ثم ختم - سبحانه - السورة بقوله : { إِنَّ هذا لَفِي الصحف الأولى . صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وموسى } أى : إن هذا الذى ذكرناه من فلاح من تزكى ، ومن إيثاركم الحياة الدنيا على الآخرة ، لكائن وثابت ومذكور فى الصحف الأولى ، التى هى صحف إبراهيم وموسى ، التى أنزلها - سبحانه - على هذين النبيين الكريمين ، ليعلما الناس ما اشتملت عليه من آداب وأحكام ومواعظ . وفى إبهام هذه الصحف ، ووصفها بالقدم ، ثم بيان أنها لنبيين كريمين من أولى العزم من الرسل ، تنويه بشأنها ، وإعلاء من قدرها .
وقوله : { إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأولَى صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى } قال الحافظ أبو بكر البزار :
حدثنا نصر بن علي ، حدثنا مُعتمر بن سليمان ، عن أبيه عن عطاء بن السائب ، عن عِكْرِمة ، عن ابن عباس قال : لما نزلت : { إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأولَى صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى } قال النبي صلى الله عليه وسلم : " كان كل هذا - أو : كان هذا - في صحف إبراهيم وموسى " {[29986]} .
ثم قال : لا نعلم أسند الثقات عن عطاء بن السائب ، عن عكرمة ، عن ابن عباس غير{[29987]} هذا ، وحديثا آخر أورده قبل هذا .
وقال النسائي : أخبرنا زكريا بن يحيى ، أخبرنا نصر بن علي ، حدثنا المعتمر بن سليمان ، عن أبيه ، عن عطاء بن السائب ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : لما نزلت { سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلَى } قال : كلها في صحف إبراهيم وموسى ، فلما نزلت : { وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى } [ النجم : 37 ] قال : وفَّى { أَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } [ النجم : 38 ]{[29988]} .
يعني أن هذه الآية كقوله في سورة " النجم " : { أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى أَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَأَنْ لَيْسَ لِلإنْسَانِ إِلا مَا سَعَى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأوْفَى وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى } [ النجم : 36 - 42 ] الآيات إلى آخرهن . وهكذا قال عكرمة - فيما رواه ابن جرير ، عن ابن حميد ، عن مِهْران ، عن سفيان الثوري ، عن أبيه ، عن عكرمة - في قوله : { إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأولَى صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى } يقول : الآيات التي في سبح اسم ربك الأعلى .
وقال أبو العالية : قصة هذه السورة في الصحف الأولى .
واختار ابن جرير أن المراد بقوله : { إِنَّ هَذَا } إشارة إلى قوله : { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى } ثم قال : { إِنَّ هَذَا } أي : مضمون هذا الكلام { لَفِي الصُّحُفِ الأولَى صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى } {[29989]} .
وهذا اختيار حسن قوي . وقد رُوي عن قتادة وابن زيد ، نحوُه . والله أعلم .
قوله : إنّ هَذَا لَفِي الصّحُفِ الأُولى اختلف أهل التأويل في الذي أشير إليه بقوله هذا ، فقال بعضهم : أُشير به إلى الاَيات التي في «سبح اسم ربك الأعلى » . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن أبيه ، عن عكرِمة إنّ هَذَا لفِي الصّحُفِ الأُولى صُحُفِ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى يقول : الاَيات التي في سبح اسم ربك الأعلى .
وقال آخرون : قصة هذه السورة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن أبي جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية إن هَذَا لَفِي الصّحُفِ الأُولى صُحُفِ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى قال : قصة هذه السورة لفي الصحف الأولى .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : إن هذا الذي قصّ الله تعالى في هذه السورة لَفِي الصّحُفِ الأُولى . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله : إنّ هَذَا لَفِي الصّحُفِ الأُولى قال : إن هذا الذي قصّ الله في هذه السورة ، لفي الصحف الأولى صُحُفِ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى .
وقال آخرون : بل عُنِي بذلك في قوله : وَالاَخِرَةُ خَيْرٌ وأبْقَى في الصحف الأولى . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : إنّ هَذَا لَفِي الصّحُفِ الأُولى قال : تتابعت كتب الله كما تسمعون ، أن الاَخرة خير وأبقى .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : إنّ هَذَا لَفِي الصّحُفِ الأُولى صُحُفِ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى قال : في الصحف التي أنزلها الله على إبراهيم وموسى : أن الاَخرة خير من الأولى .
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب ، قول من قال : إن قوله : قَدْ أفْلَحَ مَنْ تَزَكى وَذَكَرَ اسمَ رَبّهِ فَصَلّى بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدّنيْا وَالاَخِرَةُ خَيْرٌ وَأبْقَى : لفي الصحف الأولى ، صحف إبراهيم خليل الرحمن ، وصحف موسى بن عمران .
وإنما قلت : ذلك أولى بالصحة من غيره ، لأن هذا إشارة إلى حاضر ، فلأن يكون إشارة إلى ما قرب منها ، أولى من أن يكون إشارة إلى غيره . وأما الصحف : فإنها جمع صحيفة ، وإنما عُنِي بها : كتب إبراهيم وموسى .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن أبي الخلد ، قال : نزلت صحف إبراهيم في أوّل ليلة من رمضان ، وأنزلت التوراة لستّ ليال خلون من رمضان ، وأنزل الزبور لاثنتي عشرة ليلة ، وأنزل الإنجيل لثماني عشرة ، وأنزل الفرقان لأربع وعشرين .
وقرأ الجمهور «الصحُف » مضمونة الحاء ، وروى هارون عن أبي عمرو بسكون الحاء ، وهي قراءة الأعمش ، وقرأ أبو رجاء : { إبراهيم } بغير الياء ولا ألف ، وقرأ ابن الزبير «ابراهام » في كل القرآن ، وكذلك أبو موسى الأشعري ، وقرأ عبد الرحمن بن أبي بكرة «إبراهِم » بكسر الهاء وبغير ياء في جميع القرآن وروي أن { صحف إبراهيم } نزلت في أول ليلة من رمضان ، والتوراة في السادسة من رمضان والزبور في اثني عشرة منه والإنجيل في ثمان عشرة منه والقرآن في أربعة عشرة منه{[11759]} .