{ فَخَرَجَ } ذات يوم { فِي زِينَتِهِ } أي : بحالة أرفع ما يكون من أحوال دنياه ، قد كان له من الأموال ما كان ، وقد استعد وتجمل بأعظم ما يمكنه ، وتلك الزينة في العادة من مثله تكون هائلة ، جمعت زينة الدنيا وزهرتها وبهجتها وغضارتها وفخرها ، فرمقته في تلك الحالة العيون ، وملأت بِزَّتُهُ القلوب ، واختلبت زينته النفوس ، فانقسم فيه الناظرون قسمين ، كل تكلم بحسب ما عنده من الهمة والرغبة .
ف { قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا } أي : الذين تعلقت إرادتهم فيها ، وصارت منتهى رغبتهم ، ليس لهم إرادة في سواها ، { يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ } من الدنيا ومتاعها وزهرتها { إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ } وصدقوا إنه لذو حظ عظيم ، لو كان الأمر منتهيا إلى رغباتهم ، وأنه ليس وراء الدنيا ، دار أخرى ، فإنه قد أعطي منها ما به غاية التنعم{[614]} بنعيم الدنيا ، واقتدر بذلك على جميع مطالبه ، فصار هذا الحظ العظيم ، بحسب همتهم ، وإن همة جعلت هذا غاية مرادها ومنتهى مطلبها ، لَمِنْ أدنى الهمم وأسفلها وأدناها ، وليس لها أدنى صعود إلى المرادات العالية والمطالب الغالية .
ثم حكى القرآن بعد ذلك مظهرا آخر من مظاهر غرور قارون وبطره فقال : { فَخَرَجَ على قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ } والجملة الكريمة معطوفة على قوله قبل ذلك { قَالَ إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ على عِلْمٍ عندي } وما بينهما اعتراض . والزينة : اسم ما يتزين به الإنسان من حلى أو ثياب أو ما يشبهها .
أى : قال ما قال قارون على سيبل الفخر والخيلاء ، ولم يكتف بهذا القول بل خرج على قومه فى زينة عظيمة . وأبهة فخمة ، فيها ما فيها من ألوان الرياش والخدم .
وقد ذكر بعض المفسرين روايات متعددة ، فى زينته التى خرج فيها ، رأينا أن نضرب عنها صفحا لضعفها ، ويكفى أن نعلم أنها زينة فخمة ، لأنه لم يرد نص فى تفاصيلها .
وأمام هذه الزينة الفخمة التى خرج فيها قارون ، أنقسم الناس إلى فريقين ، فريق استهوته هذه الزينة ، وتمنى أن يكون له مثلها ، وقد عبر القرآن عن هذا الفريق بقوله : { قَالَ الذين يُرِيدُونَ الحياة الدنيا ياليت لَنَا مِثْلَ مَآ أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ } .
أى : خرج قارون على قومه فى زينته ، فما كان من الذين يريدون الحياة الدنيا وزخارفها من قومه ، إلا أن قالوا على سبيل التمنى والانبهار . . . يا ليت لنا مثل ما أوتى قارون من مال وزينة ورياش ، إنه لذو حظ عظيم ، ونصيب ضخم ، من متاع الدنيا وزينتها .
هكذا قال الذين يريدون الحياة الدنيا . وهم الفريق الأول من قوم قارون .
يقول تعالى مخبرًا عن قارون : إنه خرج ذات يوم على قومه في زينة عظيمة ، وتجمل باهر ، من مراكب وملابس عليه وعلى خدمه وحشمه ، فلما رآه مَنْ يريد الحياة الدنيا ويميل إلى زُخرفها وزينتها ، تمنوا أن لو كان لهم مثل الذي أعطي ، قالوا : { يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ } أي : ذو حظ وافر من الدنيا .
القول في تأويل قوله تعالى : { فَخَرَجَ عَلَىَ قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدّنْيَا يَلَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَآ أُوتِيَ قَارُونُ إِنّهُ لَذُو حَظّ عَظِيمٍ } .
يقول تعالى ذكره : فخرج قارون على قومه في زينته ، وهي فيما ذكر ثياب الأُرْجُوان . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا طلحة بن عمرو ، عن أبي الزبير ، عن جابر فخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قال : في القِرْمز .
قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن عثمان بن الأسود ، عن مجاهد فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قال : في ثياب حُمْر .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو خالد الأحمر ، عن عثمان بن الأسود ، عن مجاهد فخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قال : على بَراذين بِيض ، عليها سروج الأُرْجُوان ، عليهم المعصفرات .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد فخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قال : عليه ثوبان مُعَصْفران .
وقال ابن جُرَيج : على بغلة شهباء عليها الأُرجوان ، وثلاث مِئة جارية على البغال الشّهْب ، عليهنّ ثياب حمر .
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثني أبي ويحيى بن يمان ، عن مبارك ، عن الحسن فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قال : في ثياب حُمر وصُفر .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن سماك ، أنه سمع إبراهيم النخَعِيّ ، قال في هذه الاَية فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قال : في ثياب حمر .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا شعبة ، عن سماك ، عن إبراهيم النخعيّ ، مثله .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا غندر ، قال : حدثنا شعبة ، عن سماك ، عن إبراهيم مثله .
حدثنا محمد بن عمرو بن عليّ المقدمي ، قال : حدثنا إسماعيل بن حكيم ، قال : دخلنا على مالك بن دينار عشية ، وإذا هو في ذكر قارون ، قال : وإذا رجل من جيرانه عليه ثياب مُعَصفرة ، قال : فقال مالك : فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قال : في ثياب مثل ثياب هذا .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ : ذُكر لنا أنهم خرجوا على أربعة آلاف دابة ، عليهم وعلى دوابهم الأُرجُوان .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قال : خرج في سبعين ألفا ، عليهمُ المعصفرات ، فيما كان أبي يذكر لنا .
قالَ الّذِينَ يُرِيدُونَ الحَياةَ الدّنْيا : يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ يقول تعفالى ذكره : قال الذين يريدون زينة الحياة الدنيا من قوم قارون : يا ليتنا أُعطينا مثل ما أعطى قارون من زينتها إنّهُ لَذُو حَظَ عَظِيمٍ يقول : إن قارون لذو نصيب من الدنيا .
ثم أخبر تعالى أن قارون «خرج على قومه » وقد أظهر قدرته من الملابس والمراكب وزينة الدنيا ، قال جابر ومجاهد : خرج في ثياب حمر ، وقال ابن زيد : خرج هو وجملته في ثياب معصفرة{[9184]} ، وقيل : في ثياب الأرجوان{[9185]} ، وقيل غير هذا ، وأكثر المفسرون في تحديد زينة قارون وتعيينها بما لا صحة له فاختصرته ، وباقي الآية في اغترار الجهلة والأغمار{[9186]} من الناس بين .