{ هَذَا } أي : خلق العالم العلوي والسفلي ، من جماد ، وحيوان ، وسَوْقِ أرزاق الخلق إليهم { خَلق اللَّه } وحده لا شريك له ، كل مقر بذلك حتى أنتم يا معشر المشركين .
{ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ } أي : الذين جعلتموهم له شركاء ، تدعونهم وتعبدونهم ، يلزم على هذا ، أن يكون لهم خلق كخلقه ، ورزق كرزقه ، فإن كان لهم شيء من ذلك فأرونيه ، ليصح ما ادعيتم فيهم من استحقاق العبادة .
ومن المعلوم أنهم لا يقدرون أن يروه شيئا من الخلق لها ، لأن جميع المذكورات ، قد أقروا أنها خلق اللّه وحده ، ولا ثَمَّ شيء يعلم غيرها ، فثبت عجزهم عن إثبات شيء لها تستحق به أن تعبد .
ولكن عبادتهم إياها ، عن غير علم وبصيرة ، بل عن جهل وضلال ، ولهذا قال : { بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ } أي : جَلِيٍّ واضح حيث عبدوا من لا يملك نفعا ولا ضرا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا ، وتركوا الإخلاص للخالق الرازق المالك لكل الأمور .
والإِشارة فى قوله : { هذا خَلْقُ الله } تعود إلى ما ذكره - سبحانه - من مخلوقات قبل ذلك . والخلق بمعنى المخلوق .
هذا الذى ذكرناه لكم من خلق السماوات والأرض والجبال . . هو من خلوقنا وحدنا ، دون أن يشاركنا فيما خلقناه مشارك .
والفاء فى قوله - تعالى - : { فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الذين مِن دُونِهِ } واقعة فى جواب شرط مقدر ، أى : إذا علمتم ذلك فأرونى وأخبرونى ، ماذا خلق الذين اتخذتموهم آلهة من دونه - سبحانه - إنهم لم يخلقوا شيئا ، ما بل هم مخلوقون لله - تعالى .
فالمقصود بهذه الجملة الكريمة تحدى المشركين ، وإثبات أنهم فى عبادتهم لغير الله ، قد تجاوزوا كل حد فى الجهالة والضلالة .
وقوله - سبحانه - : { بَلِ الظالمون فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } إضراب عن تبكيتهم وتوبيخهم ، إلى تسجيل الضلال الواضح عليهم .
أى : بل الظالمون فى ضلال بين واضح ، لأنهم يعبدون آلهة لا تضر ولا تنفع ، ويتركون عبادة الله - تعالى - الخلاق العليم .
( هذا خلق الله )وليتحداهم به ويتحدى دعواهم المتهافتة . . ( فأروني ماذا خلق الذين من دونه ? ) . . وليعقب على هذا التحدي في أنسب وقت : ( بل الظالمون في ضلال مبين ) . . وأي ضلال وأي ظلم بعد هذا الشرك ، في هذا المعرض الكوني الباهر الجليل ?
وعند هذا الإيقاع القوي يختم الجولة الأولى في السورة ذلك الختام المؤثر العميق .
ثم وقف تعالى الكفار على جهة التوبيخ وإظهار الحجة على أن هذه الأشياء هي مخلوقات{[9352]} الله تعالى ، ثم سألهم أن يوجدوا ما خلق الأوثان والأصنام وغيرهم ممن عبد ، أي أنهم لن يخلقوا شيئاً ، بل هذا الذي قريش فيه ضلال مبين ، فذكرهم بالصفة التي تعم معهم سواهم ممن فعل فعلهم من الأمم ، وقوله : { ماذا } يجوز أن تكون «ما » استفهاماً في موضع رفع بالابتداء و «ذا » خبرها بمعنى الذي والعائد محذوف ، ويجوز أن تكون «ما » مفعولة ب «أروني » و «ذا » و «ما » بمعنى الذي والعائد محذوف تقديره في الوجهين خلقه{[9353]} .
