40- ما تعبدون من غير الله إلا أسماء أطلقتموها أنتم وآباؤكم على أوهام لا وجود لها ، ما أنزل الله بتسميتها آلهة من حُجة وبرهان ، ما الحكم في أمر العبادة وفيما يصح أن يعبد وما لا تصح عبادته ، إلا لله أمر ألا تخضعوا لغيره وأن تعبدوه - وحده - ذلك الدين السليم القويم الذي تهدي إليه الأدلة والبراهين ، ولكن أكثر الناس لا يسترشدون بهذه الأدلة ، ولا يعلمون ما هم عليه من جهل وضلال .
{ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ }
أي : كسوتموها أسماء ، سميتموها آلهة ، وهي لا شيء ، ولا فيها من صفات الألوهية شيء ، { مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ } بل أنزل الله السلطان بالنهي عن عبادتها وبيان بطلانها ، وإذا لم ينزل الله بها سلطانا ، لم يكن طريق ولا وسيلة ولا دليل لها .
لأن الحكم لله وحده ، فهو الذي يأمر وينهى ، ويشرع الشرائع ، ويسن الأحكام ، وهو الذي أمركم { أن لا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ } أي : المستقيم الموصل إلى كل خير ، وما سواه من الأديان ، فإنها غير مستقيمة ، بل معوجة توصل إلى كل شر .
{ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } حقائق الأشياء ، وإلا فإن الفرق بين عبادة الله وحده لا شريك له ، وبين الشرك به ، أظهر الأشياء وأبينها .
ولكن لعدم العلم من أكثر الناس بذلك ، حصل منهم ما حصل من الشرك ، . فيوسف عليه السلام دعا صاحبي السجن لعبادة الله وحده ، وإخلاص الدين له ، فيحتمل أنهما استجابا وانقادا ، فتمت عليهما النعمة ، ويحتمل أنهما لم يزالا على شركهما ، فقامت عليهما -بذلك- الحجة ، ثم إنه عليه السلام شرع يعبر رؤياهما ، بعد ما وعدهما ذلك ، فقال : { يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا }
ثم انتقل يوسف - عليه السلام - إلى تفنيد العقائد الباطلة والأوهام الكاذبة فقال : { مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ } أى من دون الله - تعالى - المستحق للعبادة .
{ إِلاَّ أَسْمَآءً } أى ألفاظا فارغة لا قيمة لها .
{ سَمَّيْتُمُوهَآ } آلهة بزعمكم { أَنتُمْ وَآبَآؤُكُمْ } أما هي فليس لها من هذا الاسم المزعوم ظل من الحقيقة ، لأنها مخلوقة وليست خالقة ، ومرزوقة وليست رازقة ، وزائلة وليست باقية ، وما كان كذلك لا يستحق أن يكون إلها .
ومفعول { سَمَّيْتُمُوهَآ } الثانى محذوف . والتقدير سميتموها آلهة .
وقوله { وَآبَآؤُكُمْ } لقطع عذرهم ، حتى لا يقولوا : إنا وجدنا آباءنا كذلك يفعلون ، فكأنه - تعالى - يقول لهم : إن آباءكم كانوا أشد من كم جهلا وضلالا ، فلا يصح لكم أن تقتدوا بهم .
والمراد بالسلطان في قوله - تعالى - { مَّآ أَنزَلَ الله بِهَا مِن سُلْطَانٍ } الحجة والبرهان .
أى : ما أنزل الله - تعالى - بتسميتها أربابا - كما سميتموها بزعمكم - من برهان أو دليل يشعر بتسميتها بذلك ، وإنما أنتم الذين خلعتم عليها هذه الأسماء .
وقوله : { إِنِ الحكم إِلاَّ للَّهِ } إبطال لجميع التصرفات المزعومة لآلهتهم . .
أى : ما الحكم في شأن العقائد والعبادات والمعاملات وفى صحتها أو عدم صحتها إلا الله - تعالى - وحده ، لأنه الخالق لكل شئ ، والعليم بكل شئ .
وقوله { أَمَرَ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ } انتقال من الأدلة الدالة على وحدانيته - سبحانه - إلى الأمر بإخلاص العبادة له وحده .
أى : أمر - سبحانه - عباده أن لا يجعلوا عبادتهم إلا له وحده ، لأنه هو خالقهم ورازقهم ، وهو يحييهم ويمييتهم .
ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بقوله : { ذلك الدين القيم ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ } .
أى : ذلك الذي أمرناكم به من وجوب إخلاص العبادة لله - تعالى - وحده ، هو الدين القيم .
أى : الحق المستقيم الثابت ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون ذلك حق العلم ، لاستيلاء الشهوات والمطامع على نفوسهم .
وبعد أن عرف يوسف صاحبيه في السجن بنفسه ، وأقام لهما الأدلة على أن عبادة الله - تعالى - وحده هي الدين الحق ودعاهما إلى الدخول فيه
ثم يخطو يوسف - عليه السلام - خطوة أخرى في تفنيد عقائد الجاهلية وأوهامها الواهية :
( ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان )
إن هذه الأرباب - سواء كانت من البشر أم من غير البشر من الأرواح والشياطين والملائكة والقوى الكونية المسخرة بأمر الله - ليست من الربوبية في شيء ، وليس لها من حقيقة الربوبية شيء . فالربوبية لا تكون إلا لله الواحد القهار ؛ الذي يخلق ويقهر كل العباد . . ولكن البشر في الجاهليات المتعددة الأشكال والأوضاع يسمون من عند أنفسهم أسماء ، ويخلعون عليها صفات ، ويعطونها خصائص ؛ وفي أول هذه الخصائص خاصية الحكم والسلطان . . والله لم يجعل لها سلطانا ولم ينزل بها من سلطان . .
