ولما كان هذا دأب هؤلاء المذكورين{[899]} أنهم لا غرض لهم في اتباع الحق ، وإنما غرضهم ومقصودهم ، ما تهواه نفوسهم ، أمر الله رسوله بالإعراض عمن تولى عن ذكره ، الذي هو الذكر الحكيم ، والقرآن العظيم ، والنبأ الكريم ، فأعرض عن العلوم النافعة ، ولم يرد إلا الحياة الدنيا ، فهذا منتهى إرادته ، ومن المعلوم أن العبد لا يعمل إلا للشيء الذي يريده ،
فسعيهم مقصور على الدنيا ولذاتها وشهواتها ، كيف حصلت حصلوها ، وبأي : طريق سنحت ابتدروها .
وبعد هذا البيان الحكيم الذى يحق الحق ، ويبطل الباطل ، أمر الله - تعالى - نبيه - صلى الله عليه وسلم - أى يمضى فى طريقه الذى رسمه - سبحانه - له ، وأن يترك حساب هؤلاء الضالين لله - تعالى - الذى يجازى كل نفس بما كسبت ، والذى يعلم السر وأخفى ، والذى رحمته وسعت كل شىء . . . فقال - تعالى - : { فَأَعْرِضْ عَن . . . } .
الفاء فى قوله : { فَأَعْرِضْ عَن مَّن تولى عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الحياة الدنيا } للإفصاح . وأصل الإعراض : لفت الوجه عن الشىء ، لأن الكاره لشىء يعرض بصفحة خده عنه .
والمراد به هنا : ترك هؤلاء المشركين ، وعدم الحرص على إيمانهم ، بعد أن وصلتهم دعوة الحق . . . أى : إذا كان الأمر كما ذكرنا لك - أيها الرسول الكريم - من أن هؤلاء المشركين ، ما يتبعون فى عقائدهم إلى الظن الباطل ، وإلا ما تشتهيه أنفسهم . .
فاترك مجادلتهم ولا تهتم بهم ، بعد أن بلغتهم رسالة ربك . . . فإنهم قوم قد أصروا على عنادهم . وعلى الإدبار عن وحينا وقرآننا الذى أنزلناه إليك ، ولم يريدوا من حياتهم إلا التشبع من زينة الحياة الدنيا ، ومن شهواتها ومتعها .
ومن كان كذلك فلن تستطيع أن تهديه ، لأنه آثر الغى على الرشد ، والضلالة على الهداية . وجىء بالاسم الظاهر فى مقام الإضمار ، فقيل : { فَأَعْرِضْ عَن مَّن تولى عَن ذِكْرِنَا } ولم يقل : فأعرض عنهم . . . لبيان ما تؤذن به صلة الموصول من علة الأمر بالإعراض عنهم ، وهى أنهم قوم أعرضوا عن الوحى ، ولم يريدوا سوى متع دنياهم ، وأما ما يتعلق بالآخرة فهم فى غفلة عنه .
وقوله : { فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا } أي : أعرِضْ عن الذي أعرَضَ عن الحق واهجره .
وقوله : { وَلَمْ يُرِدْ إِلا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا } أي : وإنما {[27674]} أكثر {[27675]} همه ومبلغ علمه الدنيا ، فذاك هو غاية ما لا خير فيه . ولذلك {[27676]} قال : { ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ }
{ فَأَعْرِضْ عَن مَّن تولى عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الحياة الدنيا ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِّنَ العلم } .
بعد أن وصف مداركهم الباطلة وضلالهم فَرَّع عليه أمرَ نبيه صلى الله عليه وسلم بالإِعراض عنهم ذلك لأن ما تقدم من وصف ضلالهم كان نتيجة إعراضهم عن ذكر الله وهو التولّي عن الذكر فحق أن يكون جزاؤهم عن ذلك الإِعراض إعراضاً عنهم فإن الإِعراض والتولي مترادفان أو متقاربان فالمراد ب { من تولى } الفريق الذين أعرضوا عن القرآن وهم المخاطبون آنفاً بقوله : { ما ضل صاحبكم وما غوى } [ النجم : 2 ] وقوله : { أفرأيتم اللات والعزى } [ النجم : 19 ] والمخبر عنهم بقوله : { إن يتبعون إلا الظن } [ النجم : 28 ] الخ وقوله : { إن الذين لا يؤمنون بالآخرة } [ النجم : 27 ] الخ .
والإِعراض والتولي كلاهما مستعمل هنا في مجازه ؛ فأما الإِعراض فهو مستعار لترك المجادلة أو لترك الاهتمام بسلامتهم من العذاب وغضب الله ، وأما التولي فهو مستعار لعدم الاستماع أو لعدم الامتثال .
وحقيقة الإِعراض : لفت الوجه عن الشيء لأنه مشتق من العارض وهو صفحة الخد لأن الكاره لشيء يصرف عنه وجهه .
وحقيقة التولي : الإِدبار والإِنصراف ، وإعراض النبي صلى الله عليه وسلم عنهم المأمور به مراد به عدم الاهتمام بنجاتهم لأنهم لم يقبلوا الإِرشاد وإلا فإن النبي صلى الله عليه وسلم مأمور بإدامة دعوتهم للإِيمان فكما كان يدعوهم قبل نزول هذه الآية فقد دعاهم غير مرة بعد نزولها ، على أن الدعوة لا تختص بهم فإنها ينتفع بها المؤمنون ، ومن لم يسبق منه إعراض من المشركين فإنهم يسمعون ما أنذر به المعرضون ويتأملون فيما تصفهم به آيات القرآن ، وبهذا تعلم أن لا علاقة لهذه الآية وأمثالها بالمتاركة ولا هي منسوخة بآيات القتال .
وقد تقدم الكلام على ذلك في قوله : { فأعرض عنهم وعظهم } في سورة النساء { 63 } وقوله : { وأعرض عن المشركين } في سورة الأنعام { 106 } ، فضُم إليه ما هنا .
وما صدق { من تولى } القوم الذين تولوا وإنما جرى الفعل على صيغة المفرد مراعاة للفظ { مَن } ألا ترى قوله : { ذلك مبلغهم } بضمير الجمع .
وجيء بالاسم الظاهر في مقام الإِضمار فقيل { فأعرض عن من تولى عن ذكرنا } دون : فأعرض عنهم لما تؤذن به صلة الموصول من علة الأمر بالإِعراض عنهم ومن ترتب توليهم عن ذكر الله على ما سبق وصفه من ضلالهم إذ لم يتقدم وصفهم بالتولّي عن الذكر وإنما تقدم وصف أسبابه .
والذكر المضاف إلى ضمير الجلالة هو القرآن .
ومعنى { ولم يرد إلا الحياة الدنيا } كناية عن عدم الإِيمان بالحياة الآخرة كما دل عليه قوله : { ذلك مبلغهم من العلم } لأنهم لو آمنوا بها على حقيقتها لأرادُوها ولو ببعض أعمالهم .