الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَمَنَوٰةَ ٱلثَّالِثَةَ ٱلۡأُخۡرَىٰٓ} (20)

قوله : { وَمَنَاةَ } : قرأ ابن كثير " مَناءَة " بهمزةٍ مفتوحةٍ بعد الألف ، والباقون بألفٍ وحدَها ، وهي صخرةٌ كانت تُعْبَدُ من دونِ اللَّه . فأمَّا قراءةُ ابنِ كثير فاشتقاقُها من النَّوْء ، وهو المطرُ لأنهم يَسْتَمطرون عندها الأَنْواء ، ووزنُها حينئذٍ مَفْعَلَة فألفُها عن واوٍ ، وهمزتُها أصليةٌ ، وميمُها زائدةٌ . وأنشدوا على ذلك :

ألا هل أَتَى تَيْمَ بنَ عبدِ مَناءة *** علَى النَّأْيِ فيما بيننا ابنُ تميمِ

وقد أَنْكر أبو عبيد قراءةَ ابن كثير ، وقال : " لم أسمع الهمز " . قلت : قد سمعه غيرُه ، والبيتُ حُجَّةٌ عليه .

وأمَّا قراءةُ العامَّة فاشتقاقُها مِنْ مَنى يَمْني أي : صبَّ ؛ لأن دماءَ النَّسائِكِ كانت تُصَبُّ عندها ، وأنشدوا لجرير :

أزيدَ مَناةَ تُوْعِدُ يا بنَ تَيْمٍ *** تَأَمَّلْ أين تاهَ بك الوعيدُ

وقال أبو البقاء : " وألفه من ياءٍ لقولِك : مَنَى يَمْني إذا قدَّر ، ويجوز أَنْ تكونَ من الواو ، ومنه مَنَوان " فوزْنُها على قراءة القصر فَعْلة .

" والأُخْرى " صفةٌ لمَناة . قال أبو البقاء : " والأُخْرى توكيدٌ ؛ لأنَّ الثالثةَ لا تكونُ إلاَّ أُخرَى " . وقال الزمخشري : " والأُخْرى ذَمٌ وهي المتأخرةُ الوضيعةُ المقدارِ ، كقولِه : { قَالَتْ أُخْرَاهُمْ } [ الأعراف : 38 ] أي : وُضَعاؤُهم لأَشْرافِهم ، ويجوزُ أَنْ تكونَ الأَوَّليةُ والتقدمُ عندهم لِلاَّت والعُزَّى " . انتهى . وفيه نظرٌ ؛ لأنَّ الأخرى إنما تدلُّ على الغَيْرِيَّة وليس فيها تَعَرُّضٌ لمَدْح ولا ذَمٍّ ، فإن جاء شيءٌ مِنْ هذا فلقرينةٍ خارجيةٍ . وقيل : الأُخْرى صفةٌّ للعُزَّى ؛ لأنَّ الثانيةَ أُخْرى بالنسبة إلى الأُوْلى . وقال الحسين ابن الفضل : " فيه تقديمٌ وتأخيرٌ " أي : العُزَّى الأخرى ومناةَ الثالثة ، ولا حاجةَ إلى ذلك لأنَّ الأصلَ عدمُه .

و " أرأيت " بمعنى أَخْبِرْني فيتعدَّى لاثنين ، أوَّلُهما : " اللات وما عُطِف عليها .