وجملة { هذا خلق الله } إلى آخرها نتيجة الاستدلال بخلق السماء والأرض والجبال والدواب وإنزال المطر . واسم الإشارة إلى ما تضمنه قوله { خلق السماوات } إلى قوله { من كل زوج كريم . } والإتيان به مفرداً بتأويل المذكور . والانتقال من التكلم إلى الغيبة في قوله { خلق الله } التفاتاً لزيادة التصريح بأن الخطاب وارد من جانب الله بقرينة قوله { هذا خلق الله } وكذلك يكون الانتقال من التكلم إلى الغيبة في قوله { ماذا خلق الذين من دونه } التفاتاً لمراعاة العود إلى الغيبة في قوله { خَلق الله } . ويجوز أن تكون الرؤية من قوله { فأروني } علمية ، أي فأنْبِئُوني ، والفعل معلقاً عن العمل بالاستفهام ب { ماذا } .
فيتعين أن يكون { فأروني } تهكماً لأنهم لا يمكن لهم أن يكافحوا الله زيادة على كون الأمر مستعملاً في التعجيز ، لكن التهكم أسبق للقطع بأنهم لا يتمكنون من مكافحة الله قبل أن يقطعوا بعجزهم عن تعيين مخلوق خلقه من دون الله قطعاً نظرياً .
وصوغ أمر التعجيز من مادة الرؤية البصرية أشد في التعجيز لاقتضائها الاقتناع منهم بأن يحضروا شيئاً يدّعون أن آلهتهم خلقته . وهذا كقول حُطائط بن يعفر النهشلي{[319]} وقيل حاتم الطائي :
أريني جواداً مات هَزلاً{[320]} لعلني *** أرى ما تزين أو بخيلا مخلَّدا
أي : أحضرني جواداً مات من الهزال وأرينيه لعلي أرى مثل ما رأيتيه .
والعرب يقصدون في مثل هذا الغرض الرؤية البصرية ، ولذلك يكثر أن يقول : ما رأتْ عيني ، وانظر هل ترى . وقال امرؤ القيس :
فللَّه عيناً من رأى من تفرق *** أشتّ وأنأى من فراق المحصب
وإجراء اسم موصول العقلاء على الأصنام مجاراة للمشركين إذ يعدُّونهم عقلاء . و { مِنْ دونه } صلة الموصول . و ( دون ) كناية عن الغير ، و { مِن } جارّة لاسم المكان على وجه الزيادة لتأكيد الاتصال بالظرف .
و { بل } للإضراب الانتقالي من غرض المجادلة إلى غرض تسجيل ضلالهم ، أي في اعتقادهم إلهية الأصنام ، كما يقال في المناظرة : دع عنك هذا وانتقل إلى كذا .
و { الظالمون } : المشركون . والضلال المبين : الكفر الفظيع ، لأنهم أعرضوا عن دعوة الإسلام للحق ، وذلك ضلال ، وأشركوا مع الله غيره في الإلهية ، فذلك كفر فظيع . وجيء بحرف الظرفية لإفادة اكتناف الضلال بهم في سائر أحوالهم ، أي : شدة ملابسته إياهم .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{هذا} الذي ذكر {خلق الله} عز وجل وصنعه.
{فأروني} يعني كفار مكة {ماذا خلق الذين} تدعون:تعبدون {من دونه}.
ثم استأنف الكلام: {بل الظالمون في ضلال مبين} في خسران بيّن...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: هذا الذي أعددت عليكم أيها الناس أني خلقته في هذه الآية خلق الله الذي له ألوهة كل شيء، وعبادة كل خلق، الذي لا تصلح العبادة لغيره، ولا تنبغي لشيء سواه، فأروني أيها المشركون في عبادتكم إياه مَن دونه من الآلهة والأوثان، أيّ شيء خلق الذين من دونه من آلهتكم وأصنامكم، حتى استحقت عليكم العبادة فعبدتموها من دونه، كما استحقّ ذلك عليكم خالقكم، وخالق هذه الأشياء التي عددتها عليكم.. وقوله:"بَلِ الظّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ" يقول تعالى ذكره: ما عبد هؤلاء المشركون الأوثان والأصنام من أجل أنها تخلق شيئا، ولكنهم دعاهم إلى عبادتها ضلالهم، وذهابهم عن سبيل الحقّ، فهم "في ضلال "يقول: فهم في جور عن الحقّ، وذهاب عن الاستقامة "مبين" يقول: يبين لمن تأمله، ونظر فيه وفكّر بعقل أنه ضلال لا هدى.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{فأروني ماذا خلق الذين من دونه}... يخبر عن سفههم في القول والفعل.