وهنا يضرب يوسف - عليه السلام - ضربته الأخيرة الحاسمة فيبين : لمن ينبغي أن يكون السلطان ! لمن ينبغي أن يكون الحكم ! لمن ينبغي أن تكون الطاعة . . أو بمعنى آخر لمن ينبغي أن تكون " العبادة " !
( إن الحكم إلا لله . أمر ألا تعبدوا إلا إياه . ذلك الدين القيم . ولكن أكثر الناس لا يعلمون ) . .
إن الحكم لا يكون إلا لله . فهو مقصور عليه سبحانه بحكم ألوهيته ؛ إذ الحاكمية من خصائص الألوهية . من ادعى الحق فيها فقد نازع الله سبحانه أولى خصائص ألوهيته ؛ سواء ادعى هذا الحق فرد ، أو طبقة ، أو حزب . أو هيئة ، أو أمة ، أو الناس جميعا في صورة منظمة عالمية . ومن نازع الله سبحانه أولى خصائص ألوهيته وادعاها فقد كفر بالله كفرا بواحا ، يصبح به كفره من المعلوم من الدين بالضرورة ، حتى بحكم هذا النص وحده !
وادعاء هذا الحق لا يكون بصورة واحدة هي التي تخرج المدعي من دائرة الدين القيم ، وتجعله منازعا لله في أولى خصائص ألوهيته - سبحانه - فليس من الضروري أن يقول : ما علمت لكم من إله غيري ؛ أو يقول : أنا ربكم الأعلى ، كما قالها فرعون جهرة . ولكنه يدعي هذا الحق وينازع الله فيه بمجرد أن ينحي شريعة الله عن الحاكمية ؛ ويستمد القوانين من مصدر آخر . وبمجرد أن يقرر أن الجهة التي تملك الحاكمية ، أي التي تكون هي مصدر السلطات ، جهة أخرى غير الله سبحانه . . ولو كان هو مجموع الأمة أو مجموع البشرية . والأمة في النظام الإسلامي هي التي تختار الحاكم فتعطيه شرعية مزاولة الحكم بشريعة الله ؛ ولكنها ليست هي مصدر الحاكمية التي تعطي القانون شرعيته . إنما مصدر الحاكمية هو الله . وكثيرون حتى من الباحثين المسلمين يخلطون بين مزاولة السلطة وبين مصدر السلطة . فالناس بجملتهم لا يملكون حق الحاكمية إنما يملكه الله وحده . والناس إنما يزاولون تطبيق ما شرعه الله بسلطانه ، أما ما لم يشرعه الله فلا سلطان له ولا شرعية ، وما أنزل الله به من سلطان . .
ويوسف - عليه السلام - يعلل القول بأن الحكم لله وحده . فيقول :
ولا نفهم هذا التعليل كما كان يفهمه الرجل العربي إلا حين ندرك معنى " العبادة " التي يخص بها الله وحده . .
إن معنى عبد في اللغة : دان ، وخضع ، وذل . . ولم يكن معناه في الاصطلاح الإسلامي في أول الأمر أداء الشعائر . . إنما كان هو معناه اللغوي نفسه . . فعندما نزل هذا النص أول مرة لم يكن شيء من الشعائر قد فرض حتى ينطلق اللفظ إليه . إنما كان المقصود هو معناه اللغوي الذي صار هو معناه الاصطلاحي . كان المقصود به هو الدينونة لله وحده ، والخضوع له وحده ، واتباع أمره وحده . سواء تعلق هذا الأمر بشعيرة تعبدية ، أو تعلق بتوجيه أخلاقي ، أو تعلق بشريعة قانونية . فالدينونة لله وحده في هذا كله هي مدلول العبادة التي خص الله - سبحانه - بها نفسه ؛ ولم يجعلها لأحد من خلقه . .
وحين نفهم معنى العبادة على هذا النحو نفهم لماذا جعل يوسف - عليه السلام - اختصاص الله بالعبادة تعليلا لاختصاصه بالحكم . فالعبادة - أي الدينونة - لا تقوم إذا كان الحكم لغيره . . وسواء في هذا حكمه القدري القهري في حياة الناس وفي نظام الوجود ، وحكمه الشرعي الإرادي في حياة الناس خاصة . فكله حكم تتحق به الدينونة .
ومرة أخرى نجد أن منازعة الله الحكم تخرج المنازع من دين الله - حكما معلوما من الدين بالضرورة - لأنها تخرجه من عبادة الله وحده . . وهذا هو الشرك الذي يخرج أصحابه من دين الله قطعا . وكذلك الذين يقرون المنازع على ادعائه ، ويدينون له بالطاعة وقلوبهم غير منكرة لاغتصابه سلطان الله وخصائصه . . فكلهم سواء في ميزان الله .
ويقرر يوسف - عليه السلام - أن اختصاص الله - سبحانه - بالحكم - تحقيقا لاختصاصه بالعبادة - هو وحده الدين القيم :
وهو تعبير يفيد القصر . فلا دين قيما سوى هذا الدين ، الذي يتحقق فيه اختصاص الله بالحكم ، تحقيقا لاختصاصه بالعبادة . .
( ولكن أكثر الناس لا يعلمون ) . .
