وقوله - سبحانه - : { وَقَضَيْنَآ إلى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الكتاب لَتُفْسِدُنَّ فِي الأرض مَرَّتَيْنِ . . . } إخبار من الله - تعالى - لهم ، بما سيكون منهم ، حسب ما وقع فى علمه المحيط بكل شئ ، والذى ليس فيه إجبار أو قسر ، وإنما هو صفة انكشافية ، تنبئ عن مآلهم وأحوالهم .
قال أبو حيان : والفعل { قضى } يتعدى بنفسه إلى مفعول ، كقوله - تعالى - : { فَلَمَّا قضى مُوسَى الأجل . . } ولما ضُمِّن هنا معنى الإِيحاء أو الإِنفاذ تعدى بإلى أى : وأوحينا أو أنفذنا إلى بنى إسرائيل فى القضاء المحتوم المثبوت وعن ابن عباس : وأعلمناهم . . .
والمراد بالكتاب : التوراة ، وقيل اللوح المحفوظ .
واللام فى قوله { لتفسدن . . . } جواب قسم محذوف تقديره : والله لتفسدن .
ويجوز أن تكون جوابا لقوله - تعالى - : { وقضينا . . . } لأنه مضمن معنى القسم ، كما يقول القائل : قضى الله لأفعلن كذا ، فيجرى القضاء والقدر مجرى القسم . . .
والمقصود بالأرض : عمومها أو أرض الشام .
و { مرتين } منصوب على أنه مفعول مطلق لقوله : { لتفسدن } من غير لفظه ، والمراد لتفسدن إفسادتين وقوله - عز وجل - : { ولتعلن . . } من العلو وهو ضد السفل ، والمراد به هنا : التكبر والتجبر والبغى والعدوان .
والمعنى : وأخبرنا بنى إسرائيل فى كتابهم التوراة خبراً مؤكدا : وأوحينا إليهم بواسطة رسلنا ، بأن قلنا لهم : لتفسدن فى الأرض مرتين ، ولتستكبرون على الناس بغير حق ، استكبارا كبيرا ، يؤدى بكم إلى الخسران والدمار .
والتعبير عما يكون منهم من إفساد بالقضاء وأنه فى الكتاب ، يدل على ثبوته ، إذ أصل القضاء - كما يقول القرطبى - الإِحكام للشئ والفراغ منه .
وأكد إفسادهم واستعلاءهم بلام القسم ، للإِشعار بأنه مع ثبوته ووجوده فهو مصحوب بالتجبر والتكبر والبغى والعدوان .
وكان من مظاهر إفسادهم فى الأرض : تحريفهم للتوراة ، وتركهم العمل بما فيها من أحكام ، وقتلهم الأنبياء والمصلحين .
يقول تعالى : إنه قضى إلى بني إسرائيل في الكتاب ، أي : تقدم إليهم وأخبرهم في الكتاب الذي أنزله عليهم أنهم سيفسدون في الأرض مرتين ويعلون{[17231]} علوًا كبيرًا ، أي : يتجبرون ويطغون ويفجرون على الناس كما قال تعالى : { وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الأمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ } [ الحجر : 66 ] أي : تقدمنا إليه وأخبرناه بذلك وأعلمناه به .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَقَضَيْنَآ إِلَىَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنّ فِي الأرْضِ مَرّتَيْنِ وَلَتَعْلُنّ عُلُوّاً كَبِيراً * فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لّنَآ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلاَلَ الدّيَارِ وَكَانَ وَعْداً مّفْعُولاً } .
وقد بيّنا فيما مضى قبل أن معنى القضاء : الفراغ من الشيء ، ثم يستعمل في كلّ مفروغ منه ، فتأويل الكلام في هذا الموضع : وفرغ ربك إلى بني إسرائيل فيما أنزل من كتابه على موسى صلوات الله وسلامه عليه بإعلامه إياهم ، وإخباره لهم لَتُفْسِدُنّ فِي الأرْضِ مَرّتَيْنِ يقول : لتعصنّ الله يا معشر بني إسرائيل ولتخالفنّ أمره في بلاده مرّتين وَلَتَعْلُنّ عَلُوّا كَبِيرا يقول : ولتستكبرنّ على الله باجترائكم عليه استكبارا شديدا . وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قول الله : وَقَضَيْنا إلى بَنِي إسْرَائيِلَ قال : أعلمناهم .
حدثني عليّ بن داود ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، في قوله : وَقَضَيْنا إلى بَنِي إسْرَائِيلَ يقُول : أعلمناهم .
وقال آخرون : معنى ذلك : وقضينا على بني إسرائيل في أمّ الكتاب ، وسابق علمه . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، وَقَضَيْنا إلى بَنِي إسْرَائِيلَ قال : هو قضاء قضى عليهم .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سيعد ، عن قتادة ، قوله : وَقَضَيْنا إلى بَنِي إسْرَائِيلَ قضاء قضاه على القوم كما تسمعون .
وقال آخرون : معنى ذلك : أخبرنا . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحرث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : وَقَضَيْنا إلى بَنِي إسْرَائِيلَ فِي الكِتابِ قال : أخبرنا بني إسرائيل .
وكلّ هذه الأقوال تعود معانيها إلى ما قلت في معنى قوله : وَقَضَيْنا وإن كان الذي اخترنا من التأويل فيه أشبه بالصواب لإجماع القرّاء على قراءة قوله لَتُفْسِدُنّ بالتاء دون الياء ، ولو كان معنى الكلام : وقضينا عليهم في الكتاب ، لكانت القراءة بالياء أولى منها بالتاء ، ولكن معناه لما كان أعلمناهم وأخبرناهم ، وقلنا لهم ، كانت التاء أشبه وأولى للمخاطبة . وكان فساد بني إسرائيل في الأرض المرّة الأولى ما :
حدثني به هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ في خبر ذكره عن أبي صالح ، وعن أبي مالك ، عن ابن عباس ، وعن مرّة ، عن عبد الله أن الله عهد إلى بني إسرائيل في التوراة لَتُفْسِدُنّ فِي الأرْضِ مَرّتَيْنِ فكان أوّل الفسادين : قتل زكريا ، فبعث الله عليهم ملك النبط ، وكان يُدعى صحابين فبعث الجنود ، وكان أساورته من أهل فارس ، فهم أولو بأس شديد ، فتحصنت بنو إسرائيل ، وخرج فيهم بختنصر يتيما مسكينا ، إنما خرج يستطعم ، وتلطف حتى دخل المدينة فأتى مجالسهم ، فسمعهم يقولون : لو يعلم عدوّنا ما قُذف في قلوبنا من الرعب بذنوبنا ما أرادوا قتالنا ، فخرج بختنصرحين سمع ذلك منهم ، واشتدّ القيام على الجيش ، فرجعوا ، وذلك قول الله : فإذَا جاء وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عبادا لنَا أُولى بَأْسٍ شَدِيدٍ ، فَجاسُوا خِلالَ الدّيارِ وكانَ وَعْدا مَفْعولاً ثم إن بني إسرائيل تجهّزوا ، فغزوا النبط ، فأصابوا منهم واستنقذوا ما في أيديهم ، فذلك قول الله ثُمّ رَدَدْنا لَكُمُ الكَرّةَ عَلَيْهِمْ وأمْدَدْناكُمْ بأمْوَالٍ وَبَنِينَ ، وَجَعَلْناكُمْ أكْثَرَ نَفِيرا يقول : عددا .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : كان إفسادهم الذي يفسدون في الأرض مرّتين : قتل زكريا ويحيى بن زكريا ، سلط الله عليهم سابور ذا الأكتاف ملكا من ملوك فارس ، من قتل زكريا ، وسلّط عليهم بختنصر من قتل يحيى .
