أي : من هو الذي يهديكم حين تكونون في ظلمات البر والبحر ، حيث لا دليل ولا معلم يرى ولا وسيلة إلى النجاة إلا هدايته لكم ، وتيسيره الطريق وجعل ما جعل لكم من الأسباب التي تهتدون بها ، { وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ } أي : بين يدي المطر ، فيرسلها فتثير السحاب ثم تؤلفه ثم تجمعه ثم تلقحه ثم تدره ، فيستبشر بذلك العباد قبل نزول المطر . { أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ } فعل ذلك ؟ أم هو وحده الذي انفرد به ؟ فلم أشركتم معه غيره وعبدتم سواه ؟ { تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } تعاظم وتنزه وتقدس عن شركهم وتسويتهم به غيره .
ثم انتقلت السورة الكريمة - للمرة الرابعة - إلى لفت أنظارهم إلى نعمه - سبحانه - عليهم فى أسفارهم فقال - تعالى - : { أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ البر والبحر } .
أى : وقولوا لنا - أيها المشركون- : من الذى يرشدكم فى أسفاركم إلى المكان الذى تريدون الذهاب إليه ، عندما تلتبس عليكم الطرق ، وأنتم بين ظلمات البحر وأمواجه ، أو وأنتم فى متاهات الأرض وفجاجها .
وقولوا لنا : { وَمَن يُرْسِلُ الرياح بُشْرَاً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ } أى : ومن الذى يرسل لكم الرياح لتكون مبشرات بقرب نزول المطر ، الذى هو رحمة من الله - تعالى - لكم ، بعد أن أصابكم اليأس والقنوط ؟
{ أإله مَّعَ الله } هو الذى فعل ذلك ، كلا ، فما فعل ذلك أحد سواه .
وقوله - سبحانه - : { تَعَالَى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ } تأكيد لوحدانيته وقدرته وتنزيه له - تعالى - عن الشرك والشركاء .
أى : تنزه الله وتقدس عن شرك هؤلاء المشركين ، فهو الواحد الأحد فى ذاته ، وفى صفاته ، وفى أفعاله .
يقول : { أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ } أي : بما خلق من الدلائل السماوية والأرضية ، كما قال : { وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ } [ النحل : 16 ] ، وقال تعالى : { وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ } الآية [ الأنعام : 97 ] .
{ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ } أي : بين يدي السحاب الذي فيه مطر ، يغيث به عباده المجدبين الأزلين القنطين ، { أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } .
القول في تأويل قوله تعالى : { أَمّن يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرّ وَالْبَحْرِ وَمَن يُرْسِلُ الرّيَاحَ بُشْرًى بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلََهٌ مّعَ اللّهِ تَعَالَى اللّهُ عَمّا يُشْرِكُونَ } .
يقول تعالى ذكره : أم ما تشركون بالله خير ، أم الذي يهديكم في ظلمات البرّ والبحر إذا ضللتم فيهما الطريق ، فأظلمت عليكم السبل فيهما ؟ كما :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قوله : { أمّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرّ وَالْبَحْرِ } والظّلمات في البر ، ضلاله الطريق ، والبحر ، ضلاله طريقه وموجه وما يكون فيه . قوله : { وَمَنْ يُرْسِلُ الرّياحَ نُشْرا بينَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ } يقول : والذي يرسل الرياح نشرا لموتان الأرض بين يدي رحمته ، يعني : قدام الغيث الذي يحيى موات الأرض . وقوله : { أءِلَهٌ مَعَ اللّهِ تَعالى اللّهُ عَمّا يُشْرِكُونَ } يقول تعالى ذكره : أءله مع الله سوى الله يفعل بكم شيئا من ذلك فتعبدوه من دونه ، أو تشركوه في عبادتكم إياه تَعَالى اللّهُ يقول : لله العلوّ والرفعة عن شرككم الذي تشركون به ، وعبادتكم معه ما تعبدون .
{ أمن يهديكم في ظلمات البر والبحر } بالنجوم وعلامات الأرض ، وال { ظلمات } ظلمات الليالي وإضافتها إلى { البر والبحر } للملابسة ، أو مشتبهات الطرق يقال طريقة ظلماء وعمياء للتي لا منار بها . { ومن يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته } يعني المطر ، ولو صح أن السبب الأكثر في تكون الرياح معاودة الأدخنة الصاعدة من الطبقة الباردة لانكسار حرها وتمويجها الهواء فلا شك أن الأسباب الفاعلية والقابلية لذلك من خلق الله تعالى ، والفاعل للسبب فعل للمسبب . { أإله مع الله } يقدر على مثل ذلك . { تعالى الله عما يشركون } تعالى الله القادر الخالق عن مشاركة العاجز المخلوق .
( بل ) لإضراب الانتقال من نوع دلائل التصرف في أحوال عامة الناس إلى دلائل التصرف في أحوال المسافرين منهم في البر والبحر فإنهم أدرى بهذه الأحوال وأقدر لما في خلالها من النعمة والامتنان .
ذكر الهداية في ظلمات الليل في البرّ والبحر . وإضافة الظلمات إلى البر والبحر على معنى ( في ) . والهُدى في هذه الظلمات بسير النجوم كما قال تعالى { وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر } [ الأنعام : 97 ] . فالله الهادي للسير في تلك الظلمات بأن خلق النجوم على نظام صالح للهداية في ذلك ، وبأن ركّب في الناس مدارك للمعرفة بإرصاد سيرها وصعودها وهبوطها ، وهداهم أيضاً بمهاب الرياح ، وخوّلهم معرفة اختلافها بإحساس جفافها ورطوبتها ، وحرارتها وبردها .
وبهذه المناسبة أُدمج الامتنان بفوائد الرياح في إثارة السحاب الذي به المطر وهو المعنيّ برحمة الله . وإرساله الرياح هو خلق أسباب تكونها .
وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو { نُشُرا } بضمتين وبالنون . وقرأه ابن عامر بالنون بضم فسكون . وقرأ عاصم { بُشْراً } بالموحدة وبسكون الشين مع التنوين . وقرأه حمزة والكسائي بفتح النون وسكون الشين . وقد تقدم في سورة الفرقان ( 48 ) { وهو الذي أرسل الرياح نشراً بين يدي رحمته } وتقدم في سورة الأعراف ( 57 ) { وهو الذي يرسل الرياح نشراً بين يدي رحمته } ، وتوجيه هذه القراءات هنالك .
وذُيّل هذا الدليل بتنزيه الله تعالى عن إشراكهم معه آلهة لأن هذا خاتمة الاستدلال عليهم بما لا ينازعون في أنه من تصرف الله فجيء بعده بالتنزيه عن الشرك كله وذلك تصريح بما أشارت إليه التذييلات السابقة .