وكونهم ( لا يعلمون ) لا يجعلهم على دين الله القيم . فالذي لا يعلم شيئا لا يملك الاعتقاد فيه ولا تحقيقه . . فإذا وجد ناس لا يعلمون حقيقة الدين ، لم يعد من الممكن عقلا وواقعا وصفهم بأنهم على هذا الدين ! ولم يقم جهلهم عذرا لهم يسبغ عليهم صفة الإسلام . ذلك أن الجهل مانع للصفة ابتداء . فاعتقاد شيء فرغ عن العلم به . . وهذا منطق العقل والواقع . . بل منطق البداهة الواضح .
لقد رسم يوسف - عليه السلام - بهذه الكلمات القليلة الناصعة الحاسمة المنيرة كل معالم هذا الدين ، وكل مقومات هذه العقيدة ؛ كما هز بها كل قوائم الشرك والطاغوت والجاهلية هزا شديدا
إن الطاغوت لا يقوم في الأرض إلا مدعيا أخص خصائص الألوهية ، وهو الربوبية . أي حق تعبيد الناس لأمره وشرعه ، ودينونتهم لفكره وقانونه . وهو إذ يزاول هذا في عالم الواقع يدعيه - ولو لم يقله بلسانه - فالعمل دليل أقوى من القول .
وإن الطاغوت لا يقوم إلا في غيبة الدين القيم والعقيدة الخالصة عن قلوب الناس . فما يمكن أن يقوم وقد استقر في اعتقاد الناس فعلا أن الحكم لله وحده ، لأن العبادة لا تكون إلا لله وحده . والخضوع للحكم عبادة . بل هي أصلا مدلول العبادة
وقوله : { إلا أسماء } ذهب بعض المتكلمين إلى أنه أوقع في هذه الآية الأسماء على المسميات وعبر عنها بها إذ هي ذوات أسماء .
قال القاضي أبو محمد : والاسم الذي هو ألف وسين وميم - قد يجري في اللغة مجرى النفس والذات والعين ، فإن حملت الآية على ذلك صح المعنى ، وليس الاسم - على هذا - بمنزلة التسمية التي هي رجل وحجر ، وإن أريد بهذه الأسماء التي في الآية أسماء الأصنام التي هي بمنزلة اللات والعزى ونحو ذلك من تسميتها آلهة ، فيحتمل أن يريد : إلا ذوات أسماء ، وحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه ؛ ويحتمل - وهو الراجح المختار إن شاء الله - أن يريد : ما تعبدون من دونه ألوهية ولا لكم تعلق بإله إلا بحسب أن سميتم أصنامكم آلهة ، فليست عبادتكم لإله إلا باسم فقط لا بالحقيقة ، وأما الحقيقة فهي وسائر الحجارة والخشب سواء ، فإنما تعلقت عبادتكم بحسب الاسم الذي وضعتم ، فذلك هو معبودكم إذا حصل أمركم ؛ فعبر عن هذا المعنى باللفظ المسرود في الآية ، ومن هذه الآية وهم من قال - في قولنا : رجل وحجر - إن الاسم هو المسمى في كل حال ، وقد بانت هذه المسألة في صدر التعليق .
ومفعول «سميتم » الثاني محذوف ، تقديره : آلهة ، هذا على أن { الأسماء } يراد بها ذوات الأصنام ، وأما على المعنى المختار - من أن عبادتهم إنما هي لمعان تعطيها الأسماء وليست موجودة في الأصنام - فقوله { سميتموها } بمنزلة وضعتموها ، فالضمير للتسميات ، ووكد الضمير ليعطف عليه .
وال { سلطان } الحجة ، وقوله : { إن الحكم إلا الله } أي ليس لأصنامكم التي سميتموها آلهة من الحكم والأقدار والأرزاق شيء ، أي فما بالها إذن ؟ ويحتمل أن يريد الرد على حكمهم في نصبهم آلهة دون الله تعالى وليس لهم تعدي أمر الله في أن لا يعبد غيره ، و { القيم } معناه : المستقيم .
بعد أن أثار لهما الشك في صحة إلهيّة آلهتهم المتعددين انتقل إلى إبطال وجود تلك الآلهة على الحقيقة بقوله : { ما تَعبدون من دونه إلا أسماءً سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان } ، يعني أن تلك الآلهة لا تحقق لحقائقها في الوجود الخارجي بل هي توهّمات تخيّلوها .
ومعنى قصرها على أنها أسماء قصراً إضافياً ، أنها أسماء لا مسمياتتٍ لها فليس لها في الوجود إلا أسماؤها .
وقوله : { أنتم وآباؤكم } جملة مفسرة للضمير المرفوع في { سميتموها } . والمقصود من ذلك الردّ على آبائهم سدّاً لمنافذ الاحتجاج لأحقيتها بأن تلك الآلهة معبودات آبائهم ، وإدماجاً لتلقين المعذرة لهما ليسهل لهما الإقلاع عن عبادة آلهة متعددة .
وإنزال السلطان : كناية عن إيجاد دليل إلهيتها في شواهد العالم . والسلطانُ : الحجة .
وجملة { إن الحكم إلا لله } إبطال لجميع التصرفات المزعومة لآلهتهم بأنها لا حكم لها فيما زعموا أنه من حكمها وتصرفها .
وجملة { أمَرَ أن لا تعبدوا إلا إياه } انتقال من أدلة إثبات انفراد الله تعالى بالإلهية إلى التعليم بامتثال أمره ونهيه ، لأن ذلك نتيجة إثبات الإلهية والوحدانية له ، فهي بيان لجملة { إن الحكم إلا لله } من حيث ما فيها من معنى الحكم .