حدثنا عصام بن رواد بن الجراح ، قال : حدثنا أبي ، قال : حدثنا سفيان بن سعيد الثوري ، قال : حدثنا منصور بن المعتمر ، عن ربعي بن حراش ، قال : سمعت حُذيفة بن اليمان يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إنّ بَنِي إسْرَائِيلَ لَمّا اعْتَدَوْا وَعَلَوْا ، وَقَتَلُوا الأنْبِياءَ ، بَعَثَ اللّهُ عَلَيْهِمْ مَلِكَ فارِسَ بُخْتَنَصّر ، وكانَ اللّهُ مَلّكَهُ سَبْعَ مئَةِ سَنةٍ ، فَسارَ إلَيْهِمْ حتى دَخَلَ بَيْتَ المَقْدِسِ فَحاصَرَهَا وَفَتَحَها ، وَقَتَلَ عَلي دَمِ زَكَرِيّا سَبْعِينَ ألْفا ، ثُمّ سَبِي أهْلَها وَبَنِي الأَنْبِياءِ ، وَسَلَبَ حُليّ بَيْتِ المَقْدِسِ ، وَاسْتَخْرَجَ مِنْها سَبْعِينَ ألْفا وَمِئَةَ ألْفِ عَجَلَةٍ مِنْ حُلِيَ حتى أوْرَدَهُ بابِلَ » قال حُذيفة : فقتل : يا رسول الله لقد كان بيت المقدس عظيما عند الله ؟ قال : «أجَلْ بَناهُ سُلَيْمانُ بْنُ دَاوُدَ مِنْ ذَهَبٍ وَدُرّ وَياقُوتٍ وَزَبَرْجَدٍ ، وكانَ بَلاطُهُ بَلاطَةً مِنْ ذَهَبٍ وَبَلاطَةً مِنْ فَضّةٍ ، وعُمُدُهُ ذَهَبا ، أعْطاهُ اللّهُ ذلكَ ، وسَخّرَ لَهُ الشّياطينَ يَأْتُونَهُ بِهِذِهِ الأشْياءِ فِءَ طَرْفَةِ عَيْنٍ ، فَسارَ بُخْتَنَصّر بهذهِ الأشيْاءِ حتى نَزَلَ بِها بابِلَ ، فَأقامَ بَنُوا إسْرَائيلَ فِي يَدَيِهِ مِئَةَ سَنَةٍ تُعَذّبُهُمُ المَجُوسُ وأبْناءُ المَجُوسِ ، فِيهِمُ الأنْبِياءُ وأبْناءُ الأنْبِياءِ ثُمّ إنّ اللّهَ رَحِمَهُمْ ، فأوْحَى إلى مَلِكِ مِنْ مُلُوكِ فارِسَ يُقالُ لُهُ كُورَسُ ، وكانَ مُؤْمِنا ، أنْ سِرْ بَقايَا بَنِي إسْرَائِيلَ حتى تَسْتَنْقِذَهُمْ ، فَسارَ كُورَسُ بِبَني إسْرَائِيل وحُليّ بَيْتِ المَقْدِسِ حتى رَدّهُ إلَيْهِ ، فَأقامَ بَنُوا إسْرَائِيلَ مُطِيعينَ لِلّهِ مِئَةَ سَنَةِ ، ثُمّ إنّهُمْ عادُوا فِي المَعاصِي ، فَسَلّطَ اللّهُ عَلَيْهِمْ ابْطِيانْحُوسَ ، فَغَزَا بأْبْناءِ مَنْ غَزَا مَعَ بُخْتَنَصّر ، فَغَزَا بَنِي إسْرَائِيلَ حتى أتاهُمْ بَيْتَ المَقْدِسِ ، فَسَبي أهْلَها ، وأحْرَقَ بَيْتَ المَقْدِسِ ، وَقالَ لَهُمْ : يا بَنِي إسْرَائِيلَ إنْ عُدْتُمْ فِي المَعاصِي عُدْنا عَلَيْكُمْ بالسّباءِ ، فَعادُوا فِي المَعاصِي ، فَسَيّرَ اللّهُ عَلَيْهِمُ السّباءَ الثّالِثَ مَلِكَ رُومِيّةَ ، يُقالُ لَهُ قاقِسُ بْنُ إسْبايُوس ، فَغَزَاهُمْ فِي البَرّ والبَحْرِ ، فَسَباهُمْ وَسَبَى حُلِيّ بَيْتِ المَقْدِسِ ، وأحْرَقَ بَيْتَ المَقْدِسِ بالنّيرانِ » فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «هذَا مِنْ صَنْعَةِ حُلِيّ بَيْتِ المَقْذِسِ ، ويَرُدّهُ المَهْدِيّ إلى بَيْتِ المَقْدِسِ ، وَهُوَ ألْفُ سَفِينَةٍ وسَبْعُ مِئَةٍ سَفِينَةٍ ، يُرْسَى بِها عَلى يافا حتى تُنْقَلَ إلى بَيْتِ المَقْذِسِ ، وبِها يَجْمَعُ اللّهُ الأوّلِينَ والاَخِرِينَ » .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : ثني ابن إسحاق ، قال : كان مما أنزل الله على موسى في خبره عن بني إسرائيل ، وفي أحداثهم ما هم فاعلون بعده ، فقال : وَقَضَيْنا إلى بَنِي إسْرَائِيلَ فِي الكتابِ لَتُفْسِدّنّ فِي الأرْضِ مَرّتَيْنِ ، وَلَتَعْلُنّ عُلُوّا كَبِيرا . . . إلى قوله : وَجَعَلْنا جَهَنّمَ للْكافرِينَ حَصِيرا فكانت بنو إسرائيل ، وفيهم الأحداث والذنوب ، وكان الله في ذلك متجاوزا عنهم ، متعطفا عليهم محسنا إليهم ، فكان مما أُنزل بهم في ذنوبهم ما كان قدّم إليهم في الخبر على لسان موسى مما أنزل بهم في ذنوبهم . فكان أول ما أنزل بهم من تلك الوقائع ، أن ملكا منهم كان يُدعي صديقة ، وكان الله إذا ملّك الملِك عليهم ، بعث نبيا يسدّده ويرشده ، ويكون فيما بينه وبين الله ، ويحدث إليه في أمرهم ، لا ينزل عليهم الكتب ، إنما يؤمرون باتباع التوراة والأحكام التي فيها ، وينهونهم عن المعصية ، ويدعونهم إلى ما تركوا من الطاعة فلما ملك ذلك الملك ، بعث الله معه شعياء أمُصيا ، وذلك قبل مبعث زكريا ويحيى وعيسى وشعياء الذي بشّر بعيسى ومحمد ، فملك ذلك الملك بني إسرائيل وبيت المقدس زمانا فلما انقضى ملكه عظمت فيهم الأحداث ، وشعياء معه ، بعث الله عليهم سنحاريب ملك بابل ، ومعه ستّ مئة ألف راية ، فأقبل سائرا حتى نزل نحو بيت المقدس ، والملك مريض في ساقه قرحة ، فجاء النبيّ شعياء ، فقال له : يا ملك بني إسرائيل إن سنحاريق ملك بابل ، قد نزل بك هو وجنوده ستّ مئة ألف راية ، وقد هابهم الناس وفرَقوا منهم ، فكبر ذلك على الملك ، فقال : يا نبيّ الله هل أتاك وحي من الله فيما حدث ، فتخبرنا به كيف يفعل الله بنا وبسنحاريب وجنوده ؟ فقال له النبيّ عليه السلام : لم يأتني وحي أحدث إليّ في شأنك . فبيناهم على ذلك ، أوحى الله إلى شعياء النبيّ : أن ائت ملك بني إسرائيل ، فمره أن يوصي وصيته ، ويستخلف على ملكه من شاء من أهل بيته . فأتى النبيّ شيعاء ملك بين إسرائيل صديقة ، فقال له : إن ربك قد أوحى إليّ أن آمرك أن توصي وصيتك ، وتستخلف من شئت على مُلكك من أهل بيتك ، فإنك ميت فلما قال ذلك شعياء لصديقة ، أقبل على القبلة ، فصلى وسبح ودعا وبكى ، فقال وهو يبكي ويتضرّع إلى الله بقلب مخلص وتوكل وصبر وصدق وظنّ صادق . اللهمّ ربّ الأرباب ، وإله الاَلهة ، قدّوس المتقدسين ، يا رحمن يا رحيم ، المترحم الرؤوف الذي لا تأخذه سنة ولا نوم ، اذكرني بعملي وفعلي وحُسن قضائي على بني إسرائيل وذلك كله كان منك ، فأنت أعلم به من نفسي سرّي وعلانيتي لك وإن الرحمن استجاب له ، وكان عبدا صالحا ، فأوحى الله إلى شعياء أن يخبر صديقة الملك أن ربه قد استجاب له وقبل منه ورحمه ، وقد رأى بكاءه ، وقد أخّر أجله خمس عشرة سنة ، وأنجاه من عدوّه سنحاريب ملك بابل وجنوده ، فأتى شعياء النبيّ إلى ذلك الملك فأخبره بذلك ، فلما قال له ذلك ذهب عنه الوجع ، وانقطع عنه الشرّ والحزن ، وخرّ ساجدا وقال : يا إلهي وإله آبائي ، لك سجدت وسبّحت وكرمت وعظمت ، أنت الذي تعطي المُلك من تشاء ، وتنزعه ممن تشاء ، وتعزّ من تشاء ، وتذلّ من تشاء ، عالم الغيب والشهادة ، أنت الأوّل والاَخر ، والظاهر والباطن ، وأنت ترحم وتستجيب دعوة المضطرّين ، أنت الذي أحببت دعوتي ورحمت تضرّعي فلما رفع رأسه ، أوحى الله إلى شعياء إن قل للملك صديقة فيأمر عبدا من عبيده بالتينة ، فيأتيه بماء التين فيجعله على قرحته فيشفى ، ويصبح وقد برأ ، ففعل ذلك فشفي . وقال الملك لشعياء النبيّ : سل ربك أن يجعل لنا علما بما هو صانع بعدوّنا هذا . قال : فقال الله لشعياء النبيّ : قل له : إني قد كفيتك عدوّك ، وأنجيتك منه ، وإنهم سيصبحون موتى كلهم إلاّ سنحاريب وخمسة من كتابه فلما أصبحوا جاءهم صارخ ينبئهم ، فصرخ على باب المدينة : يا ملك بني إسرائيل ، إن الله قد كفاك عدوّك فاخرج ، فإن سنحاريب ومن معه قد هلكوا فلما خرج الملك التمس سنحاريب ، فلم يُوجد في الموتى ، فبعث الملك في طلبه ، فأدركه الطلب في مغارة وخمسة من كتابه ، أحدهم بختنصر ، فجعلوهم في الجوامع ، ثم أتوا بهم ملك بني إسرائيل فلما رآهم خرّ ساجدا من حين طلعت الشمس حتى كانت العصر ، ثم قال لسنحاريب : كيف ترى فعل ربنا بكم ؟ ألم يقتلكم بحوله وقوّته ، ونحن وأنتم غافلون ؟ فقال سنحاريب له : قد أتاني خبر ربكم ، ونصره إياكم ، ورحمته التي رحمكم بها قبل أن أخرج من بلادي ، فلم أطع مرشدا ، ولم يلقني في الشقوة إلاّ قلة عقلي ، ولو سمعت أو عقلت ما غزوتكم ، ولكن الشقوة غلبت عليّ وعلى من معي ، فقال ملك بني إسرائيل : الحمد لله ربّ العزّة الذي كفاناكم بما شاء ، إن ربنا لم يُبقك ومن معك لكرامة بك عليه ، ولكنه إنما أبقاك ومن معك لما هو شرّ لك ، لتزدادوا شقوة في الدنيا ، وعذابا في الاَخرة ، ولتخبروا من وراءكم بما لقيتم من فعل ربنا ، ولتنذر من بعدكم ، ولولا ذلك ما أبقاكم ، فلدمُك ودم من معك أهون على الله من دم قراد لو قتلته . ثم إن ملك بني إسرائيل أمر أمير حرسه ، فقذف في رقابهم الجوامع ، وطاف بهم سبعين يوما حول بيت المقدس إيليا ، وكان يرزقهم في كلّ يوم خبزتين من شعير لكل رجل منهم ، فقال سنحاريب لملك بني إسرائيل : القتل خير مما يفعل بنا ، فافعل ما أمرت فنقل بهم الملك إلى سجن القتل ، فأوحى الله إلى شعياء النبيّ أن قل لملك بني إسرائيل يرسل سنحاريب ومن معه لينذروا من وراءهم ، وليكرمهم ويحملهم حتى يبلغوا بلادهم فبلّغ النبيّ شعياء الملك ذلك ، ففعل ، فخرج سنحاريب ومن معه حتى قدموا بابل فلما قدموا جمع الناس فأخبرهم كيف فعل الله بجنوده ، فقال له كهّانه وسحرته : يا ملك بابل قد كنا نقصّ عليك خبر ربهم وخبر نبيهم ، ووحى الله إلى نبيهم ، فلم تطعنا ، وهي أمّة لا يستطيعها أحد مع ربهم ، فكان أمر سنحاريب مما خوّفوا ، ثم كفاهم الله تذكرة وعبرة ، ثم لبث سنحاريب بعد ذلك سبع سنين ، ثم مات .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : لما مات سنحاريب استخلف بختنصر ابن ابنه على ما كان عليه جدّه يعمل بعمله ، ويقضي بقضائه ، فلبث سبع عشرة سنة . ثم قبض الله ملك بني إسرائيل صديقة فمرج أمر بني إسرائيل وتنافسوا المُلك ، حتى قتل بعضهم بعضا عليه ، ونبيهم شعياء معهم لا يذعنون إليه ، ولا يقبلون منه فلما فعلوا ذلك ، قال الله فيما بلغنا لشعياء : قم في قومك أُوحِ على لسانك فلما قام النبيّ أنطق الله لسانه بالوحي فقال : يا سماء استمعي ، ويا أرض أنصتي ، فإن الله يريد أن يقصّ شأن بني إسرائيل الذين رباهم بنعمته ، واصطفاهم لنفسه ، وخصّهم بكرامته ، وفضّلهم على عباده ، وفضلهم بالكرامة ، وهم كالغنم الضائعة التي لا راعي لها ، فآوى شاردتها ، وجمع ضالتها ، وجبر كسيرها ، وداوى مريضها ، وأسمن مهزولها ، وحفظ سمينها فلما فعل ذلك بطرت ، فتناطحت كباشها فقتل بعضها بعضا ، حتى لم يبق منها عظم صحيح يخبر إليه آخر كسير ، فويل لهذه الأمة الخاطئة ، وويل لهؤلاء القوم الخاطئين الذين لا يدرون أين جاءهم الحين . إن البعير ربما يذكر وطنه فينتابه ، وإن الحمار ربما يذكر الاَريّ الذي شبع