ولما ذكر آيات الأرض ، وختم بالمضطر ، وكان المضطر قد لا يهتدي لوجه حيلة ، أتبعها آيات السماء ذاكراً ما هو من أعظم صور الاضطرار فقال : { أمَّن يهديكم } أي إذا سافرتم بما رسم لكم من المعالم العلوية والسفلية { في ظلمات البر } أي بالنجوم والجبال والرياح ، وهي وإن كانت أضعفها فقد يضطر إليه حيث لا يبدو شيء من ذينك { والبحر } بالنجوم والرياح .
ولما كانت الرياح كما كانت من أدلة السير ، كان بعضها من أدلة المطر ، قال : { ومن يرسل الرياح } أي التي هي من دلائل السير { نشراً } أي تنشر السحاب وتجمعها { بين يدي رحمته } أي التي هي المطر تسمية للمسبب باسم السبب ؛ والرياح التي يهتدي بها في المقاصد أربع : الصبا ، والدبور ، والشمال ، والجنوب ، وهي أضعف الدلائل ؛ قال الإمام أبو هلال الحسن بن عبد الله العسكري في كتاب أسماء الأشياء وصفاتها : الرياح أربع : الشمال ، وهي التي تجيء عن يمينك إذا استقبلت قبلة العراق - يعني : وذلك ما بين مطالع الشمس الصيفية وبنات نعش ، وهي في الصيف حارة ، واسمها البارح ، والجنوب تقابلها ، والصبا من مطلع الشمس وهي القبول ، والدبور تقابلها ، ويقال الجنوب : النعامى والأرنب - انتهى .
وهذه العبارة أبين العبارات في تعيين هذه الرياح ، وقال الإمام أبو العباس أحمد بن أبي أحمد بن القاص الطبري الشافعي في كتابه أدلة القبلة : إن قبلة العراقيين إلى باب الكعبة كله إلى الركن الشامي الذي عند الحجر ، وقال : وقد اختلف أهل العلم بهذا الشأن - أي في التعبير عن مواطن الرياح - اختلافاً متبايناً ، وأقرب ذلك - على ما جربته وتعاهدته بمكة - أن الصبا تهب ما بين مطالع الشمس في الشتاء إلى مطلع سهيل ، وسهيل يمان مسقطه في رأي العين على ظهر الكعبة إذا ارتفع ، وقال صاحب القاموس : والصبا ريح مهبها من مطلع الثريا إلى بنات نعش ، وقال : والقبول كصبور : ريح الصبا ، لأنها تقابل الدبور ، أو لأنها تقابل باب الكعبة ، أو لأن النفس تقلبها . وقال الإمام أبو عبد الله القزاز : الصبا : الريح التي تهب من مطلع الشمس ، والقبول : الريح التي تهب من مطلع الشمس ، وذلك لأنها تستقبل الدبور ، وقيل : لأنها تستقبل باب الكعبة وهي الصبا ، فقد اتفقت أقولهم كما ترى على خلاف ابن القاص ، وقال ابن القاص : وهي - أي الصبا - ريح معها روح وخفة ، ونسيم تهب مما بين مشرق الشتاء ومطلع سهيل ، ولها برد يقرص أشد من هبوبها ، وتلقح الأشجار ، ولا تهب إلا بليل ، سلطانها إذا أظلم الليل ، إلى أن يسفر النهار وتطلع الشمس ، وأشد ما يكون في وقت الأسحار وما بين الفجرين ، والجنوب تهب ما بين مطلع سهيل إلى مغارب الشمس في الصيف . وقال في القاموس : والجنوب : ريح تخالف الشمال ، مهبها من مطلع سهيل إلى مطلع الثريا ، وعن ابن هشام اللخمي أن الجنوب هي الريح القبلية . وفي الجمع بين العباب والمحكم : والجنوب ريح تخالف الشمال تأتي عن يمين القبلة ، وقيل : هي من الرياح ما استقبلك عن شمالك إذا وقفت في القبلة ، قال ابن الأعرابي : ومهب الجنوب من مطلع سهيل إلى مطلع الثريا ، وقال الأصمعي : إذا جاءت الجنوب جاء معها خير وتلقيح ، وإذا جاءت الشمال نشفت ، ويقال للمتصافيين : ريحهما جنوب ، وإذا تفرقا قيل : شملت ريحهما ، وعن ابن الأعرابي : الجنوب في كل موضع حارة إلا بنجد فإنها باردة ؛ وقال ابن القاص : وإذا هبت فقوتها في العلو والهواء أكثر لأنها موكلة بالسحاب ، وتحرك الأغصان ورؤوس الأشجار ، ومع ذلك فتراها تؤلف الغيم في السماء ، فتراه متراكماً مشحوناً ، قال : وسمعت من يقول : ما اشتد هبوبها إلا خيف المطر ، ولا هبت جنوب قط ثم يتبعها دبور إلا وقع مطر ، وهي تهيج البحر وتظهر بكل ندى كامل في الأرض ، وهي من ريح الجنة . والدبور - قال في القاموس : ريح تقابل الصبا ، وقال القزاز : هي التي تأتي من دبر الكعبة وهي التي تقابل مطلع الشمس ، وقال ابن القاص : تهب ما بين مغارب الشمس في الصيف إلى مطلع بنات نعش ، وقوتها في الأرض أشد من قوتها في الهواء ، وهي إذا هبت تثير الغبار .