وجملة { ذلك الدين القيّم ولكن أكثر الناس لا يعلمون } خلاصة لما تقدم من الاستدلال ، أي ذلك الدين لا غيرُه مما أنتم عليه وغيرُكم . وهو بمنزلة رد العجز على الصدر لقوله : { إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله } إلى { لا يشكرون } [ سورة يوسف : 38 ] .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يعني بقوله: {ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِه} ِ: ما تعبدون من دون الله. وقال: {ما تَعْبُدُونَ}، وقد ابتدأ الخطاب بخطاب اثنين فقال: {يا صَاحِبَيِ السّجْنِ}؛ لأنه قصد المخاطب به ومن هو على الشرك بالله مقيم من أهل مصر، فقال للمخاطب بذلك: ما تعبد أنت ومن هو على مثل ما أنت عليه من عبدة الأوثان {إلاّ أسْماءً سَمّيْتُمُوها أنْتُمْ وآباؤُكُمْ}، وذلك تسميتهم أوثانهم آلهة أربابا، شركا منهم وتشبيها لها في أسمائها التي سموها بها بالله، تعالى عن أن يكون له مثل أو شبيه. {ما أنْزَلَ اللّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ}، يقول: سموها بأسماء لم يأذن لهم بتسميتها، ولا وَضَع لهم على أن تلك الأسماء أسماؤها دلالة ولا حجة، ولكنها اختلاق منهم لها وافتراء.
وقوله: {إنِ الحُكْمُ إلاّ لِلّهِ أمَرَ ألاّ تَعْبُدُوا إلاّ إيّاهُ}، يقول: وهو الذي أمر ألا تعبدوا أنتم وجميع خلقه إلا الله الذي له الألوهة والعبادة خالصة دون كلّ ما سواه من الأشياء... عن أبي العالية، في قوله: {إنِ الحُكْمُ إلاّ لِلّهِ أمَرَ ألاّ تَعْبُدُوا إلاّ إياهُ}، قال: أسس الدين على الإخلاص لله وحده لا شريك له.
وقوله: {ذلكَ الدّينُ القَيّمُ}، يقول: هذا الذي دعوتكما إليه من البراءة من عبادة ما سوى الله من الأوثان، وأن تخلصا العبادة لله الواحد القهار، هو الدين القويم الذي لا اعوجاج فيه، والحقّ الذي لا شكّ فيه.
{وَلكِنّ أكْثَرَ النّاسِ لا يَعْلَمُونَ}، يقول: ولكن أهل الشرك بالله يجهلون ذلك، فلا يعلمون حقيقته.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
(ما تعبدون من دونه) من الأصنام والأوثان (إلا أسماء سميتموها) آلهة (أنتم وآباؤكم) لا يستحقون العبادة ولا التسمية بالألوهية، إنما المستحق لذلك الذي خلقكم وخلق السموات والأرض (ما أنزل الله بها من سلطان) أي ما أنزل الله على ما عبدتم وسميتم أنتم وآباؤكم آلهة من حجة وبرهان...
(إن الحكم إلا لله) أي ما الحكم في الألوهية والربوبية والعبادة إلا لله...
(ذلك الدين القيم) أي عبادة الله وتوحيده هو الدين القيم؛ لأنه دين قامت عليه الحجة والبرهان، وأما سائر الأديان فليست بقيمة؛ إذ لا حجة قامت عليها ولا برهان. والقيم هو القائم الذي قام بحجة وبرهان. وقال أهل التأويل: القيم: المستقيم...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
وهذا تمام ما قال يوسف للكفار الذين يعبدون غير الله، فقال لهم: لستم تعبدون من دون الله إلا أسماء سميتموها. وقيل في معناه قولان:
أحدهما: أنه لما كانت الأسماء التي سموا بها آلهتهم لا تصح معانيها صارت كأنها اسماء فارغة يرجعون في عبادتهم إليها فكأنهم إنما يعبدون الأسماء...
الثاني: إلا أصحاب أسماء سميتموها لا حقيقة لها.
والعبادة هي الاعتراف بالنعمة مع ضرب من الخضوع في أعلى الرتبة، ولذلك لا يستحقها إلا الله تعالى.
وقوله: "ما انزل الله بها من سلطان "أي لم ينزل الله على صحة ما تدعونه حجة، ولا برهانا فهي باطلة لهذه العلة، لأنها لو كانت صحيحة، لكان عليها دليل. وقوله ""ان الحكم إلا لله "معناه ليس الحكم إلا لله فيما فعله أو أمر به، والحكم فصل المعنى بما تدعو إليه الحكمة من صواب أو خطأ. والأمر قول القائل لمن دونه (افعل) والصحيح أنه يقتضي الإيجاب.
"أمر أن لا تعبدوا إلا إياه" معناه أمر أن تعبدوه، وكره منكم عبادة غيره، لأن الأمر لا يتعلق بأن لا يكون الشيء، لأنه إنما يكون أمرا بإرادة المأمور والإرادة لا تتعلق إلا بحدوث الشيء.
"ذلك الدين القيم" معناه أن الذي أمر به من عبادته وحده، وأن لا يشرك به شيء هو "الدين القيم": المستقيم الصواب.
"ولكن أكثر الناس لا يعلمون" صحة ما أقوله، لعدولهم عن الحق، والنظر والاستدلال...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{مَا تَعْبُدُونَ} خطاب لهما ولمن على دينهما من أهل مصر {إِلاَّ أَسْمَاء} يعني أنكم سميتم ما لا يستحق الإلهية آلهة، ثم طفقتم تعبدونها، فكأنكم لا تعبدون إلا أسماء فارغة لا مسميات تحتها. ومعنى {سَمَّيْتُمُوهَا} سميتم بها... {مَّا أَنزَلَ الله بِهَا} أي بتسميتها {مّن سلطان} من حجة. {إِنِ الحكم} في أمر العبادة والدين {إلاَّ لِلَّهِ} ثم بين ما حكم به فقال {أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذلك الدين القيم} الثابت الذي دلت عليه البراهين...
