{ وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْن } أي : طريقي الخير والشر ، بينا له الهدى من الضلال ، والرشد من الغي .
فهذه المنن الجزيلة ، تقتضي من العبد أن يقوم بحقوق الله ، ويشكر الله على نعمه ، وأن لا يستعين بها على معاصيه{[1431]} ، ولكن هذا الإنسان لم يفعل ذلك .
وقوله - تعالى - : { وَهَدَيْنَاهُ النجدين } بيان لنعمة أخرى هى أجل النعم وأعظمها
والنجد : الأرض المرتفعة ، وجمعه نجود ، ومنه سميت بلاد نجد بهذا الاسم ، لأنها مرتفعة عن غيرها . . والمراد بالنجدين هنا : طريق الخير . وطريق الشر ، أى : وهدينا هذا الإِنسان وأرشدناه إلى طريق الخير والشر ، عن طريق رسلنا الكرام ، وعن طريق ما منحناه من عقل ، يميز به بين الحق والباطل ، ثم وهبناه الاختيار لأحدهما ، كما قال - تعالى - : { إِنَّا هَدَيْنَاهُ السبيل إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً } قال بعض العلماء : وكأنهما إنما سميا نجدين - أى : سبيل الخير والشر : لأنهما لما وضحت الدلائل ، وقربت الحجج ، وظهرت البراهين ، جعلا كالطريق المرتفعة العالية ، فى أنها واضحة لذوى الأبصار .
أو إنما سميا بذلك ، للإِشارة إلى أن كل منهما وعورة يشق معها السلوك ، ولا يصبر عليها إلا من جاهد نفسه وراضها ، وليس سلوك طريق الشر بأهون من سلوك الخير ، بل الغالب أن يكون طريق الشر ، أشق وأصعب ، وأحوج إلى الجهد . .
ثم أودع نفسه خصائص القدرة على إدراك الخير والشر ، والهدى والضلال ، والحق والباطل : ( وهديناه النجدين )
. . ليختار أيهما شاء ، ففي طبيعته هذا الاستعداد المزدوج لسلوك أي النجدين . والنجد الطريق المرتفع . وقد اقتضت مشيئة الله أن تمنحه القدرة على سلوك أيهما شاء ، وأن تخلقه بهذا الازدواج طبقا لحكمة الله في الخلق ، وإعطاء كل شيء خلقه ، وتيسيره لوظيفته في هذا الوجود .
وهذه الآية تكشف عن حقيقة الطبيعة الإنسانية ؛ كما أنها تمثل قاعدة " النظرية النفسية الإسلامية " هي والآيات الأخرى في سورة الشمس : ( ونفس وما سواها ، فألهمها فجورها وتقواها . قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها )[ وسنرجئ عرضها بشيء من التفصيل إلى الموضع الآخر في سورة الشمس لأنه أوسع مجالا ] .
والهداية : الدلالة على الطريق المبلِّغة إلى المكان المقصود السير إليه .
والنجد : الأرض المرتفعة ارتفاعاً دون الجبل . فالمراد هنا طريقان نجدان مرتفعان ، والطريق قد يكون مُنجداً مصعداً ، وقد يكون غوراً منخفضاً .
وقد استعيرت الهداية هنا للإِلهام الذي جعله الله في الإنسان يدرك به الضارّ والنافع وهو أصل التمدن الإنساني وأصل العلوم والهداية بدين الإسلام إلى ما فيه الفوز .
واستعير النجدان للخير والشر ، وجعلا نجدين لصعوبة اتباع أحدهما وهو الخير فغلِّب على الطريقين ، أو لأن كل واحد صعب باعتبار ، فطريق الخير صعوبته في سلوكه ، وطريق الشر صعوبته في عواقبه ، ولذلك عبر عنه بعدَ هذا ب{ العَقَبة } [ البلد : 11 ] .
ويتضمن ذلك تشبيه إعمال الفكر لنوال المطلوب بالسير في الطريق الموصل إلى المكان المرغوب كما قال تعالى : { إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفوراً } [ الإنسان : 3 ] وتشبيه الإِقبال على تلقّي دعوة الإِسلام إذ شقّت على نفوسهم كذلك .
وأدمج في هذا الاستدلال امتنانٌ على الإِنسان بما وُهبه من وسائل العيش المستقيم .