عليه فيراجعه ، وإن الثور ربما يذكر المرج الذي سمن فيه فينتابه ، وإن هؤلاء القوم لا يدرون من حيث جاءهم الحين ، وهم أولو الألباب والعقول ، ليسوا ببقر ولا حمير وإني ضارب لهم مثلاً فليسمعوه : قل لهم : كيف ترون في أرض كانت خواء زمانا ، خربة مواتا لا عمران فيها ، وكان لها ربّ حكيم قويّ ، فأقبل عليها بالعمارة ، وكره أن تخرب أرضه وهو قويّ ، أو يقال ضيع وهو حكيم ، فأحاط عليها جدارا ، وشيّد فيها قصرا ، وأنبط فيها نهرا ، وصف فيها غراسا من الزيتون والرمان والنخيل والأعناب ، وألوان الثمار كلها ، وولى ذلك واستحفظه قيما ذا رأي وهمّة ، حفيظا قويا أمينا ، وتأنى طلعها وانتظرها فلما أطلعت جاء طلعها خروبا ، قالوا : بئست الأرض هذه ، نرى أن يهدم جدرانها وقصرها ، ويدفن نهرها ، ويقبض قيّمها ، ويحرق غراسها حتى تصير كما كانت أوّل مرّة ، خربة مواتا لا عمران فيها . قال الله لهم : فإن الجدار ذمتي ، وإن القصر شريعتي ، وإن النهر كتابي ، وإن القَيّمَ نبِيي ، وإن الغراس هم ، وإن الخروب الذي أطلع الغراس أعمالهم الخبيثة ، وإني قد قضيت عليهم قضاءهم على أنفسهم ، وإنه مَثلٌ ضربه الله لهم يتقرّبون إليّ بذبح البقر والغنم ، وليس ينالني اللحم ولا آكله ، ويدّعون أن يتقرّبوا بالتقوى والكفّ عن ذبح الأنفس التي حرمتها ، فأيديهم مخضوبة منها ، وثيابهم متزملة بدمائها ، يشيدون لي البيوت مساجد ، ويطهرون أجوافها ، وينجسون قلوبهم وأجسامهم ويدنسونها ، ويزوّقون لي البيوت والمساجد ويزينونها ، ويخرّبون عقولهم وأحلامهم ويفسدونها ، فأيّ حاجة لي إلى تشييد البيوت وليست أسكنها ، وأيّ حاجة إلى تزويق المساجد ولست أدخلها ، إنما أمرت برفعها لأذكر فيها وأسبح فيها ، ولتكون معلما لمن أراد أن يصلي فيها ، يقولون : لو كان الله يقدر على أن يجمع ألفتنا لجمعها ، ولو كان الله يقدر على أن يفقّه قلوبنا لأفقهها ، فاعمد إلى عودين يابسين ، ثم ائت بهما ناديهما في أجمع ما يكونون ، فقل للعودين : إن الله يأمركما أن تكونا عودا واحدا فلما قال لهما ذلك ، اختلطا فصارا واحدا ، فقال الله : قل لهم : إني قدرت على ألفة العيدان اليابسة وعلى أن أولّف بينها ، فكيف لا أقدر على أن أجمع ألفتهم إن شئت ، أم كيف لا أقدر على أن أفقّه قلوبهم ، وأنا الذي صوّرتها يقولون : صمنا فلم يرفع صيامنا ، وصلّينا فلم تنوّر صلاتنا ، وتصدّقنا فلم تزكّ صدقاتنا ، ودعونا بمثل حنين الحمام ، وبكينا بمثل عواء الذئب ، في كلّ ذلك لا نسمع ، ولا يُستجاب لنا قال الله : فسلهم ما الذي يمنعني أن أستجيب لهم ، ألست أسمع السامعين ، وأبصر الناظرين ، وأقرب المجيبين ، وأرحم الراحمين ؟ ألأنّ ذات يدي قلت كيف ويداي مبسوطتان بالخير ، أنفق كيف أشاء ، ومفاتيح الخزائن عندي لا يفتحها ولا يغلقها غيري ألا وإن رحمتي وسعت كلّ شيء ، إنما يتراحم المتراحمون بفضلها أو لأن البخل يعتريني أو لست أكرم الأكرمين والفتاح بالخيرات ، أجود من أعطى ، وأكرم من سُئل لو أنّ هؤلاء القوم نظروا لأنفسهم بالحكمة التي نوّرت في قلوبهم فنبذوها ، واشتروا بها الدنيا ، إذن لأبصروا من حيث أتوا ، وإذن لأيقنوا أن أنفسهم هي أعدى العداة لهم ، فكيف أرفع صيامهم وهم يلبسونه بقول الزور ، ويتقوّون عليه بطعمة الحرام ؟ وكيف أنوّر صلاتهم ، وقلوبهم صاغية إلى من يحاربني ويحادّني ، وينتهك محارمي ؟ أم كيف تزكو عندي صدقاتهم وهم يتصدّقون بأموال غيرهم ؟ وإنما أوجر عليها أهلها المغصوبين أم كيف أستجيب لهم دعاءهم وإنما هو قول بألسنتهم والفعل من ذلك بعيد ؟ وإنما أستجيب للداعي اللين ، وإنما أسمع من قول المستضعف المسكين ، وإن من علامة رضاي رضا المساكين فلو رحموا المساكين ، وقرّبوا الضعفاء ، وأنصفوا المظلوم ، ونصروا المغصوب ، وعدلوا للغائب ، وأدّوا إلى الأرملة واليتيم والمسكين ، وكلّ ذي حقّ حقه ، ثم لو كان ينبغي أن أكلم البشر إذن لكلمتهم ، وإذن لكنت نور أبصارهم ، وسمع آذانهم ، ومعقول قلوبهم ، وإذن لدعمت أركانهم ، فكنت قوّة أيديهم وأرجلهم ، وإذن لثبّت ألسنتهم وعقولهم . يقولون لمّا سمعوا كلامي ، وبلغتهم رسالاتي بأنها أقاويل منقولة ، وأحاديث متوارثة ، وتآليف مما تؤلف السحرة والكهنة ، وزعموا أنهم لو شاءوا أن يأتوا بحديث مثله فعلوا ، وأن يطلعوا على الغيب بما توحي إليهم الشياطين طلعوا ، وكلهم يستخفى بالذي يقول ويسرّ ، وهم يعلمون أني أعلم غيب السموات والأرض ، وأعلم ما يبدون وما يكتمون وإني قد قضيت يوم خلقت السموات والأرض قضاء أثبته على نفسي ، وجعلت دونه أجلاً مؤجلاً ، لا بدّ أنه واقع ، فإن صدقوا بما ينتحلون من لم الغيب ، فليخبروك متى أنفذه ، أو في أيّ زمان يكون ، وإن كانوا يقدرون على أن يأتوا بما يشاءون ، فليأتوا بمثل القُدرة التي بها أمضيت ، فإني مظهره على الدين كله ولو كره المشركون ، وإن كانوا يقدرون على أن يقولوا ما يشاءون فليؤلّفوا مثل الحكمة التي أدبر بها أمر ذلك القضاء إن كانوا صادقين ، فإني قد قضيت يوم خلقت السموات والأرض أن أجعل