{ قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ } أي : أخبروني { إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً } أي : مفاجأة أو قد تقدم أمامه مقدمات ، تعلمون بها وقوعه . { هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ } الذين صاروا سببا لوقوع العذاب بهم ، بظلمهم وعنادهم . فاحذروا أن تقيموا على الظلم ، فإنه الهلاك الأبدي ، والشقاء السرمدي .
ثم وجه عقولهم إلى لون آخر من ألوان الإقناع فقال - تعالى - :
{ قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ الله بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ القوم الظالمون } . بغتة : أى مفاجأةن وجهرة : أى جهارا عيانا .
والمعنى : قل لهم ايها الرسول الكريم أخبرونى عن مصيركم إن أتاكم عذاب الله مباغتاً ومفاجئاً لكم من غير ترقب ولا انتظار ، أو أتاكم ظاهراً واضحاً بحيث ترون مقدماته ومباديه ، هل يهلك به إلا القوم الظالمون ؟
والاستفهام فى قوله { هَلْ يُهْلَكُ } بمعنى النفى : أى : ما يهلك به إلا القوم الظالمون ، الذين أصروا على الشرك والجحود ، فهلاكهم سببه السخط عليهم والعقوبة لهم ، لأنهم عمواوصموا عن الهداية .
وقوله : { قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً } أي : وأنتم لا تشعرون به حتى بغتكم وفجأكم .
{ أَوْ جَهْرَةً } أي : ظاهرًا عيانًا { هَلْ يُهْلَكُ إِلا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ } أي : إنما : كان يحيط بالظالمين أنفسهم بالشرك بالله [ عَزَّ وجل ]{[10691]} وينجو الذين كانوا يعبدون الله وحده لا شريك له ، فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون . كما قال تعالى { الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ [ أُولَئِكَ لَهُمُ الأمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ] {[10692]} } [ الأنعام : 82 ] .
القول في تأويل قوله تعالى : { قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاّ الْقَوْمُ الظّالِمُونَ } . .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل يا محمد لهؤلاء العادلين بربهم الأوثان المكذّبين بأنك لي رسولي إليهم ، أخبروني إن أتاكم عذاب الله وعقابه على ما تشركون به من الأوثان والأنداد ، وتكذيبكم إياي بعد الذي قد عاينتم من البرهان على حقيقة قولي . بَغْتَةً يقول : فجأة على غرّة لا تشعرون . أوْ جَهْرَةً يقول : أو أتاكم عذاب الله وأنتم تعاينونه وتنظرون إليه . هَلْ يُهْلَك إلاّ القَوْم الظّالِمُونَ يقول : هل يهلك الله منا ومنكم إلاّ من كان يعبد غير من يستحقّ علينا العبادة وترك عبادة من يستحق علينا العبادة . وقد بينا معنى الجَهْرة في غير هذا الموضع بما أغنى عن إعادته وأنها من الإجهار ، وهو إظهار الشيء للعين . كما :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : جَهْرَةً قال : وهم ينظرون .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : قُلْ أرَأيْتَكُمْ إنْ أتاكُمْ عَذَابُ اللّهِ بَغْتَةً فجأة آمنين ، أوْ جَهْرَةً وهم ينظرون .
استئناف للتهديد والتوعّد وإعذار لهم بأنّ إعراضهم لا يرجع بالسوء إلاّ عليهم ولا يضرّ بغيرهم ، كقوله : { وهم يَنْهَوْن عنه ويَنْأوْن عنه وإنْ يُهْلِكُون إلاّ أنفسهم وما يشعرون } [ الأنعام : 26 ] .
والقول في { قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله بغتة } الآية كالقول في نظيريْه المتقدّمين .
وجيء في هذا وفي نظيره المتقدّم بكاف الخطاب مع ضمير الخطاب دون قوله : { قل أرأيتم إنْ أخذَ الله سمْعكم وأبْصارَكم } [ الأنعام : 46 ] الآية لأنّ هذا ونظيره أبلغ في التوبيخ لأنّهما أظهر في الاستدلال على كون المشركين في مكنة قدرة الله ، فإنّ إتيان العذاب أمكن وقوعاً من سلب الأبصار والأسماع والعقول لندرة حصول ذلك ، فكان التوبيخ على إهمال الحذر من إتيان عذاب الله ، أقوى من التوبيخ على الاطمئنان من أخذ أسماعهم وأبصارهم ، فاجتلب كاف الخطاب المقصود منه التنبيه دون أعيان المخاطبين . والبغتة تقدّمت آنفاً .
والجهرة : الجَهْر ، ضدّ الخفية ، وضدّ السرّ . وقد تقدّم عنه قوله تعالى : { وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة } في سورة [ البقرة : 55 ]
وقد أوقع الجهرة هنا في مقابلة البغتة وكان الظاهر أن تقابل البغتة بالنّظرة أو أن تقابل الجهرة بالخفية ، إلاّ أنّ البغتة لمّا كانت وقوع الشيء من غير شعور به كان حصولها خفيّاً فحسن مقابلته بالجهرة ، فالعذاب الذي يجيء بغتة هو الذي لا تسبقه علامة ولا إعلام به . والذي يجيء جهرة هو الذي تسبقه علامة مثل الكِسْف المحكي في قوله تعالى : { فلمّا رأوه عارضاً مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض مُمطرنا } [ الأحقاف : 24 ] أو يسبقه إعلام به كما في قوله تعالى : { فعَقروها فقال تمتّعوا في داركم ثلاثة أيام } [ هود : 65 ] . فإطلاق الجهرة على سبق ما يشعر بحصول الشيء إطلاق مجازي . وليس المراد من البغتة الحاصل ليلاً ومن الجهرة الحاصل نهاراً .
والاستفهام في قوله : { هل يُهلَك } مستعمل في الإنكار فلذلك جاء بعده الاستثناء . والمعنى لا يهلك بذلك العذاب إلاّ الكافرون .
والمراد بالقوم الظالمين المخاطبون أنفُسهم فأظهر في مقام الإضمار ليتأتّى وصفهم أنّهم ظالمون ، أي مشركون ، لأنَّهم ظالمون أنفسهم وظالمون الرسول والمؤمنين .
وهذا يتضمَّن وعْداً من الله تعالى بأنه منجي المؤمنين ، ولذلك أذنَ رسوله بالهجرة من مكة مع المؤمنين لئلاّ يحلّ عليهم العذاب تكرمة لهم كما أكرم لُوطاً وأهله ، وكما أكرم نوحاً ومن آمن معه ، كما أشار إليه قوله تعالى : { وما كان الله ليعذّبهم وأنت فيهم } [ الأنفال : 33 ] ثم قوله : { وما لهم أن لا يعذّبهم الله } [ الأنفال : 34 ] .