محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{وَمَنَوٰةَ ٱلثَّالِثَةَ ٱلۡأُخۡرَىٰٓ} (20)

{ ومناة الثالثة الأخرى } وهي صخرة كانت بالمشلل عند قديد ، بين مكة والمدينة ، وكانت خزاعة والأوس والخزرج في جاهليتها يعظّمونها ، ويهلون منها للحج إلى الكعبة .

روى البخاري عن عائشة نحوه .

قال ابن جرير :{[6831]} وكان بعض أهل المعرفة بكلام العرب من أهل البصرة يقول : اللات والعزى ومناة الثالثة ، أصنام من حجارة كانت في جوف الكعبة يعبدونها . انتهى .

تنبيهات :

الأول –قال القاضي : { مناة } فعلة ، من مناه إذا قطعه . فإنهم كانوا يذبحون عندها القرابين . ومنه سميت ( منى ) لأنه يمنى فيها القرابين ، أي ينحر .

وقال الزمخشريّ : وكأنها سميت { مناة } لأن دماء المناسك كانت تمنى عندها ، أي تراق . وقرئ { مناءة } مفعلة من ( النوء ) ، كأنهم كانوا يستمطرون عندها الأنواء تبركا بها .

فإن قيل : كونها ثالثة وأخرى مغايرة لما تقدمها ، معلوم غير محتاج للبيان .

وأجيب : بأنهما صفتان للتأكد ، أو { الثالثة } للتأكيد ، و { الأخرى } بيان لها ، لأنها مؤخرة رتبة عندهم ، عن اللات والعزى .

قال الناصر : { الأخرى } ما يثبت آخرا ، ولا شك أنه في الأصل مشتق من التأخير الوجوديّ ، إلا أن العرب عدلت به عن الاستعمال في التأخير الوجودي ، إلى الاستعمال ، حيث يتقدم ذكر مغاير لا غير حتى سلبته دلالته على المعنى الأصليّ ، بخلاف ( آخر ) و( آخرة ) ، على وزن فاعل وفاعلة ، فإن إشعارهما بالتأخير الوجوديّ ، ثابت لم يغير ، ومن ثم عدلوا عن أن يقولوا ربيع الآخر ، على وزن الأفعل ، وجمادى الأخرى ، إلى ربيع الآخر على وزن فاعل ، وجمادى الآخرة على وزن فاعلة ، لأنهم أرادوا أن يفهموا التأخير الوجودي ، لأن ( الأفعل ) و ( الفعلي ) من هذا الاشتقاق مسلوب الدلالة على غرضهم ، فعدلوا عنها إلى الآخر / والآخرة والتزموا ذلك فيهما . وهذا البحث مما كان الشيخ أبو عمرو بن الحاجب رحمه الله تعالى قد حرره آخر مدته ، وهو الحق إن شاء الله تعالى ، وحينئذ يكون المراد الإشعار بتقدم مغاير في الذكر مع ما نعتقده في الوفاء بفاصلة رأس الآية . انتهى .

الثاني – قال ابن كثير : كانت بجزيرة العرب وغيرها طواغيت أخر تعظمها العرب كتعظيم الكعبة ، غير هذه الثلاثة التي نص عليها في كتابه العزيز . وإنما أفرد هذه بالذكر لأنها أشهر من غيرها .

قال ابن إسحاق في ( السيرة ) : وقد كانت العرب اتخذت مع الكعبة طواغيت ، وهي بيوت تعظمها كتعظيم الكعبة ، لها سدنة وحجاب ، ويهدى لها كما يهدى للكعبة ، وتطوف بها كطوافها بها ، وتنحر عندها ، وهي تعرف فضل الكعبة عليها ، لأنها كانت قد عرفت أنها بيت إبراهيم عليه السلام ومسجده . فكانت لقريش ولبني كنانة { العزى } بنخلة ، وكانت سدنتها وحجابها بني شيبان من سليم حلفاء بني هاشم . وبعث إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد فهدمها وجعل يقول :

يا عُزَّ كفرانَكِ لا سبحانك *** إني رأيت الله قد أهانك

روى النسائيّ عن أبي الطفيل قال : ( لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة بعث خالد بن الوليد إلى نخلة ، وكانت بها العزى ، فأتاها خالد ، وكانت على ثلاث سمرات ، فقطع السمرات ، وهدم البيت الذي كان عليها ، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال : ارجع ، فإنك لم تصنع شيئا . فرجع خالد ، فلما أبصر السدنة وهم حجبتها ، أمعنوا في الحيل وهم يقولون : يا عزى ! يا عزى ! فأتاها خالد ، فإذا امرأة عريانة ناشرة شعرها . تحفن التراب على رأسها ، فغمسها بالسيف حتى قتلها . ثم رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال : تلك العزى ! ) .

قال ابن إسحاق : وكانت اللات لثقيف بالطائف ، وكان سدنتها وحجابها بني معتب . وقد بعث إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم المغيرة بن شعبة وأبا سفيان صخر بن حرب فهدماها . وجعلا مكانها مسجدا بالطائف .

/ قال ابن إسحاق : وكانت مناة للأوس والخزرج ومن دان بدينهم من أهل يثرب على ساحل البحر ، من ناحية المشلّل بقديد ، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها أبا سفيان ، صخر بن حرب فهدمها . ويقال : علي بن أبي طالب . انتهى .

الثالث- قال ابن جرير :{[6832]} اختلف أهل العربية في وجه الوقف على { اللات } و { منات } فكان بعض نحوييّ البصرة يقول : إذا سكت قلت اللات ، وكذلك مناة ، تقول منات . وقال : قال بعضهم : اللات ، فجعله من اللتّ الذي يلت . ولغة العرب يسكتون على ما فيه الهاء بالتاء ، يقولون : رأيت طلحت . وكل شيء مكتوب بالهاء فإنها تقف عليه بالتاء ، نحو نعمة ربك ، وشجرة . وكان بعض نحويي الكوفة يقف على { اللات } بالهاء . وكان غيره منهم يقول : الاختيار في كل ما لم يضف ، أن يكون بالهاء{[6833]} { رحمة من ربي } {[6834]} { وشجرة تخرج } . وما كان مضافا فجاز بالهاء والتاء ، فالتاء للإضافة ، والهاء لأنه يفرد ويوقف عليه دون الثاني ، وهذا القول الثالث أفشى اللغات وأكثرها في العرب ، وإن كان للأخرى وجه معروف . انتهى .


[6831]:انظر الصفحة رقم 60 من الجزء السابع والعشرين(طبعة الحلبي الثانية(
[6832]:انظر الصفحة رقم 59 من الجزء السابع والعشرين(طبعة الحلبي الثانية(.
[6833]:[18/ الكهف/ 98].
[6834]:[23/ المؤمنون/ 20].