بعد كل ذلك أخذت السورة الكريمة ، فى تصوير ما عليه المشركون من باطل وجهل وفى تبكيتهم على عبادتهم لأصنام لا تسمع ولا تبصر ، ولا تملك الدفاع عن نفسها فضلا عن غيرها . . . فقال - تعالى - :
{ أَفَرَأَيْتُمُ اللات . . . } .
والهمزة فى قوله : { أَفَرَأَيْتُمُ } للإنكار والتهكم ، والفاء لترتيب الرؤية على ما سبق ذكره من صفات جليلة لله - تعالى - تدل على وحدانيته ، وكمال قدرته ، ومن ثناء على النبى - صلى الله عليه وسلم - والرؤية هنا ، علمية ومفعلوها الثانى محذوف ، لدلالة قوله - سبحانه - { أَلَكُمُ الذكر وَلَهُ الأنثى } عليه .
و " اللات " اسم لصنم كان لثقيف بالطائف . قال الشاعر :
وفرت ثقيف إلى " لاتها " . . . بمنقلب الخائب الخاسر
وكان هذا الصنم على هيئة صخرة مربعة ، قد بنوا عليه بناء ونقشوا عليه نقوشا ، وكانت قريش وجمهور العرب ، يعظمونه ويعبدونه . . .
وكأنهم قد سموه بهذا الاسم ، على سبيل الاشتقاق من اسم الله - تعالى - فقالوا " اللات " قصداً للتأنيث .
و { والعزى } : فُعْلَى من العز . وهى اسم لصنم ، وقيل لشجرة حولها بناء وأستار ، وكانت بمكان يقال له نخلة ، بين مكة والطائف ، وكانت قريش تعظمها ، كما قال أبو سفيان يوم أحد " لنا العزى ولا عزى لكم " .
فقال - صلى الله عليه وسلم - قولوا له : " الله مولانا ولا مولى لكم " .
ولعلهم قد سموها بذلك . أخذا من لفظ العزيز ، أو من لفظ العز ، فهى تأنيث الأعز ، كالفضلى والأفضل .
وأما " مناة " فكانت صخرة ضخمة ، بمكان يقال له المشلل ، بين مكة والمدينة ، وكانت قبيلة خزاعة والأوس والخزرج فى جاهليتهم يعظمونها ويهلون منها للحج إلى الكعبة .
قالوا : وسميت بهذا الاسم ، لأن دماء الذبائح كانت تمنى عندها ، أى : تراق وتسكب .
والمعنى : لقد ذكرنا لكم - أيها المشركون - ما يدل على وحدانيتنا ، وكمال قدرتنا ، وسمو منزلة نبينا - صلى الله عليه وسلم - . . . فأخبرونى بعد ذلك ما شأن هذه الأصنام التى لا تضر ولا تنفع ، كاللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى . إنها أشياء فى غاية الحقارة والعجز ، فكيف سويتم بينها وبين الخالق - عز وجل - فى العبادة ، وكيف أبحتم لأنفسكم تعظيمها ، وزعمتم أنها بنات الله . . ؟ .
فالمقصود بالاستفهام التعجيب من أحوالهم ، والتجهيل لعقولهم .
ويصح أن تكون الرؤية فى قوله - سبحانه - { أَفَرَأَيْتُمُ } بصرية ، فلا تحتاج إلا لمفعول واحد . أى : انظروا بأعينكم إلى تلك الأصنام ، التى من أشهرها : اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى ، أترونها تملك الدفاع عن نفسها فضلا عن غيرها ؟ إنها لا تملك شيئا ، فكيف عظمتموها مع حقارتها وعجزها ؟
والاستفهام - أيضا - للتهكم بهم ، والتعجيب من تفكيرهم السقيم .
قال الآلوسى : والظاهر أن " الثالثة الأخرى : صفتان لمناة . وهما على ما قيل للتأكيد .
وقال بعض الأجلة : الثالثة للتأكيد . و { الأخرى } للذم بأنها متأخرة فى الرتبة ، وضيعة المقدار . . .
والكلام خطاب لعبدة هذه المذكورات ، وقد كانوا مع عبادتهم لها يقولون : إن الملائكة - عليهم السلام - وتلك المعبودات الباطلة ، بنات الله .
تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا فقيل لهم تويبخا وتبكيتا : { أَفَرَأَيْتُمُ اللات والعزى . . } الخ .
وأما { مناة } فعَلَم مرتجل ، وهو مؤنث فحقه أن يكتب بهاء تأنيث في آخره ويوقف عليه بالهاء ، ويكون ممنوعاً من الصرف ، وفيه لغة بالتاء الأصلية في آخره فيوقف عليه بالتاء ويكون مصروفاً لأن تاء لات مثل باء باب ، وأصله : مَنَواة بالتحريك وقد يمد فيقال : منآة وهو ممنوع من الصرف للعلمية والتأنيث . وقياس الوقف عليه أن يوقف عليه بالهاء ، وبعضهم يقف عليه بالتاء تبعاً لخط المصحف ، وكان صخرة وقد عبده جمهور العرب وكان موضعه في المشلل حذوَ قديد بين مكة والمدينة ، وكان الأوس والخزرج يطوفون حَوله في الحج عوضاً عن الصفا والمروة فلما حج المسلمون وسعَوا بين الصفا والمروة تحرج الأنصار من السعي لأنهم كانوا يسعون بين الصفا والمروة فنزل فيهم قوله تعالى : { إن الصفا والمروة من شعائر اللَّه فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما كما تقدم عن حديث عائشة في الموطأ } في سورة البقرة { 158 } .
وقرأ الجمهور { ومناة } بتاء بعد الألف . وقرأه ابن كثير بهمزة بعد الألف على إحدى اللغتين . والجمهور يقفون عليه بالتاء تبعاً لرسم المصحف فتكون التاء حرفاً من الكلمة غير علامة تأنيث فهي مثل تاء { اللات } ويجعلون رسمها في المصحف على غير قياس .
ووصفها بالثالثة لأنها ثالثة في الذّكر وهو صفة كاشفة ، ووصفها بالأخرى أيضاً صفة كاشفة لأن كونها ثالثة في الذكر غير المذكورتين قبلها معلوم للسامع ، فالحاصل من الصفتين تأكيدٌ ذكرها لأن اللات والعزى عند قريش وعند جمهور العرب أشهر من مناة لبعد مكان مناة عن بلادهم ولأن ترتيب مواقع بيوت هذه الأصنام كذلك ، فاللات في أعْلى تهامة بالطائف ، والعُزَّى في وسطها بنخلةَ بين مكة والطائف ، ومناة بالمُشلل بين مكة والمدينة فهي ثالثة البقاع .
وقال ابن عطية : كانت مناة أعظم هذه الأوثان قدراً وأكثرها عابداً ولذلك قال تعالى : { الثالثة الأخرى } فأكدها بهاتين الصفتين .
والأحسن أن قوله : { الثالثة الأخرى } جرى على أسلوب العرب إذا أخبروا عن متعدد وكان فيه من يظنّ أنه غير داخل في الخبر لعظمة أو تباعد عن التلبس بمثل ما تلبس به نظراؤه أن يختموا الخبر فيقولوا : « وفلانٌ هو الآخَر » ووجهه هنا أن عُبَّاد مناة كثيرون في قبائل العرب فنبه على أن كثرة عبدتها لا يزيدها قوة على بقية الأصنام في مقام إبطال إلهيتها وكل ذلك جار مجرى التهكم والتسفيه .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.