اعلم أن جماعة ممن يعبدون الأصنام قالوا نحن لا نقول: إن هذه الأصنام آلهة للعالم بمعنى أنها هي التي خلقت العالم إلا أنا نطلق عليها اسم الإله ونعبدها ونعظمها لاعتقادنا أن الله أمرنا بذلك، فأجاب الله تعالى عنه، فقال أما تسميتها بالآلهة فما أمر الله تعالى بذلك وما أنزل في حصول هذه التسمية حجة ولا برهانا ولا دليلا ولا سلطانا، وليس لغير الله حكم واجب القبول ولا أمر واجب الالتزام بل الحكم والأمر والتكليف ليس إلا له، ثم إنه أمر أن ألا تعبدوا إلا إياه، وذلك لأن العبادة نهاية التعظيم والإجلال فلا تليق إلا بمن حصل منه نهاية الإنعام وهو الإله تعالى لأن منه الخلق والإحياء والعقل والرزق والهداية، ونعم الله كثيرة وجهات إحسانه إلى الخلق غير متناهية، ثم إنه تعالى لما بين هذه الأشياء، قال {ولكن أكثر الناس لا يعلمون} وتفسيره أن أكثر الخلق يسندون حدوث الحوادث الأرضية إلى الاتصالات الفلكية والمناسبات الكوكبية لأجل أنه تقرر في العقول أن الحادث لا بد له من سبب فإذا رأوا أن تغير أحوال هذا العالم في الحر والبرد والفصول الأربعة، إنما يحصل عند تغير أحوال الشمس في أرباع الفلك ربطوا الفصول الأربعة بحركة الشمس، ثم لما شاهدوا أن أحوال النبات والحيوان مختلفة بحسب اختلاف الفصول الأربعة ربطوا حدوث النبات وتغير أحوال الحيوان باختلاف الفصول الأربعة، فبهذا الطريق غلب على طباع أكثر الخلق أن المدبر لحدوث الحوادث في هذا العالم هو الشمس والقمر وسائر الكواكب، ثم إنه تعالى إذا وفق إنسانا حتى ترقى من هذه الدرجة وعرف أنها في ذواتها وصفاتها مفتقرة إلى موجد ومبدع قاهر قادر عليم حكيم، فذلك الشخص يكون في غاية الندرة، فلهذا قال: {ولكن أكثر الناس لا يعلمون}.
التفسير القيم لابن القيم 751 هـ :
إنما عبدوا المسميات، ولكن من أجل أنهم نحلوها أسماء باطلة، كاللات والعزى، وهي مجرد أسماء كاذبة باطلة لا مسمى لها في الحقيقة، فإنهم سموها آلهة وعبدوها لاعتقادهم حقيقة الإلهية لها. وليس لها من الإلهية إلا مجرد الأسماء لا حقيقة المسمى، فما عبدوا إلا أسماء، لا حقائق لمسمياتها، وهذا كمن سمى قشور البصل لحما، وأكلها، فيقال: ما أكلت من اللحم إلا اسمه لا مسماه، وكمن سمى التراب خبزا وأكله، يقال له: ما أكلت إلا اسم الخبز، بل هذا النفي أبلغ في آلهتهم، فإنه لا حقيقة لإلهيتها بوجه، وما الحكمة ثم إلا مجرد الاسم. فتأمل هذه الفائدة الشريفة في كلامه تعالى...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان الجواب لكل من يعقل: الله خير، أشار إلى ذلك بجزم القول بعد ذلك الاستفهام في سلب صلاحيتهم قبل هذا الإمكان بعدم حياتهم، وعلى تقدير حياتهم بعجزهم، فقال: {ما تعبدون} والعبادة: خضوع بالقلب في أعلى مراتب الخضوع، وبين حقارة معبوداتهم وسفولها بقوله: {من دونه} أي الله الذي قام برهان التمانع -الذي هو البرهان الأعظم- على إلهية وعلى اختصاصه بذلك {إلا أسماء} وبين ما يريد وأوضحه بقوله: {سميتموها} أي ذوات أوجدتم لها أسماء {أنتم وآباؤكم} لا معاني لها، لأنه لا أرواح لها فضلاً عن أن تتحقق بمعنى ما سميتموها به من الإلهية، وإن كان لها أرواح فهي منتف عنها خاصة الإلهية، وهي الكمال المطلق الذي يستلزم إحاطة العلم والقدرة. و لما كان مقصود السورة وصف الكتاب بالإبانة للهدى، وكان نفي الإنزال كافياً في الإبانة، لأن عبادة الأصنام باطلة، ولم يكن في السياق كالأعراف مجادلة توجب مماحكة ومماطلة ومعالجة ومطاولة، قال نافياً للإنزال بأي وصف كان: {ما أنزل الله} أي المحيط علماً وقدرة، فلا أمر لأحد معه {بها} وأعرق في النفي فقال: {من سلطان} أي برهان تتسلط به على تعظيمها، فانتفى تعظيمها لذاتها أو لغيرها، وصار حاصل الدليل: لو كانوا أحياء يحكمون لم يصلحوا للإلهية، لإمكان تمانعهم المؤدي إلى إمكان عجز كل منهم الملزوم لأنهم لا صلاحية فيهم للإلهية، لكنهم ليسوا أحياء، فهم أجدر بعدم الصلاحية، فعلم قطعاً أنه لا حكم لمقهور، وأن كل من يمكن أن يكون له ثان مقهور؛ فأنتج هذا قطعاً أن الحكم إنما هو لله الواحد القهار، وهو لم يحكم بتعظيمها؛ وذلك معنى قوله: {إن} أي ما {الحكم إلاّ لله} أي المختص بصفات الكمال؛ والحكم: فصل الأمر بما تدعو إليه الحكمة. ولما انتفى الحكم عن غيره، وكان ذلك كافياً في وجوب توحيده، رغبة فيما عنده، ورهبة مما بيده، أتبعه تأكيداً لذلك وإلزاماً به أنه حكم به، فقال: {أمر ألا تعبدوا} أي أيها الخلق في وقت من الأوقات على حال من الأحوال {إلا إياه} أي وهو النافذ الأمر المطاع الحكم. ولما قام هذا الدليل على هذا الوجه البين، كان جديراً بالإشارة إلى فضله، فأشار إليه بأداة البعد، تنبيهاً على علو مقامه وعظيم شأنه فقال: {ذلك} أي الشأن الأعظم، وهو توحيده وإفراده عن خلقه {الدين القيم} أي الذي لا عوج فيه فيأتيه الخلل من جهة عوجه، الظاهر أمره لمن كان له قلب {ولكن أكثر الناس} أي لما لهم الاضطراب مع الحظوظ {لا يعلمون} أي ليس لهم علم، لأنهم لا ينتفعون بعقولهم، فكأنهم في عداد البهائم العجم، فلأجل ذلك هم لا يفردون الله بالعبادة...