النبوّة في الأُجراء ، وأن أحوّل الملك في الرعاء ، والعزّ في الأذلاء ، والقوّة في الضعفاء ، والغنى في الفقراء ، والثروة في الأقلاء ، والمدائن في الفلوات ، والاَجام في المفاوز ، والبردى في الغيطان ، والعلم في الجهلة ، والحكم في الأميين ، فسلهم متى هذا ، ومن القائم بهذا ، وعلى يد من أسنه ، ومن أعوان هذه الأمر وأنصاره إن كانوا يعلمون فإني باعث لذلك نبيا أمّيا ، ليس أعمى من عميان ، ولا ضالاً من ضالّين ، وليس بفظّ ولا غليظ ، ولا صخّاب في الأسواق ، ولا متزين بالفُحش ، ولا قوّال للخنا ، أسدده لكل جميل ، أهب له كلّ خلق كريم ، أجعل السكينة لباسه ، والبرّ شعاره ، والتقوى ضميره ، والحكمة معقوله ، والصدق والوفاء طبيعته ، والعفو والعرف خلقه والعدل والمعروف سيرته ، والحقّ شريعته ، والهدى إمامه ، والإسلام ملّته ، وأحمد اسمه ، أهدي به بعد الضلالة ، وأعلم به بعد الجهالة ، وأرفع به بعد الخمالة ، وأشهر به بعد النكرة ، وأكثر به بعد القلّة ، وأغني به بعد العيلة ، وأجمع به بعد الفُرقة ، وأؤلّف به قلوبا مختلفة ، وأهواء مشتتة ، وأمما متفرّقة ، وأجعل أمته خير أمّة أُخرجت للناس ، تأمر بالمعروف ، وتنهى عن المنكر ، توحيدا لي ، وإيمانا وإخلاصا بي ، يصلون لي قياما وقعودا ، وركوعا وسجودا ، يُقاتلون في سبيلي صفوفا وزحوفا ، ويخرجون من ديارهم وأموالهم ابتغاء رضواني ، ألهمهم التكبير والتوحيد ، والتسبيح والحمد والمدحة ، والتمجيد لي في مساجدهم ومجالسهم ومضاجعهم ومتقلبهم ومثواهم ، يكبرون ويهلّلون ، ويقدّسون على رؤوس الأسواق ، ويطهرون لي الوجوه والأطراف ، ويعقدون الثياب في الأنصاف ، قربانهم دماؤهم ، وأناجيلهم صدورهم ، رهبان بالليل ، ليوث بالنهار ، ذلك فضلي أوتيه من أشاء ، وأنا ذو الفضل العظيم . فلما فرغ نبيهم شعياء إليهم من مقالته ، عدوا عليه فيما بلغني ليقتلوه ، فهرب منهم ، فلقيته شجرة ، فانفلقت فدخل فيها ، وأدركه الشيطان فأخذ بهدبة من ثوبه فأراهم إياها ، فوضعوا المنشار في وسطها فنشروها حتى قطعوها ، وقطعوه في وسطها .
قال أبو جعفر : فعلى القول الذي ذكرنا عن ابن عباس من رواية السديّ ، وقول ابن زيد ، كان إفساد بني إسرائيل في الأرض المرّة الأولى قتلهم زكريا نبيّ الله ، مع ما كان سلف منهم قبل ذلك وبعده ، إلى أن بعث الله عليهم من أحلّ على يده بهم نقمته من معاصي الله ، وعتوّهم على ربهم . وأما على قول ابن إسحاق الذي روينا عنه ، فكان إفسادهم المرّة الأولى ما وصف من قتلهم شعياء بن أمصيا نبيّ الله . وذكر ابن إسحاق أن بعض أهل العلم أخبره أن زكريا مات موتا ولم يُقتل ، وأن المقتول إنما هو شعياء ، وأن بختنصر هو الذي سُلّط على بني إسرائيل في المرّة الأولى بعد قتلهم شعياء . حدثنا بذلك ابن حميد ، عن سلمة عنه .
وأما إفسادهم في الأرض المرّة الاَخرة ، فلا اختلاف بين أهل العلم أنه كان قتلهم يحيى بن زكريا . وقد اختلفوا في الذي سلّطه الله عليهم منتقما به منهم عند ذلك ، وأنا ذاكر اختلافهم في ذلك إن شاء الله .
وأما قوله : وَلَتَعْلُنّ عُلُوّا كَبِيرا فقد ذكرنا قول من قال : يعني به : استكبارهم على الله بالجراءة عليه ، وخلافهم أمره . وكان مجاهد يقول في ذلك ما :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد وَلَتَعْلُنّ عُلُوّا كَبِيرا قال : ولتعلنّ الناس علوّا كبيرا .
حدثنا الحارث ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
وقوله : { وقضينا إلى بني إسرائيل } الآية ، قال الطبري : معنى { قضينا } فرغنا وحكي عن غيره أنه قال : { قضينا } هنا بمعنى أخبرنا ، وحكي عن آخرين أنهم قالوا { قضينا } معناه في أم الكتاب .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق بن عطية رضي الله عنه : وإنما يلبس في هذا المكان تعدية { قضينا } ب { إلى } ، وتلخيص المعنى عندي أن هذا الأمر هو مما قضاه الله تعالى في أم الكتاب على بني إسرائيل وألزمهم إياه ثم أخبرهم به في التوراة على لسان موسى . فلما أراد هنا الإعلام لنا بالأمرين جميعاً في إيجاز ، جعل { قضينا } دالة على النفوذ في أم الكتاب ، وقرن بها دالة على إنزال الخير بذلك إلى بني إسرائيل ، والمعنى المقصود مفهوم خلال هذه الألفاظ ، ولهذا فسر ابن عباس مرة بأن قال { قضينا إلى بني إسرائيل } معناه أعلمناهم ، وقال مرة : معناه قضينا عليهم . و { الكتاب } هنا التوراة لأن القسم في قوله { لتفسدن } غير متوجه مع أن يجعل { الكتاب } هو اللوح المحفوظ ، وقرأ سعيد بن جبير وأبو العالية الرياحي «في الكتب » على الجمع ، قال أبو حاتم : قراءة الناس على الإفراد ، وقرأ الجمهور «لتُفسِدن » بضم التاء وكسر السين ، وقرأ عيسى الثقفي «لَتفسُدُن » بفتح التاء وضم السين والدال ، وقرأ ابن عباس ونصر بن عاصم وجابر بن زيد «لتُفسَدُن » بضم التاء وفتح السين وضم الدال . وقوله { ولتعلن } أي لتتجبرون عن طاعة الأمرين بطاعة الله وتطلبون في الأرض العلو والفساد وتظلمون من قدرتم على ظلمة ونحو هذا .