وتكسح الأرض . وترفع الذيول ، وتضرب الأقدام ، وأشد ما تثير الغبار إذا تنكبت ، تراها كأنها تعلب بالتراب على وجه الأرض ، وترى الأشجار في البوادي والرمال لها دوي من ناحية الدبور ، وقد اجتمع في أصلها التراب وما يلي الجنوب عارياً مكشوفاً متحفزاً وقوتها في الأرض - والله أعلم ، لأن عاداً أو عدت بالتدمير بالرياح ، فحفرت الآبار واستكنت فيها ، فبعث الله الدبور فدخلت الآبار وقذفتهم متدمرين حتى أهلكتهم . والشمال - قال في القاموس : الريح التي تهب من قبل الحجر ، والصحيح أنه ما مهبه ما بين مطله الشمس وبنات نعش ، أو من مطلع النعش إلى مسقط النسر الطائر ، ولا تكاد تهب ليلاً . وقال القزاز : هي الريح التي تأتي عن شمالك إذا استقبلت مطلع الشمس ، والعرب تقول : إن الجنوب قالت للشمال : إن لي عليك فضلاً ، أنا أسري وأنت لا تسرين ، فقالت الشمال : إن الحرة لا تسرين ، وقال الصغاني في مجمع البحرين : والشمال : الريح التي تهب من ناحية القطب ، وعن أبي حنيفة : هي التي تهب من جهة القطب الشمالي وهي الجربياء وهي الشامية لأنها تأتيهم من شق الشام ، وفي الجمع بين العباب والمحكم ، والبوارح : شدة الرياح من الشمال في الصيف دون الشتاء كأنه جمع بارحة ، وقيل : البوارح : الرياح الشدائد التي تحمل التراب ، واحدتها بارح ، والجربياء : الريح التي بين الجنوب والصبا ، وقيل : هي النكباء التي تجري بين الشمال والدبور ، وهي ريح تقشع السحاب ، وقيل هي الشمال ، وجربياؤها بردها - قاله الأصمعي ، وقال الليث : هي الشمال الباردة ، وقال ابن القاص : والشمال تهب ما بين مطلع بنات نعش إلى مطلع الشمس في الشتاء ، وهي تقطع الغيم وتمحوها ، ولذلك سميت الشمال المحوة ، قال : وهذا بأرض الحجاز ، وأما أرض العراق والمشرق فربما ساق الجنوب غيماً واستداره ولم يحلبه حتى تهب الشمال فتحلبه ، والجنوب والشمال متماثلتان ، لأنهما موكلتان بالسحاب ، فالجنوب تطردها وهي مشحونة ، والشمال تردها وتمحوها إذا أفرغت ، قال أبو عبيدة : الشمال عند العرب للروح ، والجنوب للأمطار والندى ، والدبور للبلاء ، وأهونه أن يكون غباراً عاصفاً يقذي العيون ، والصبا لإلقاح الشجر ، وكل ريح من هذه الرياح انحرفت فوقعت بين ريحين فهي نكباء ، وسميت لعدولها عن مهب الأربع اللواتي وصفن قبل - انتهى . وقال المسعودي في مروج الذهب في ذكر البوادي من الناس وسبب اختيار البدو : إن شخصاً من خطباء العرب وفد على كسرى فسأله عن أشياء منها الرياح فقال : ما بين سهيل إلى طرف بياض الفجر جنوب ، وما بإزائهما مما يستقبلهما من المغرب شمال ، وما جاء من وراء الكعبة فهي دبور ، وما جاء من قبل ذلك فهي صبا ، ونقل ابن كثير في سورة النور عن ابن أبي حاتم وابن جرير عن عبيد بن عمير الليثي أنه قال : يبعث الله المثيرة فتقم الأرض قماً ، ثم يبعث الله الناشئة فتنشىء السحاب ، ثم يبعث الله المؤلفة فتؤلف بينه ، ثم يبعث الله اللواقح فتلقح السحاب .
ولما انكشف بما مضى من الآيات . ما كانوا في ظلامه من واهي الشبهات ، واتضحت الأدلة ، ولم تبق لأحد في شيء من ذلك علة . كرر سبحانه الإنكار في قوله : { أإله مع الله } أي الذي كمل علمه فشملت قدرته .
ولما ذكر حالة الاضطرار ، وأتبعها من صورها ما منه ظلمة البحر ، وكانوا في البحر يخلصون له سبحانه ويتركون شركاءهم ، نبههم على أن ذلك موجب لاعتقاد كون الإخلاص له واجباً دائماً ، فأتبعه قوله على سبيل الاستعظام ، معرضاً عنهم بإجماع العشرة إعراض من بلغ به الغضب : { تعالى الله } أي الفاعل القادر المختار الذي لا كفوء له { عما يشركون } ، أي فإن شيئاً منها لا يقدر على شيء من ذلك ، وأين رتبة العجز من رتبة القدرة .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.