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
وبعد ما نبههما على فساد تعددِ الأرباب بين لهما سقوطَ ألهتِهما عن درجة الاعتبار رأساً فضلاً عن الألوهية فقال معمّماً للخطاب لهما ولمن على دينهما: {مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ} أي من دون الله شيئاً {إِلاَّ أَسْمَاءً} فارغةً لا مطابقَ لها في الخارج لأن ما ليس فيه مصداقُ إطلاقِ الاسم عليه لا وجودَ له أصلاً فكانت عبادتُهم لتلك الأسماء فقط {سَمَّيْتُمُوهَا} جعلتموها أسماءً وإنما لم يَذكُر المسمَّياتِ تربيةً لما يقتضيه المقامُ من إسقاطها عن مرتبة الوجودِ وإيذاناً بأن تسميتهم في البطلان حيث كانت بلا مسمّى كعبادتهم حيث كانت بلا معبود {أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ} بمحض جهلِكم وضلالتِكم {ما أَنزَلَ الله بِهَا} أي بتلك التسميةِ المستتبِعة للعبادة {من سلطان} من حجة تدل على صحتها {إِنِ الحكم} في أمر العبادة المتفرعةِ على تلك التسمية {إِلاَّ لِلَّهِ} عز سلطانُه لأنه المستحقُّ لها بالذات إذ هو الواجبُ بالذات الموجدُ للكل والمالكُ لأمره {أَمَرَ} استئنافٌ مبني على سؤال ناشئ من قوله:"إن الحكم إلا لله" فكأنه قيل: فماذا حكم الله في هذا الشأن؟ فقيل: أمر على ألسنة الأنبياءِ عليهم السلام {أَلاَّ تَعْبُدُواْ} أي بأن لا تعبُدوا {إِلاَّ إِيَّاهُ} حسبما تقضي به قضيةُ العقل أيضاً {ذلك} أي تخصيصُه تعالى بالعبادة {الدين القيم} الثابتُ المستقيم الذي تعاضدت عليه البراهينُ عقلاً ونقلاً {ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ} أن ذلك هو الدينُ القيم لجهلهم بتلك البراهينِ أو لا يعلمون شيئاً أصلاً فيعبدون أسماءً سمَّوها من تلقاء أنفسِهم معْرِضين عن البرهان العقليِّ والسلطانِ النقليِّ...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{ما تعبدون من دونه} أي غير هذا الواحد القهار {إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم} من قبلكم أي وضعتموها لمسميات نحلتموها صفات الربوبية وأعمال الرب الواحد، فاتخذتموها أربابا وما هي بأرباب تخلق ولا ترزق، ولا تضر ولا تنفع، ولا تدبر ولا تشفع، فهي في الحقيقة لا مسميات لها بالمعنى المراد من لفظ الرب الإله المستحق للعبادة، حتى يقال إنها خير أم هو خير {ما أنزل الله بها} أي بتسميتها أربابا على أحد من رسله {من سلطان} أي أيّ نوع من أنواع البرهان والحجة فيقال: إنكم تتبعونه بالمعنى الذي أراده تعالى منه، تعبدا له وحده وطاعة لرسله، فيكون اتباعها أو تعظيمها غير مناف لتوحيده، كاستلام الحجر الأسود عند الطواف بالكعبة المعظمة مع الاعتقاد بأنه حجر لا ينفع ولا يضر كما ثبت في الحديث – فهي تسمية لا دليل عليها من النقل السماوي فتكون من أصول الإيمان، ولا دليل عليها من العقل فتكون من نتائج البرهان. {إن الحكم إلا لله} أي ما الحكم الحق في الربوبية، والعقائد والعبادات الدينية، إلا لله وحده يوحيه لمن اصطفاه من رسله، لا يمكن لبشر أن يحكم فيه برأيه وهواه ولا بعقله واستدلاله، ولا باجتهاده واستحسانه، فهذه القاعدة هي أساس دين الله تعالى على ألسنة جميع رسله لا تختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة. ثم بين أول أصل بني عليها لأنه أول ما يجب أن يسأل عنه من عرفها فقال {أمر ألا تعبدوا إلا إياه} بل إياه وحده فادعوا واعبدوا، وله وحده فاركعوا واسجدوا، وإليه وحده فتوجهوا، حنفاء لله غير مشركين به ملكا من الملائكة الروحانيين، ولا ملكا من الملوك الحاكمين، ولا كاهنا من المتعبدين، ولا شمسا ولا قمرا، ولا نجما ولا شجرا، ولا نهرا مقدسا كالكنج والنيل، ولا حيوانا كالعجل أبيس، فالمؤمن الموحد لله لا يذل نفسه بالتعبد لغير الله من خلقه بدعاء ولا غيره، لإيمانه بأنه هو الرب المدبر المسخر لكل شيء، وأن كل ما عداه خاضع لإرادته وسننه في أسبابه المنافع والمضار، لا يملك لنفسه ولا لغيره غير ما أعطاه من القوى التي هي قوام جنسه ومادة حياة شخصه {أعطى كل شيء خلقه ثم هدى} [طه: 50] فإليه وحده الملجأ في كل ما يعجز عنه الإنسان أو يجهله من الأسباب، وإليه المصير للجزاء على الأعمال يوم الحساب. {ذلك الدين القيم} أي الحق المستقيم الذي لا عوج فيه من جهالة الوثنيين، الذي دعا إليه جميع رسل الله أقوامهم ومنهم آبائي: إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب {ولكن أكثر الناس لا يعلمون} ذلك حق العلم لاتباعهم أهواء آبائهم الوثنيين، الذين اتخذوا لأنفسهم أربابا متفرقة ليس لها من الربوبية أدنى نصيب...