قال القاضي أبو محمد : ومقتضى هذه الآيات أن الله تعالى أعلم بني إسرائيل في التوراة أنه سيقع منهم عصيان وطغيان وكفر لنعم الله تعالى عندهم في الرسل والكتب وغير ذلك ، وأنه سيرسل عليهم أمة تغلبهم وتقتلهم وتذلهم ، ثم يرحمهم بعد ذلك ، ويجعل لهم الكرّة ويردهم إلى حالهم الأولى من الظهور ، فيقع منهم المعاصي وكفر النعم والظلم والقتل والكفر بالله من بعضهم ، فيبعث الله عليهم أمة أخرى تخرب ديارهم وتقتلهم وتجليهم جلاء مبرحاً{[7471]} ، وأعطى الوجود بعد ذلك هذا الأمر كله وقيل : كان بين «المرتين » آخر الأولى وأول الثانية مائتَا سنة وعشر سنين{[7472]} ملكاً مؤبداً بأنبياء وقيل سبعون سنة .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
... معنى القضاء: الفراغ من الشيء، ثم يستعمل في كلّ مفروغ منه، فتأويل الكلام في هذا الموضع: وفرغ ربك إلى بني إسرائيل فيما أنزل من كتابه على موسى صلوات الله وسلامه عليه بإعلامه إياهم وإخباره لهم "لَتُفْسِدُنّ فِي الأرْضِ مَرّتَيْنِ "يقول: لتعصنّ الله يا معشر بني إسرائيل ولتخالفنّ أمره في بلاده مرّتين، "وَلَتَعْلُنّ عَلُوّا كَبِيرا" يقول: ولتستكبرنّ على الله باجترائكم عليه استكبارا شديدا...
وقال آخرون: معنى ذلك: وقضينا على بني إسرائيل في أمّ الكتاب، وسابق علمه...
وقال آخرون: معنى ذلك: أخبرنا...
وكلّ هذه الأقوال تعود معانيها إلى ما قلت في معنى قوله: "وَقَضَيْنا" وإن كان الذي اخترنا من التأويل فيه أشبه بالصواب لإجماع القرّاء على قراءة قوله "لَتُفْسِدُنّ" بالتاء دون الياء، ولو كان معنى الكلام: وقضينا عليهم في الكتاب، لكانت القراءة بالياء أولى منها بالتاء، ولكن معناه لما كان أعلمناهم وأخبرناهم، وقلنا لهم، كانت التاء أشبه وأولى للمخاطبة...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين}...
ثم اختلف في قوله: {مرتين} قال بعضهم من أهل التأويل: إن بني إسرائيل عصوا ربهم، فسلك الله عليهم جالوت، فقتلهم وسبى ذرياتهم، وسلب أموالهم، فكانوا كذلك زمانا، ثم تابوا، ورجعوا عن ذلك، ثم بعت الله داوود، فقتل جالوت، واستنقذهم من يديه، وردهم ثم عادوا إلى ما كانوا من قبل. ثم سلط عليهم بَخْتُنُصَّرَ، ففعل بهم ما فعل جالوت... وقال بعضهم: بعث أولا بُخْتُنصَّر، ثم فلانا وفلانا... وليس لنا على معرفة ذلك حاجة سوى ما فيه من وجوه الحكمة والدلالة:
أحدهما: دلالة إثبات رسالة محمد صلى الله عليه وسلم لأنه أخبر عما كان في كتبهم من غير أن علم ما في كتبهم، واختلف إلى أحد منهم، فكان على ما أخبر. دل أنه إنما عرف ذلك بما أخبره في كتابه.
والثاني: أنه لم يهلك قوم بنفس الكفر إهلاك استئصال حتى كان منهم مع الكفر السعي في الأرض بالفساد والعناد للآيات...
{ولتعلن علوا كبيرا} قيل: لتجرؤن جراءة عظيمة، وقيل: ولتقهرن، ولتغلبن غلبة...
وقيل: العلو، هو العتو والجراءة والتكبر.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{وَقَضَيْنآ إلى بنى إسراءيل} وأوحينا إليهم وحياً مقضيا، أي مقطوعاً مبتوتاً بأنهم يفسدون في الأرض لا محالة، ويعلون، أي: يتعظمون ويبغون.
{فِي الكتاب} في التوراة، و {لَتُفْسِدُنَّ} جواب قسم محذوف. {مَّرَّتَيْنِ} أولاهما: قتل زكريا وحبس أرميا حين أنذرهم سخط الله، والآخرة: قتل يحيى بن زكريا وقصد قتل عيسى ابن مريم.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
... مقتضى هذه الآيات أن الله تعالى أعلم بني إسرائيل في التوراة أنه سيقع منهم عصيان وطغيان وكفر لنعم الله تعالى عندهم في الرسل والكتب وغير ذلك، وأنه سيرسل عليهم أمة تغلبهم وتقتلهم وتذلهم، ثم يرحمهم بعد ذلك، ويجعل لهم الكرّة ويردهم إلى حالهم الأولى من الظهور، فيقع منهم المعاصي وكفر النعم والظلم والقتل والكفر بالله من بعضهم، فيبعث الله عليهم أمة أخرى تخرب ديارهم وتقتلهم وتجليهم جلاء مبرحاً، وأعطى الوجود بعد ذلك هذا الأمر كله...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{وقضينا} أي بعظمتنا بالوحي المقطوع به، منزلين ومنهين {إلى بني إسرائيل} أي عبدنا يعقوب عليه السلام الذي كان أطوع أهل زمانه لنا {في الكتاب} الذي أوصلناه إليهم على لسان موسى عليه السلام {لتفسدن} أكد بالدلالة على القسم باللام لأنه يستبعد الإفساد مع الكتاب المرشد {في الأرض} أي المقدسة التي كأنها لشرفها هي الأرض بما يغضب الله {مرتين ولتعلن} أي بما صرتم إليه من البطر لنسيان المنعم {علواً كبيراً} بالظلم والتمرد، ولا ينتقم منكم إلا على حسب ما تقتضيه حكمتنا في الوقت الذي نريد بعد إمهال طويل؛ والقضاء: فصل الأمر على إحكام.
تيسير التفسير لاطفيش 1332 هـ :
{لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ} أرض بلاد بيت المقدس أو مطلق الأرض لشيوع فسادهم فيها...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ} أي: تقدمنا وعهدنا إليهم وأخبرناهم في كتابهم أنهم لا بد أن يقع منهم إفساد في الأرض مرتين بعمل المعاصي والبطر لنعم الله والعلو في الأرض والتكبر فيها وأنه إذا وقع واحدة منهما سلط الله عليهم الأعداء وانتقم منهم وهذا تحذير لهم وإنذار لعلهم يرجعون فيتذكرون...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وهذا القضاء إخبار من الله تعالى بما سيكون منهم، حسب ما وقع في علمه الإلهي من مآلهم؛ لا أنه قضاء قهري عليهم، تنشأ عنه أفعالهم. فالله سبحانه لا يقضي بالإفساد على أحد (قل: إن الله لا يأمر بالفحشاء) إنما يعلم الله ما سيكون علمه بما هو كائن. فما سيكون -بالقياس إلى علم الله- كائن، وإن كان بالقياس إلى علم البشر لم يكن بعد، ولم يكشف عنه الستار...