يحتمل {الظالمون} وجوها: أحدها: ظلموا أنفسهم حين وضعوها في غير موضعها الذي أمرهم الله أن يضعوها، وهو وضعهم إياها في عبادة الأصنام.
والثاني: {الظالمون} حدود الله التي حد لهم، لم يحفظوها على ما حد، بل جاوزوها.
الثالث: سماهم ظلمة لما ظلموا نعم الله، ولم يشكروها.
{في ضلال مبين} في حيرة بيّنة وهلاك بيّن...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{هذا} إشارة إلى ما ذكر من مخلوقاته. والخلق بمعنى المخلوق. و {الذين مِن دُونِهِ} آلهتهم، بكتهم بأن هذه الأشياء العظيمة مما خلقه الله وأنشأه. فأروني ماذا خلقته آلهتكم حتى استوجبوا عندكم العبادة، ثم أضرب عن تبكيتهم إلى التسجيل عليهم بالتورّط في ضلال ليس بعده ضلال.
يعني الله خالق وغيره ليس بخالق، فكيف تتركون عبادة الخالق وتشتغلون بعبادة المخلوق؟
{بل الظالمون في ضلال مبين} أي بين أو مبين للعاقل أنه ضلال، وهذا لأن ترك الطريق والحيد عنه ضلال، ثم إن كان الحيد يمنة أو يسرة فهو لا يبعد عن الطريق المستقيم مثل ما يكون المقصد إلى وراء فإنه يكون غاية الضلال، فالمقصد هو الله تعالى، فمن يطلبه ويلتفت إلى غيره من الدنيا وغيرها فهو ضال، لكن من وجهه إلى الله قد يصل إلى المقصود ولكن بعد تعب وطول مدة، ومن يطلبه ولا يلتفت إلى ما سواه يكون كالذي على الطريق المستقيم يصل عن قريب من غير تعب. وأما الذي تولى لا يصل إلى المقصود أصلا، وإن دام في السفر.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما ثبت بهذا الخلق العظيم على هذا الوجه المحكم عزته وحكمته، ثبتت ألوهيته فألزمهم وجوب توحيده في العبادة كما توحد بالخلق، لأن ذلك عين الحكمة، كما كان خلقه لهذا الخلق على هذا النظام ليدل عليه سبحانه سر الحكمة، فقال ملقناً للمحسنين من حزبه ما ينبهون به المخالفين، موبخاً لهم مقبحاً لحالهم في عدو لهم عنه مع علمهم بما له من التفرد بهذه الصنائع:
{خلق الله} أي الذي له جميع العظمة فلا كفوء له.