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ثم يخطو يوسف -عليه السلام- خطوة أخرى في تفنيد عقائد الجاهلية وأوهامها الواهية: (ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان) إن هذه الأرباب -سواء كانت من البشر أم من غير البشر من الأرواح والشياطين والملائكة والقوى الكونية المسخرة بأمر الله- ليست من الربوبية في شيء، وليس لها من حقيقة الربوبية شيء. فالربوبية لا تكون إلا لله الواحد القهار؛ الذي يخلق ويقهر كل العباد.. ولكن البشر في الجاهليات المتعددة الأشكال والأوضاع يسمون من عند أنفسهم أسماء، ويخلعون عليها صفات، ويعطونها خصائص؛ وفي أول هذه الخصائص خاصية الحكم والسلطان.. والله لم يجعل لها سلطانا ولم ينزل بها من سلطان.. وهنا يضرب يوسف -عليه السلام- ضربته الأخيرة الحاسمة فيبين: لمن ينبغي أن يكون السلطان! لمن ينبغي أن يكون الحكم! لمن ينبغي أن تكون الطاعة.. أو بمعنى آخر لمن ينبغي أن تكون "العبادة "! (إن الحكم إلا لله. أمر ألا تعبدوا إلا إياه. ذلك الدين القيم. ولكن أكثر الناس لا يعلمون).. إن الحكم لا يكون إلا لله. فهو مقصور عليه سبحانه بحكم ألوهيته؛ إذ الحاكمية من خصائص الألوهية. من ادعى الحق فيها فقد نازع الله سبحانه أولى خصائص ألوهيته؛ سواء ادعى هذا الحق فرد أو طبقة أو حزب أو هيئة أو أمة أو الناس جميعا في صورة منظمة عالمية. ومن نازع الله سبحانه أولى خصائص ألوهيته وادعاها فقد كفر بالله كفرا بواحا، يصبح به كفره من المعلوم من الدين بالضرورة، حتى بحكم هذا النص وحده! وادعاء هذا الحق لا يكون بصورة واحدة هي التي تخرج المدعي من دائرة الدين القيم، وتجعله منازعا لله في أولى خصائص ألوهيته -سبحانه- فليس من الضروري أن يقول: ما علمت لكم من إله غيري؛ أو يقول: أنا ربكم الأعلى، كما قالها فرعون جهرة. ولكنه يدعي هذا الحق وينازع الله فيه بمجرد أن ينحي شريعة الله عن الحاكمية؛ ويستمد القوانين من مصدر آخر. وبمجرد أن يقرر أن الجهة التي تملك الحاكمية، أي التي تكون هي مصدر السلطات، جهة أخرى غير الله سبحانه.. ولو كان هو مجموع الأمة أو مجموع البشرية. والأمة في النظام الإسلامي هي التي تختار الحاكم فتعطيه شرعية مزاولة الحكم بشريعة الله؛ ولكنها ليست هي مصدر الحاكمية التي تعطي القانون شرعيته. إنما مصدر الحاكمية هو الله. وكثيرون حتى من الباحثين المسلمين يخلطون بين مزاولة السلطة وبين مصدر السلطة. فالناس بجملتهم لا يملكون حق الحاكمية إنما يملكه الله وحده. والناس إنما يزاولون تطبيق ما شرعه الله بسلطانه، أما ما لم يشرعه الله فلا سلطان له ولا شرعية، وما أنزل الله به من سلطان.. ويوسف -عليه السلام- يعلل القول بأن الحكم لله وحده. فيقول: أمر ألا تعبدوا إلا إياه. ولا نفهم هذا التعليل كما كان يفهمه الرجل العربي إلا حين ندرك معنى "العبادة "التي يخص بها الله وحده.. إن معنى عبد في اللغة: دان، وخضع، وذل.. ولم يكن معناه في الاصطلاح الإسلامي في أول الأمر أداء الشعائر.. إنما كان هو معناه اللغوي نفسه.. فعندما نزل هذا النص أول مرة لم يكن شيء من الشعائر قد فرض حتى ينطلق اللفظ إليه. إنما كان المقصود هو معناه اللغوي الذي صار هو معناه الاصطلاحي. كان المقصود به هو الدينونة لله وحده، والخضوع له وحده، واتباع أمره وحده. سواء تعلق هذا الأمر بشعيرة تعبدية، أو تعلق بتوجيه أخلاقي، أو تعلق بشريعة