ويجوز أن تكون الهداية هداية العقل للتفكير في دلائل وجود الله ووحدانيته بحيث لو تأمل لعَرف وحدانية الله تعالى فيكون هذا دليلاً على سبب مؤاخذة أهل الشرك والتعطيل بكفرهم في أزمان الخلو عن إرسال الرسل على أحد القولين في ذلك بين الأشاعرة من جهة ، وبين الماتريدية والمعتزلة من جهة أخرى .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وهديناه الطريقين ، ونجد : طريق في ارتفاع . واختلف أهل التأويل في معنى ذلك؛ فقال بعضهم : عُنِي بذلك : نَجْد الخير، ونَجْد الشرّ ، كما قال : "إنّا هَدَيْناهُ السّبِيلَ إمّا شاكِرا وإمّا كَفُورا" ...
وقال آخرون : بل معنى ذلك : وهديناه الثّديين : سبيلي اللبن الذي يتغذّى به ، وينبت عليه لحمه وجسمه ....
وأولى القولين بالصواب في ذلك عندنا : قول من قال : عُنِي بذلك طريق الخير والشرّ ، وذلك أنه لا قول في ذلك نعلمه غير القولين اللذين ذكرنا والثديان ، وإن كانا سبيلي اللبن ، فإن الله تعالى ذكْره إذ عدّد على العبد نِعَمه بقوله : "إنّا خَلَقْنا الإنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعا بَصِيرا إنّا هَدَيْناهُ السّبِيلَ..." إنما عدّد عليه هدايته إياه إلى سبيل الخير من نِعمه ، فكذلك قوله : "وَهَدَيْناهُ النّجْدَيْن" . ... .
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
أي بينا له ما عليه وما له، وما يحمد عليه وما يذم، وما يقبح ويجمل... ومكنهم من الفعلين جميعا ...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{ وهديناه } أي بما آتيناه من العقل { النجدين } أي طريقي الخير والشر ، وصار بما جعلناه له من ذلك سميعاً بصيراً عالماً فصار موضعاً للتكليف ... عبر عن الخير والشر به لإعلائهما الإنسان عن رتبة باقي الحيوان ، ولأن الإنسان لا يختار واحدة منهما إلا بمعاناة وتكلف كمعاناة من يصعد في عقبة ، والنجد لغة الموضع العالي ، والله تعالى يعلي من أراد على ما شاء منهما بخلاف ما كان يقتضيه ظاهر حاله من أنه لا يحب تكلف شيء أصلاً ، ولا يريد الأشياء تأتيه إلا عفواً ، وذلك لأجل إظهار قدرته سبحانه وتعالى . ...
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :
ووصف سبيل الخير بالرفعة والنجدية ظاهر بخلاف سبيل الشر فإن فيه هبوطاً من ذروة الفطرة إلى حضيض الشقاوة فهو على التغليب أو على توهم المتخيلة له صعوداً ولذا استعمل الترقي في الوصول إلى كل شيء وتكميله...
تفسير القرآن للمراغي 1371 هـ :
وإنما سماهما الله نجدين ، للإشارة إلى أنهما واضحان كطريقين عاليين يراهما ذوو الأبصار ، وإلى أن في كل منهما وعورة يشق معها السلوك ، ولا يصبر عليها إلا من جاهد نفسه وراضها . وفي ذلك إيماء إلى أن طريق الشر ليست بأهون من طريق الخير ، بل الغالب أن طريق الشر أصعب وأشق وأحوج إلى بذل الجهد حتى تقطع إلى النهاية وتوصل إلى الغاية . ...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
( وهديناه النجدين ) . . ليختار أيهما شاء ، ففي طبيعته هذا الاستعداد المزدوج لسلوك أي النجدين . والنجد الطريق المرتفع . وقد اقتضت مشيئة الله أن تمنحه القدرة على سلوك أيهما شاء .... وهذه الآية تكشف عن حقيقة الطبيعة الإنسانية ؛ كما أنها تمثل قاعدة " النظرية النفسية الإسلامية " هي والآيات الأخرى في سورة الشمس : ( ونفس وما سواها ، فألهمها فجورها وتقواها . قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها )...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
واستعير النجدان للخير والشر ، وجعلا نجدين لصعوبة اتباع أحدهما وهو الخير فغلِّب على الطريقين ، أو لأن كل واحد صعب باعتبار ، فطريق الخير صعوبته في سلوكه ، وطريق الشر صعوبته في عواقبه ، ولذلك عبر عنه بعدَ هذا ب{ العَقَبة } [ البلد : 11 ] . ويتضمن ذلك تشبيه إعمال الفكر لنوال المطلوب بالسير في الطريق الموصل إلى المكان المرغوب كما قال تعالى : { إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفوراً } [ الإنسان : 3 ] وتشبيه الإِقبال على تلقّي دعوة الإِسلام إذ شقّت على نفوسهم كذلك . وأدمج في هذا الاستدلال امتنانٌ على الإِنسان بما وُهبه من وسائل العيش المستقيم ...