ولقد قضى الله لبني إسرائيل في الكتاب الذي آتاه لموسى أنهم سيفسدون في الأرض مرتين، وأنهم سيعلون في الأرض المقدسة ويسيطرون. وكلما ارتفعوا فاتخذوا الارتفاع وسيلة للإفساد سلط عليهم من عباده من يقهرهم ويستبيح حرماتهم ويدمرهم تدميرا:...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
عطف على جملة {وآتينا موسى الكتاب} [الإسراء: 2]، أي آتينا موسى الكتاب هُدى، وبينا لبني إسرائيل في الكتاب ما يحل بهم من جراء مخالفة هدي التوراة إعلاماً لهذه الأمة بأن الله لم يدخر أولئك إرشاداً ونصحاً، فالمناسبة ظاهرة.
والقضاء بمعنى الحكم وهو التقدير، ومعنى كونه في الكتاب أن القضاء ذكر في الكتاب، وتعدية قضينا بحرف (إلى) لتضمين قضينا معنى (أبلغنا)، أي قضينا وأنهينا، كقوله تعالى: {وقضينا إليه ذلك الأمر} في سورة [الحجر: 66]. فيجوز أن يكون المراد ب (الكتاب) كتاب التوراة والتعريف للعهد لأنه ذكر الكتاب آنفاً...
ويجوز أن يكون الكتاب بعض كتبهم الدينية...
والإفساد مرتين ذكر في كتاب أشعياء وكتاب أرمياء...
وجملة {لتفسدن في الأرض مرتين} إلى قوله {حصيرا} مبيّنة لجملة {وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب}. وأيّا مّا كان فضمائر الخطاب في هذه الجملة مانعة من أن يكون المراد بالكتاب في قوله تعالى: {وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب} اللوح المحفوظ أو كتاب الله، أي علمه.
وهذه الآية تشير إلى حوادث عظيمة بين بني إسرائيل وأعدائهم من أمتين عظيمتين: حوادث بينهم وبين البابليين، وحوادث بينهم وبين الرومانيين. فانقسمت بهذا الاعتبار إلى نوعين: نوع منهما تنْدَرج فيه حوادثهم مع البابليين، والنوع الآخر حوادثهم مع الرومانيين، فعبر عن النوعين بمرتين لأن كل مرة منهما تحتوي على عدة ملاحم.
فالمرة الأولى هي مجموع حوادث متسلسلة تسمى في التاريخ بالأسر البابلي وهي غزوات (بختنصر) مَلِك بابل وأشور بلاَد أورشليم. والغزو الأول كان سنة 606 قبل المسيح، أسَر جماعات كثيرة من اليهود ويسمى الأسر الأول. ثم غزاهم أيضاً غزواً يسمى الأسر الثاني، وهو أعظم من الأول، كان سنة 598 قبل المسيح، وأسَرَ ملكَ يهوذا وجمعاً غفيراً من الإسرائيليين وأخذ الذهب الذي في هيكل سليمان وما فيه من الآنية النفيسة.
والأسر الثالث المُبير سنة 588 قبل المسيح غزاهم « بختنصر» وسبى كل شعب يهوذا، وأحرق هيكل سليمان، وبقيت أورشليم خراباً يباباً. ثم أعادوا تعميرها كما سيأتي عند قوله تعالى: {ثم رددنا لكم الكرة} [الإسراء: 6].
وأما المرة الثانية فهي سلسلة غزوات الرومانيين بلادَ أورشليم. وسيأتي بيانها عند قوله تعالى: {فإذا جاء وعد الآخرة} [الإسراء: 6] الآية.
وإسناد الإفساد إلى ضمير بني إسرائيل مفيد أنه إفساد من جمهورهم بحيث تعد الأمة كلُّها مُفسدة وإن كانت لا تخلو من صالحين.
والعلو في قوله: {ولتعلن علوا كبيراً} مجاز في الطغيان والعصيان كقوله: {إن فرعون علا في الأرض} [القصص: 4] وقوله: {إنه كان عالياً من المسرفين} [الدخان: 31] وقوله: {ألا تعلوا علي وأتوني مسلمين} [النمل: 31] تشبيهاً للتكبر والطغيان بالعلو على الشيء لامتلاكه تشبيه معقول بمحسوس.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
قال سبحانه وتعالى مقسما: {ولتعلن علوا كبيرا} فقرن علوهم بفسادهم، وذلك لما استمكن في قلوبهم من الحسد والحقد، وإن اقتران علوهم بالفساد يفيد أمرين: الأمر الأول: أن علوهم يعقبه طغيان، والطغيان يعقبه الفساد. الأمر الثاني: أن علوهم فيه اعتداء فاجر فاعتداؤهم بقتل الأنبياء وأكلهم الربا والسحت وأن يقتل بعضهم بعضا، ويلاحظ أنه ذكر الفساد مرتين، ولم يذكر عدد العلو لأنه لا عدد له إن وجدت أسبابه...
ووصف الله تعالى علوهم بأنه يكون علوا كبيرا؛ وذلك لأنه يكون على أيدي أنبياء، وسرعان ما تعود إليهم نفوسهم الآثمة فيقتلون ما أعلاهم به الأنبياء إلى فساد وانحراف، ألم تروه بعد أن أنقذهم الله تعالى من فرعون، وأغرقه وملأه رأوا قوما يعكفون على أصنام لهم {...قالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة (138)} [الأعراف]، وعبدوا العجل في غيبة موسى وقد ذهب على موعد من ربه...
... {في الكتاب}: أي: في التوراة، كتابهم الذي نزل على نبيهم، وهم محتفظون به وليس في كتاب آخر، فالحق سبحانه قضى عليهم. أي: حكم عليهم حكماً وأعلمهم به، حيث أوحاه إلى موسى، فبلغهم به في التوراة، وأخبرهم بما سيكون منهم من ملابسات استقبال منهج الله على ألسنة الرسل، أينفذونه وينصاعون له، أم يخرجون عنه ويفسدون في الأرض؟
إذا كان رسولهم عليه السلام قد أخبرهم بما سيحدث منهم، وقد حدث منهم فعلاً ما أخبرهم به الرسول وهم مختارون، فكان عليهم أن يخجلوا من ربهم عز وجل، ولا يتمادوا في تصادمهم بمنهج الله وخروجهم عن تعاليمه، وكان عليهم أن يصدقوا رسولهم فيما أخبرهم به، وأن يطيعوا أمره.
وقوله تعالى: {لتفسدن في الأرض مرتين}: جاءت هذه العبارة هكذا مؤكدة باللام، وهذا يعني أن في الآية قسماً دل عليه جوابه، فكأن الحق سبحانه يقول: ونفسي لتفسدن في الأرض، لأن القسم لا يكون إلا بالله. أو نقول: إن المعنى: مادمنا قد قضينا وحكمنا حكماً مؤكداً لا يستطيع أحد الفكاك منه، ففي هذا معنى القسم، وتكون هذه العبارة جواباً ل "قضينا"؛ لأن القسم يجيء للتأكيد، والتأكيد حاصل في قوله تعالى: {وقضينا}.
فما هو الإفساد؟ الإفساد: أن تعمد إلى الصالح في ذاته فتخرجه عن صلاحه، فكل شيء في الكون خلقه الله تعالى لغاية، فإذا تركته ليؤدي غايته فقد أبقيته على صلاحه، وإذا أخللت به يفقد صلاحه ومهمته، والغاية التي خلقه الله من أجلها.
