ثم بين - سبحانه - أن جميع المخلوقات خاضعة لقدرته وإرادته وعلمه فقال : { إِن كُلُّ مَن فِي السماوات والأرض إِلاَّ آتِي الرحمن عَبْداً . . . } .
و { إِن } نافية بمعنى ما ، أى : ما من أحد من أهل السموات والأرض إلا وهو يأتى يوم القيامة مقراً له - سبحانه - بالعبودية ، خاضعاً لقدرته ، معترفاً بطاعته . مقراً بأنه بعد من مخلوقاته . ومن كان كذلك فكيف يكون له ولد ؟
وصدق الله إذ يقول : { بَدِيعُ السماوات والأرض أنى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَّهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }
المعنى في هذه الآية : وما يجوز أن يتّخذ الرحمان ولداً ، بناء على أن المستحيل لو طلب حصوله لما تأتّى لأنه مستحيل لا تتعلّق به القدرة ، لا لأنّ الله عاجز عنه ، ونحوُ قوله : { قالوا سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء } [ الفرقان : 18 ] يفيد معنى : لا يستقيم لنا ، أو لا يُخوّل لنا أن نتخذ أولياء غيرك ، ونحو قوله : { لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر } [ يس : 40 ] يفيد معنى لا تسْتطيع . ونحو { وما علمناه الشعر وما ينبغي له } [ يس : 69 ] يفيد معنى : أنه لا يليق به ، ونحو : { وهب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي } [ ص : 35 ] يفيد معنى : لا يستجاب طلبه لطالبه إن طلبه ، وفرقٌ بين قولك : ينبغي لك أن لا تفعل هذا ، وبين لا ينبغي لك أن تفعل كذا ، أي ما يجوز لِجلال الله أن يتخذ ولداً لأنّ جميع الموجودات غيرَ ذاته تعالى يجب أن تكون مستوية في المخلوقية له والعبودية له . وذلك ينافي البُنوة لأن بُنوة الإله جزء من الإلهية ، وهو أحد الوجهين في تفسير قوله تعالى : { قل إن كان للرّحمان ولد فأنا أول العابدين } [ الزخرف : 81 ] ، أي لو كان له ولد لعبدتُه قبلكم .
ومعنى { آتي الرحمان عبداً } : الإتيان المجازي ، وهو الإقرار والاعتراف ، مثل : باء بكذا ، أصله رجع ، واستعمل بمعنى اعترَف .
و { عبداً } حال ، أي معترف لله بالإلهية غير مستقل عنه في شيء في حال كونه عبداً .
ويجوز جعل { آتي الرحمان } بمعنى صائر إليه بعد الموت ، ويكون المعنى أنّه يحيا عبداً ويحشر عبداً بحيث لا تشوبه نسبة البنوة في الدنيا ولا في الآخرة .
وتكرير اسم { الرّحمان } في هذه الآية أربع مرات إيماء إلى أن وصف الرحمان الثابت لله ، والذي لا ينكر المشركون ثبوت حقيقته لله وإن أنكروا لفظه ، ينافي ادعاء الولد له لأنّ الرحمان وصف يدلّ على عموم الرّحمة وتكثرها . ومعنى ذلك : أنّها شاملة لكل موجود ، فذلك يقتضي أن كل موجود مفتقر إلى رحمة الله تعالى ، ولا يتقوم ذلك إلا بتحقق العبودية فيه . لأنه لو كان بعض الموجودات ابناً لله تعالى لاستغنى عن رحمته لأنه يكون بالبنوة مساوياً له في الإلهية المقتضية الغنى المطلقَ ، ولأن اتخاذ الابن يتطلّبُ به متخذُه برّ الابن به ورحمته له ، وذلك ينافي كون الله مفيض كلّ رحمة .
فذكر هذا الوصف عند قوله : { وقالوا اتخذ الرحمان ولداً } وقوله { أن دعوا للرحمان ولداً } تسجيل لغباوتهم .
وذكره عند قوله : { وما ينبغي للرحمان أن يتّخذ ولداً } إيماء إلى دليل عدم لياقة اتخاذ الابن بالله .
وذكرُه عند قوله : { إلا آتي الرحمان عبداً } استدلال على احتياج جميع الموجودات إليه وإقرارها له بملكه إياها .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.