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
وأضاف كتاب الله إلى هذه النعم نعمة العقل والتفكير التي أكرم بها الإنسان ، وجعلها وسيلة في متناول يده ، ليميز بها الخير من الشر ، والحق من الباطل ، والضلال من الهدى ، وهذه النعمة التي وهبها له الحق سبحانه هي مناط التكليف والتشريف ، ومناط الثواب والعقاب ، وذلك قوله تعالى : { وهديناه النجدين } ، أي : طبعنا طبيعته على استعداد مزدوج : استعداد للخير إن اختاره ، واستعداد للشر إن أراده ، و " النجدان " نجد الخير ونجد الشر ، أي الطريقان المؤديان إليهما .
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
بمعنى أننا منحناه الهداية العقلية التي يتمكن من خلالها من معرفة الخير والشرّ ، ليدخل في عملية التفكير في المقارنة بينهما ، وفي اختيار أيّ واحدٍ منهما لحياته ، ليلتزمه في موقفه كخطٍ عمليٍّ للحياة ، وليتحرك من أجل الدعوة إليه ، فيتحمل مسؤوليته في الالتزام ، وفي الدعوة ، وفي حركة الصراع . وقد ذكر صاحب الميزان ملاحظةً دقيقةً في استفادة المفهوم الجامع بين هذه الآيات الثلاث فقال : «وفي الآيات الثلاث حجّةٌ على قوله : { أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ }أي على أنه تعالى يرى أعمال عباده ، ويعلم ما في ضمائرهم من وجوه الأعمال ، ويميز الخير من الشرّ والحسنة من السيئة .
محصلها : أن الله سبحانه هو الذي يعرّف المرئيات للإنسان بوسيلةٍ عينيّةٍ ، وكيف يتصور أن يعرّفه أمراً وهو لا يعرفه ؟ وهو الذي يدل الإنسان على ما في الضمير بواسطة الكلام ، وهل يعقل أن يكشف له عمّا هو في حجابٍ عنه ؟ وهو الذي يعلّم الإنسان ويميّز له الخير والشرّ بالإلهام ، وهل يمكن معه ، أن يكون هو نفسه لا يعلم به ولا يميزه ؟ فهو تعالى يرى ما عمله الإنسان ويعلم ما ينويه بعمله ، ويميّز كونه خيراً أو شرّاً ، وحسنةً أو سيّئةً »[ 5 ] ....
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
إنّ درك الحقائق يتمّ أوّلاً بالعين واللسان . . . ولذلك تقدم ذكرهما في السياق . . . ثمّ تبع ذلك ذكر الهداية ، الهداية العقلية والفطرية ( وهديناه النجدين ) ، ويشمل التعبير أيضاً «الهداية التشريعية » التي ينهض بمسؤوليتها الأنبياء . نعم . . . لقد أنعم اللّه على الإنسان بالبصر والبصيرة ، وأنعم عليه بهداية الإرشاد إلى الطريق والتحذير من مغبة الانحراف عنه ، كي تكتمل الحجّة على الإنسان . ومع كلّ هذه النعم ، نعم الهداية ، لو انحرف الإنسان عن جادة الحقّ ، فلا يلومنّ إلاّ نفسه . عبارة ( وهديناه النجدين ) إضافة لما لها من مدلول على مسألة الاختيار وحرية الإنسان ، تدلّ أيضاً على ما يتطلبه طريق الخير من جهد وعناء ، لأنّ «النجد » مكان مرتفع وتسلق المكان المرتفع يتطلب كداً وسعياً وجهداً ، غير أن طريق الشرّ له مشاكله ومصاعبه أيضاً ، فأولى بالإنسان أن يبذل الجهد والسعي على طريق الخير . مع ذلك ، فانتخاب الطريق بيد الإنسان . . . الإنسان هو الذي يتحكم في عينه ولسانه فيم يستعملها . . . في الحلال أو الحرام ، وهو الذي يختار إحدى الجادتين «الخير » أو «الشر » ...... ولعل تعبير «نجد » وهي الأرض المرتفعة لطريق الخير يعود إلى أن الأرض المرتفعة ذات هواء أنقى وجوّ أبهج ، وإنّما أطلق النجد للشرور أيضاً من باب التغليب . وقيل أيضاً أنّ التعبير بالنجدين إشارة إلى ظهور طريقي الخير والشرّ وبروزهما ، كبروز وظهور الأرض المرتفعة . ...