والحق سبحانه وتعالى قبل أن يخلقنا على هذه الأرض خلق لنا مقومات حياتنا في السماء والأرض والشمس والهواء.. الخ وليس مقومات حياتنا فحسب، بل وأعد لنا في كونه ما يمكن الإنسان بعقله وطاقته أن يزيد الصالح صلاحاً، فعلى الأقل إن لم تستطع أن تزيد الصالح صلاحاً فأبق الصالح على صلاحه...
ويقول تعالى لبني إسرائيل: {لتفسدن في الأرض مرتين}: وهل أفسد بنو إسرائيل في الأرض مرتين فقط؟
والله إن كانوا كذلك فقد خلاهم ذم، والأمر إذن هين، لكنهم أفسدوا في الأرض إفساداً كثيراً متعدداً، فلماذا قال تعالى: مرتين؟
تحدث العلماء كثيراً عن هاتين المرتين، وفي أي فترات التاريخ حدثتا، وذهبوا إلى أنهما قبل الإسلام، والمتأمل لسورة الإسراء يجدها قد ربطتهم بالإسلام، فيبدو أن المراد بالمرتين أحداث حدثت منهم في حضن الإسلام.
فالحق سبحانه وتعالى بعد أن ذكر الإسراء ذكر قصة بني إسرائيل، فدل ذلك على أن الإسلام تعدى إلى مناطق مقدساتهم، فأصبح بيت المقدس قبلة للمسلمين، ثم أسرى برسول الله صلى الله عليه وسلم إليه، وبذلك دخل في حوزة الإسلام؛ لأنه جاء مهيمناً على الأديان السابقة، وجاء للناس كافة.
إذن: كان من الأولى أن يفسروا هاتين المرتين على أنهما في حضن الإسلام؛ لأنهم أفسدوا كثيراً قبل الإسلام، ولا دخل للإسلام في إفسادهم السابق؛ لأن الحق سبحانه يقول: {وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علوا كبيرا}: فإن كان الفساد مطلقاً. أي: قبل أن يأتي الإسلام فقد تعدد فسادهم، وهل هناك أكثر من قولهم بعد أن جاوز بهم البحر فرأوا جماعة يعكفون على عبادة العجل، فقالوا لموسى عليه السلام: {اجعل لنا إلها كما لهم آلهة "138 "} (سورة الأعراف): هل هناك فساد أكثر من أن قتلوا الأنبياء الذين جعلهم الله مثلاً تكوينية وأسوة سلوكية، وحرفوا كتاب الله؟
والناظر في تحريف بني إسرائيل للتوراة يجد أنهم حرفوها من وجوه كثيرة وتحريفات متعددة، فمن التوراة ما نسوه، كما قال تعالى: {ونسوا حظا مما ذكروا به.." 13 "} (سورة المائدة): والذي لم ينسوه لم يتركوه على حاله، بل كتموا بعضه، والذي لم يكتموه لم يتركوه على حاله، بل حرفوه، كما قال تعالى: {يحرفون الكلم عن مواضعه.. "13 "} (سورة المائدة): ولم يقف الأمر بهم عند هذا النسيان والكتمان والتحريف، بل تعدى إلى أن أتوا بكلام من عند أنفسهم، وقالوا هو من عند الله، قال تعالى: {فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا.." 79 "} (سورة البقرة: فهل هناك إفساد في منهج الله أعظم من هذا الإفساد؟ ومن العلماء من يرى أن الفساد الأول ما حدث في قصة طالوت وجالوت في قوله تعالى: {ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله قال هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا.. "346 "} (سورة البقرة): فقد طلبوا القتال بأنفسهم وارتضوه وحكموا به، ومع ذلك حينما جاء القتال تنصلوا منه ولم يقاتلوا. ويرون أن الفساد الثاني قد حدث بعد أن قوت دولتهم، واتسعت رقعتها من الشمال إلى الجنوب، فأغار عليهم بختنصر وهزمهم، وفعل بهم ما فعل.
وهذه التفسيرات على أن الفسادين سابقان للإسلام، والأولى أن نقول: إنهما بعد الإسلام، وسوف نجد في هذا ربطاً لقصة بني إسرائيل بسورة الإسراء.
قالوا: لأن الإسلام حينما جاء كن يستشهد بأهل الكتاب على صدق محمد صلى الله عليه وسلم، ونفس أهل الكتاب كانوا يستفتحون به على الذين كفروا، فكان أهل الكتاب إذا جادلوا الكفار والمشركين في المدينة كانوا يقولون لهم: لقد أظل زمان نبي يأتي فتتبعه، ونقتلكم به قتل عاد وإرم.
لذلك يقول الحق سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم: إنهم ينكرون عليك أن الله يشهد ومن عنده علم الكتاب، فمن عنده علم الكتاب منهم يعرف بمجيئك، وأنك صادق، ويعرف علامتك، بدليل أن الصادقين منهم آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم.
ويقول أحدهم: لقد عرفته حين رأيته كمعرفتي لابني، ومعرفتي لمحمد أشد، لأنه قد يشك في نسبة ولده إليه، ولكنه لا يشك في شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم لما قرأه في كتبهم، وما يعلمه من أوصافه، لأنه صلى الله عليه وسلم موصوف في كتبهم، ويعرفونه كما يعرفون أبناءهم.
إذن: كانوا يستفتحون برسول الله على الذين كفروا، وكانوا مستشرقين لمجيئه، وعندهم مقدمات لبعثه صلى الله عليه وسلم. ومع ذلك: {فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به.." 89 "} (سورة البقرة): فلما كفروا به، ماذا كان موقفه صلى الله عليه وسلم بعد أن هاجر إلى المدينة؟
في المدينة أبرم رسول الله صلى الله عليه وسلم معهم معاهدة يتعايشون بموجبها، ووفى بهم رسول الله ما وفوا، فلما غدروا هم، واعتدوا على حرمات المسلمين وأعراضهم، جاس رسول الله صلى الله عليه وسلم خلال ديارهم، وقتل منهم من قتل، وأجلاهم عن المدينة إلى الشام وإلى خيبر؛ وكان هذا بأمر من الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم، فقال تعالى: {هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي الأبصار "2 "} (سورة الحشر): وهذا هو الفساد الأول الذي حدث من يهود بني النضير، وبني قينقاع، وبني قريظة، الذين خانوا العهد مع رسول الله، بعد أن كانوا يستفتحون به على الذين كفروا، ونص الآية القادمة يؤيد ما نذهب إليه من أن الإفسادين كانا بعد الإسلام.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
... إنها نبوءة المستقبل التي توحي إليهم بأنهم سينحرفون عن تعاليم الكتاب، الذي يريد لهم أن يتخذوا مفاهيمه وشريعته قاعدةً لبناء الحياة على أسسٍ ثابتةٍ لا على أسسٍ مهتزةٍ، ومنهجاً لإصلاحها لا لإفسادها، ولكنها شهوات اللحم والدم التي تبتعد بالناس عن خط التوازن في النظرة إلى الأشياء، ثم هناك انفعالات الفكرة الشوهاء التي تثير فيهم الغرور، وتدفعهم إلى العصبية، وتقودهم إلى العدوان... وهكذا عاشوا لعنة المستقبل الذي سيصنعون شروره بأيديهم، وسيسقطون في هزائمه بتصرفاتهم، وسينتظرون أن تحل بهم اللعنة مرتين، لأن الفساد الأكبر سيتكرر بهذا المستوى...