ولما كان العاقل بل وغيره لا ينقاد لشيء إلا أن رأى له فعلاً يوجب الانقياد له، نبه على ذلك بقوله جواباً لما تقديره: فإن ادعيتم لما دونه مما عبدتموه من دونه خلقاً عبدتموه لأجله: {فأروني ماذا خلق الذين} زاد اسم الإشارة زيادة في التقريع بتأكيد النفي المقصود من الكلام، ونبه على سفول رتبتهم بقوله مضمراً لأنه ليس فيما أسند إلى الاسم الأعظم حيثية يخشى من التقييد بها نقص: {من دونه} فسألهم في رؤية ما خلقوا إشارة إلى أنهم فعلوا معهم فعل من يعتقد أن لهم خلقا، فالمعنى أنكم غبنتم غبنا ما غبنه أحد أصلاً بأن انقدتم لما لا ينقاد له حيوان فضلاً عن إنسان بكونه لا فعل له أصلاً، فكان من حقكم -إن كانت لكم عقول- أن تبحثوا اولاً هل لهم أفعال أم لا؟ ثم إذا ثبت فهل هي محكمة أم لا، ثم إذا ثبت فهل شاركهم غيرهم أم لا، وإذا ثبت أن غيرهم شاركهم فأيهما أحكم، وأما أنكم تنقادون لهم ولا فعل لهم أصلاً ثم تقدرون أن لهم أفعالاً ترجونهم بها وتخشونهم، فهذا ما لا يتصوره حيوان أصلاً، ولذلك قال تعالى: {بل} منبهاً على أن الجواب: ليس لهم خلق، بل عبدتهم أو أنتم في جعلهم شركاء، هكذا كان الأصل، ولكنه قال: {الظالمون} أي العريقون في الظلم، تعميماً وتنبيهاً على الوصف الذي أوجب لهم كونهم {في ضلال} عظيم جداً محيط بهم {مبين} أي في غاية الوضوح، وهو كونهم يضعون الأشياء في غير مواضعها، لأنهم في مثل الظلام لا نور لهم لانحجاب شمس الإيمان عنهم بجبال الهوى فلا حكمة لهم...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
اسم الإشارة إلى ما تضمنه قوله {خلق السماوات} إلى قوله {من كل زوج كريم.} والإتيان به مفرداً بتأويل المذكور، والانتقال من التكلم إلى الغيبة في قوله {خلق الله} التفاتاً لزيادة التصريح بأن الخطاب وارد من جانب الله بقرينة قوله {هذا خلق الله} وكذلك يكون الانتقال من التكلم إلى الغيبة في قوله {ماذا خلق الذين من دونه} التفاتاً لمراعاة العود إلى الغيبة في قوله {خَلق الله}.
ويجوز أن تكون الرؤية من قوله {فأروني} علمية، أي فأنْبِئُوني، والفعل معلقاً عن العمل بالاستفهام ب {ماذا}. فيتعين أن يكون {فأروني} تهكماً لأنهم لا يمكن لهم أن يكافحوا الله زيادة على كون الأمر مستعملاً في التعجيز، لكن التهكم أسبق للقطع بأنهم لا يتمكنون من مكافحة الله قبل أن يقطعوا بعجزهم عن تعيين مخلوق خلقه من دون الله قطعاً نظرياً. وصوغ أمر التعجيز من مادة الرؤية البصرية أشد في التعجيز لاقتضائها الاقتناع منهم بأن يحضروا شيئاً يدّعون أن آلهتهم خلقته.
{بل} للإضراب الانتقالي من غرض المجادلة إلى غرض تسجيل ضلالهم، أي في اعتقادهم إلهية الأصنام، كما يقال في المناظرة: دع عنك هذا وانتقل إلى كذا.
{الظالمون}: المشركون. والضلال المبين: الكفر الفظيع، لأنهم أعرضوا عن دعوة الإسلام للحق، وذلك ضلال، وأشركوا مع الله غيره في الإلهية، فذلك كفر فظيع، وجيء بحرف الظرفية لإفادة اكتناف الضلال بهم في سائر أحوالهم، أي: شدة ملابسته إياهم...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
(هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذي من دونه)؟! من المسلّم أنّ اُولئك لم يكونوا يستطيعون ادّعاء كون أيّ من المخلوقات من خلق الأصنام، وعلى هذا فإنّهم كانوا يقرّون بتوحيد الخالق، مع هذا الحال كيف يستطيعون تعليل الشرك في العبادة؟! لأنّ توحيد الخالق دليل على توحيد الربّ وكون مدبّر العالم واحداً، وهو دليل على توحيد العبوديّة. ولذلك اعتبرت الآية عمل اُولئك منطبقاً على الظلم والضلال، فقالت:
(بل الظالمون في ضلال مبين)... وفيه إشارة لطيفة إلى ارتباط «الظلم» و «الضلال»، لأنّ الإنسان عندما لا يعرف مكانة الموجودات الموضوعية في العالم، أو يعرفها ولا يراعيها، ولا يرى كلّ شيء في مكانه، فمن المسلّم أنّ هذا الظلم سيكون سبباً للضلالة والضياع...