف ثوراً أو عيناً مملوءة ماء ، وقال ابن عباس : هو الذي ذهب ماؤه ف { المسجور } : الفارغ ، ويروى أن البحار يذهب ماؤها يوم القيامة ، وهذا معروف في اللغة ، فهو من الأضداد{[10633]} وقيل يوقد البحر ناراً يوم القيامة فذلك هو سجره . وقال ابن عباس أيضاً : { المسجور } : المحبوس ، ومنه ساجور الكلب : وهو القلادة من عود أو حديد التي تمسكه ، وكذلك لولا أن البحر يمسك لفاض على الأرض . وقال علي بن أبي طالب أيضاً وعبد الله بن عمر رضي الله عنهما : البحر المقسم به هو في السماء تحت العرش ، والجمهور على أنه بحر الدنيا ، ويؤيد ذلك قوله تعالى : { وإذا البحار سجرت }{[10634]} [ التكوير : 6 ] .

وقال منذر بن سعيد : إن المعنى هو القسم بجهنم وسماها بحراً لسعتها وتموجها كما قال صلى الله عليه وسلم في الفرس : «وإن وجدناه لبحرا »{[10635]} .


[10629]:شِمر بن عطية-بكسر الشين المعجمة وسكون الميم- الأسدي، الكاهلي، الكوفي، قال عنه الحافظ العسقلاني في تقريب التهذيب:"صدوق من السادسة". وقد كتب في الأصول: سِمر-بالسين الخالية من النقط.
[10630]:أخرجه الإمام أحمد في مسنده، عن صفوان بن يعلى، عن أبيه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(البحر هو جهنم)، قالوا ليعلى، فقال: ألا ترون أن الله عز وجل يقول:{نارا أحاط بهم سُرادقها}، قال: لا والذي نفس يعلى بيده لا أدخلها أبدا حتى أُعرض على الله عز وجل، ولا يصيبني منها قطرة حتى ألقى الله عز وجل.(المسند4-223).
[10631]:ما بين العلامتين[....] سقط من أكثر النسخ، وأثبته النسخة التونسية، ولعله تكرار للحديث السابق تخريجه في الهامش قبل هذا.
[10632]:قال هذين البيتين النَّمر بن ولب العُكلي، وقد استشهد بهما أبو عبيدة في (مجاز القرآن)، وهو في البيتين يصف ثورا وعينا مملوءة بالماء كما قال المؤلف، ومسجورة: مملوءة، يريد أنه يشاهد عينا مملوءة بالماء، والنبع: نوع من الشجر خشبه متين ولهذا تتخذ منه القسي، والسماسم: الآبنوس أو شجر يشبهه، وكل من النبع والسماسم ينبت في أعالي الجبال، والضمير في "سقتها" يعود على العين، والرواعد: جمع راعدة، وهي السحابة الممطرة، وغالبا ما يكون معها صوت الرعد، والصيف: المطر الذي يأتي في الصيف، والخريف: الفصل المعروف الذي يأتي بعد الصيف وقبل الشتاء، وقول الشاعر:"وإن من خريف" يعني به أنه إذا لم تمتلئ العين من مطر الصيف فإنها تمتلئ من مطر الخريف...والمعنى أن هذا الثور يشاهد الماء في هذه العين المملوءة به إما من مطر الصيف وإما من مطر الخريف، فإنها دائما يملؤها الماء، والشاهد أن مسجورة بمعنى مملوءة.
[10633]:يأتي المسجور بمعنى الفارغ في اللغة، وقد روى عطية وذو الرومة الشاعر عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: خرجت أمة لتستقي، فقالت: إن الحوض مسجور، أي: فارغ، قال ابن أبي داود:"ليس لذي الرومة حديث إلا هذا"، وفي اللسان-سجر-"وبئر سَجرة: ممتلئة، والمسجور: الفارغ من كل ما تقدم، ضد، عن أبي علي، أبو زيد: المسجور يكون المملوء ويكون الذي ليس فيه شيء".
[10634]:الآية (6) من سورة (التكوير).
[10635]:أخرجه البخاري في الجهاد والأدب، ومسلم في الفضائل، وأبو داود في الأدب، والترمذي وابن ماجه في الجهاد، وأحمد في أكثر من موضع من مسنده، عن أنس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس، وكان أجود الناس، وكان أشجع الناس، قال: ولقد فزع أهل المدينة ليلة فانطلق قِبل الصوت، فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول للناس: لم تُراعوا، ولم تُراعوا، وقال للفرس: وجدناه بحرا، وإنه لبحر، قال أنس: وكان الفرس قبل ذلك يبطئ، قال: ما سُبق بعد ذلك.