قانونية. فالدينونة لله وحده في هذا كله هي مدلول العبادة التي خص الله -سبحانه- بها نفسه؛ ولم يجعلها لأحد من خلقه.. وحين نفهم معنى العبادة على هذا النحو نفهم لماذا جعل يوسف -عليه السلام- اختصاص الله بالعبادة تعليلا لاختصاصه بالحكم. فالعبادة -أي الدينونة- لا تقوم إذا كان الحكم لغيره.. وسواء في هذا حكمه القدري القهري في حياة الناس وفي نظام الوجود، وحكمه الشرعي الإرادي في حياة الناس خاصة. فكله حكم تتحقق به الدينونة. ومرة أخرى نجد أن منازعة الله الحكم تخرج المنازع من دين الله -حكما معلوما من الدين بالضرورة- لأنها تخرجه من عبادة الله وحده.. وهذا هو الشرك الذي يخرج أصحابه من دين الله قطعا. وكذلك الذين يقرون المنازع على ادعائه، ويدينون له بالطاعة وقلوبهم غير منكرة لاغتصابه سلطان الله وخصائصه.. فكلهم سواء في ميزان الله. ويقرر يوسف -عليه السلام- أن اختصاص الله -سبحانه- بالحكم -تحقيقا لاختصاصه بالعبادة- هو وحده الدين القيم:
(ذلك الدين القيم).. وهو تعبير يفيد القصر. فلا دين قيما سوى هذا الدين، الذي يتحقق فيه اختصاص الله بالحكم، تحقيقا لاختصاصه بالعبادة..
(ولكن أكثر الناس لا يعلمون).. وكونهم (لا يعلمون) لا يجعلهم على دين الله القيم. فالذي لا يعلم شيئا لا يملك الاعتقاد فيه ولا تحقيقه.. فإذا وجد ناس لا يعلمون حقيقة الدين، لم يعد من الممكن عقلا وواقعا وصفهم بأنهم على هذا الدين! ولم يقم جهلهم عذرا لهم يسبغ عليهم صفة الإسلام. ذلك أن الجهل مانع للصفة ابتداء. فاعتقاد شيء فرغ عن العلم به.. وهذا منطق العقل والواقع.. بل منطق البداهة الواضح. لقد رسم يوسف -عليه السلام- بهذه الكلمات القليلة الناصعة الحاسمة المنيرة كل معالم هذا الدين، وكل مقومات هذه العقيدة؛ كما هز بها كل قوائم الشرك والطاغوت والجاهلية هزا شديدا إن الطاغوت لا يقوم في الأرض إلا مدعيا أخص خصائص الألوهية، وهو الربوبية. أي حق تعبيد الناس لأمره وشرعه، ودينونتهم لفكره وقانونه. وهو إذ يزاول هذا في عالم الواقع يدعيه -ولو لم يقله بلسانه- فالعمل دليل أقوى من القول. وإن الطاغوت لا يقوم إلا في غيبة الدين القيم والعقيدة الخالصة عن قلوب الناس. فما يمكن أن يقوم وقد استقر في اعتقاد الناس فعلا أن الحكم لله وحده، لأن العبادة لا تكون إلا لله وحده. والخضوع للحكم عبادة. بل هي أصلا مدلول العبادة...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
بعد أن أثار لهما الشك في صحة إلهيّة آلهتهم المتعددين انتقل إلى إبطال وجود تلك الآلهة على الحقيقة بقوله: {ما تَعبدون من دونه إلا أسماءً سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان}، يعني أن تلك الآلهة لا تحقق لحقائقها في الوجود الخارجي بل هي توهّمات تخيّلوها. ومعنى قصرها على أنها أسماء قصراً إضافياً، أنها أسماء لا مسمياتٍ لها فليس لها في الوجود إلا أسماؤها. وقوله: {أنتم وآباؤكم} جملة مفسرة للضمير المرفوع في {سميتموها}. والمقصود من ذلك الردّ على آبائهم سدّاً لمنافذ الاحتجاج لأحقيتها بأن تلك الآلهة معبودات آبائهم، وإدماجاً لتلقين المعذرة لهما ليسهل لهما الإقلاع عن عبادة آلهة متعددة. وإنزال السلطان: كناية عن إيجاد دليل إلهيتها في شواهد العالم. والسلطانُ: الحجة. وجملة {إن الحكم إلا لله} إبطال لجميع التصرفات المزعومة لآلهتهم بأنها لا حكم لها فيما زعموا أنه من حكمها وتصرفها. وجملة {أمَرَ أن لا تعبدوا إلا إياه} انتقال من أدلة إثبات انفراد الله تعالى بالإلهية إلى التعليم بامتثال أمره ونهيه، لأن ذلك نتيجة إثبات الإلهية والوحدانية له، فهي بيان لجملة {إن الحكم إلا لله} من حيث ما فيها من معنى الحكم. وجملة {ذلك الدين القيّم ولكن أكثر الناس لا يعلمون} خلاصة لما تقدم من الاستدلال، أي ذلك الدين لا غيرُه مما أنتم عليه وغيرُكم. وهو بمنزلة رد العجز على الصدر لقوله: {إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله} إلى {لا يشكرون} [سورة يوسف: 38]...