يقول تعالى - ذاكرا عجز هؤلاء ، الذين اتخذوا من دونه آلهة ، وأنهم محتاجون مضطرون إلى ربهم الرحمن ، الذي رحمته ، شملت البر والفاجر ، في ليلهم ونهارهم - فقال : { قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ ْ } أي : يحرسكم ويحفظكم { بِاللَّيْلِ ْ } إذ كنتم نائمين على فرشكم ، وذهبت حواسكم { وَالنَّهَارِ ْ } وقت انتشاركم وغفلتكم { مِنَ الرَّحْمَنِ ْ } أي : بدله غيره ، أي : هل يحفظكم أحد غيره ؟ لا حافظ إلا هو .
{ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ ْ } فلهذا أشركوا به ، وإلا فلو أقبلوا على ذكر ربهم ، وتلقوا نصائحه ، لهدوا لرشدهم ، ووفقوا في أمرهم .
ثم أمر - سبحانه - رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يُذَكِّر هؤلاء الجاحدين بنعمه - تعالى - وأن ينذرهم بأسه وعقابه إذا ما استمروا فى كفرهم ، فقال - عز وجل - : { قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم . . . } .
قوله - تعالى - : { يَكْلَؤُكُم } أى : يرعاكم ويحفظكم . يقال : فلان كَلأَ فلانا كَلأً وكِلاءَة - بالكسر - إذا حرسه ، واكتلأ فلان من غيره ، إذا احترس منه .
أى : قل - أيها الرسول الكريم - لهؤلاء المستهزئين بك وبما جئت به من عند ربك : قل لهم من الذى يحرسكم ويحفظكم " بالليل " وأنتم نائمون " والنهار " وأنتم متيقظون " من الرحمن " أى : من عذاب الرحمن وبأسه إذا أراد أن يهلككم بسبب عكوفكم على كفركم وشرككم .
وتقديم الليل على النهار ، لما أن الدواهى فيه أكثر ، والأخذ فيه أشد ، واختار - سبحانه - لفظ الرحمن ، للإشعار بأنهم يعيشون فى خيره ورحمته . ومع ذلك لا يشكرونه - تعالى - على نعمه .
ولذا - أخبر - سبحانه - عنهم بقوله : { بَلْ هُمْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُّعْرِضُونَ } أى : بل هم بعد كل هذا الإنكار عليهم ، والتنبيه لهم عن ذكر ربهم وكتابه الذى أنزله لهدايتهم ، معرضون شاردون ، لا يحاولون الانتفاع بتوجيهاته ، ولا يستمعون إلى إرشاداته .
فالجملة الكريمة تنفى عنهم الانتفاع بما يوجهه الرسول - صلى الله عليه وسلم - إليهم من هدايات وعظات .
أم إن لهم من يرعاهم بالليل والنهار غير الرحمن ، ويمنعهم من العذاب في الدنيا أو الآخرة من دون الله ?
( قل : من يكلؤكم بالليل والنهار من الرحمن ? بل هم عن ذكر ربهم معرضون . أم لهم آلهة تمنعهم من دوننا ? لا يستطيعون نصر أنفسهم ، ولا هم منا يصحبون ) .
إن الله هو الحارس على كل نفس بالليل والنهار . وصفته هي الرحمة الكبرى ، وليس من دونه راع ولا حام . فاسألهم : هل لهم حارس سواه ?
وهو سؤال للإنكار ، وللتوبيخ على غفلتهم عن ذكر الله ، وهو الذي يكلؤهم بالليل والنهار ، ولا راعي لهم سواه : ( بل هم عن ذكر ربهم معرضون ) .
ثم ذكر تعالى نعمته على عبيده في حفظه لهم بالليل والنهار ، وكلاءته وحراسته لهم بعينه التي لا تنام ، فقال : { قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ } ؟
أي : بدل الرحمن بمعني غيره كما قال الشاعر{[19638]} :
جَارية لَمْ تَلْبَس المُرقَّقا *** وَلَم تَذق منَ البُقول الفُسْتُقا
أي : لم تذق بدل البقول الفستق .
وقوله تعالى : { بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ } أي : لا يعترفون{[19639]} بنعمه عليهم وإحسانه إليهم ، بل يعرضون عن آياته وآلائه ،
المعنى { قل } يا محمد لهؤلاء الكفرة المستهزئين بك وبما جئت به الكافرين بذكر الرحمن الجاهلين به قل لهم على جهة التوبيخ والتقريع من يحفظكم ، و «كلأ » معناه حفظ ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم لبلال «اكلأ لنا الفجر »{[8229]} وفي آخر الكلام تقدير محذوف كأنه قال ليس لهم مانع ولا كالئ وعلى هذا النفي{[8230]} تركبت { بل } في قوله { بل هم عن ذكر ربهم معرضون }
بعد أن سُلِّيَ الرسول صلى الله عليه وسلم على استهزائهم بالوعيد أُمر أن يذكرهم بأن غرورهم بالإمهال من قِبل الله رحمة منه بهم كشأنه في الرحمة بمخلوقاته بأنهم إذا نزل بهم عذابه لا يجدون حافظاً لهم من العذاب غيره ولا تمنعهم منه آلهتهم .
والاستفهام إنكار وتقريع ، أي لا يكلؤُهم منه أحد فكيف تجهلون ذلك ، تنبيهاً لهم إذ نسوا نعمه .
وذكر الليل والنهار لاستيعاب الأزمنة كأنه قيل : من يكلؤكم في جميع الأوقات .
وقدم الليل لأنه زمن المخاوف لأن الظلام يُعين أسباب الضر على الوصول إلى مبتغاها من إنسان وحيوان وعلل الأجسام .
ومعنى { من الرحمان } من بأسه وعذابه .
وجيء بعد هذا التفريع بإضرابات ثلاثة انتقالية على سبيل التدريج الذي هو شأن الإضراب .
فالإضراب الأول قوله تعالى : { بل هم عن ذكر ربهم معرضون } ، وهو ارتقاء من التقريع المجعول للإصلاح إلى التأييس من صلاحهم بأنهم عن ذكر ربهم معرضون فلا يُرجَى منهم الانتفاع بالقوارع ، أي أخِّرْ السؤال والتقريع واتركهم حتى إذا تورّطوا في العذاب عرفوا أن لا كالىء لهم .