اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{قُلۡ مَن يَكۡلَؤُكُم بِٱلَّيۡلِ وَٱلنَّهَارِ مِنَ ٱلرَّحۡمَٰنِۚ بَلۡ هُمۡ عَن ذِكۡرِ رَبِّهِم مُّعۡرِضُونَ} (42)

قوله تعالى : { قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم } الآية{[28485]} لما بين أن الكفار في الآخرة { لاَ يَكُفُّونَ عَن وُجُوهِهِمُ النار } بسائر ما وصفهم{[28486]} به أتبعه بأنهم في الدنيا أيضاً لولا أن الله تعالى يحرسهم ويحفظهم لما بقوا في السلامة ، فقال لرسوله : " قُلْ " لهؤلاء الكفار الذين يستهزئون ويغترون بما هم عليه { مَن يَكْلَؤُكُم بالليل والنهار } وهذا كقول الرجل لمن حصل في قبضته ولا مخلص له منه : من ينصرك مني ؟ وهل لك مخلص{[28487]} ؟

والكلاءة : الحفظ ، أي يحفظكم بالليل والنهار { مِنَ الرحمن } إن نزل بكم عذابه . يقال : كَلأَهُ الله يَكْلَؤُهُ كِلاَءَةٌ بالكسر كذا ضبطه الجوهري{[28488]} فهو كالئ ومكلوء .

قال ابن{[28489]} هرمة{[28490]} :

3717- إنَّ سُلَيْمَى وَاللهُ يَكْلَؤُهَا *** ضَنَّتْ بِشَيءٍ مَا كَانَ يَزْرَؤُهَا{[28491]}

واكْتَلأْتُ منه : احترست ، ومنه سُمِّيَ النبات كلأ{[28492]} ، لأنَّ به تقوم بنية البهائم وتحرس . ويقال : بلغ الله بك أكلأ العمر . والمُكَلأُ موضع يحفظ فيه السفن{[28493]} . وفي الحديث : «نَهَى عَنْ بَيْعِ الكَالِئ بَالكَالِئ{[28494]} » أي : بيع الدين بالدين كأنَّ كُلاًّ من رب الدينين بكلأ الآخر أي : يراقبه .

( وقال ابن عباس : المعنى : مَنْ يمنعكم من عذاب الرحمن{[28495]} .

وقرأ الزهري وابن القعقاع{[28496]} «يَكْلُوكُمْ » بضمة خفية دون همز{[28497]} .

وحكى الكسائي والفراء «يَكْلَوْكُمْ » بفتح اللام وسكون الواو{[28498]} .

قال شهاب الدين : ولم أعرفها قراءة . وهو قريب من لغة من يخفف أكلت الكلأ على الكلو وقفاً{[28499]} إلا أنه أجرى الوصل مجرى الوقف{[28500]} ){[28501]} .

قوله : «مِنَ الرَّحمنِ » متعلق ب «يَكْلَؤُكُمْ » على حذف مضاف أي من أمر الرحمن أو بأسه كقوله : { يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ الله }{[28502]} {[28503]} . «وبِالّلَيْلِ«بمعنى في الليل{[28504]} ، وإنما ذكر الليل والنهار ، لأن كل واحد من الوقتين آفات تختص به ، والمعنى : من يحفظكم بالليل إذا نمتم وبالنهار إذا تصرفتم في{[28505]} معاشكم{[28506]} .

وخص هاهنا اسم الرحمن بالذكر تلقيناً للجواب حتى يقول العاقل أنت الكالئ يا إلهنا لكل الخلائق برحمتك كما في قوله : { مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الكريم }{[28507]} . فخص اسم الكريم تلقيناً{[28508]} . قوله : { بَلْ هُمْ } إضراب عما تضمنه الكلام الأول من النفي ، إذ التقدير : ليس لهم كالئ ولا مانع غير الرحمن{[28509]} . والمراد ب «ذِكْرِ رَبِّهِمْ » القرآن ومواعظ الله «مُعْرِضُونَ » لا يتأملون في شيء منها ليعرفوا أنه لا كالئ لهم سواه ، ويتركوا عبادة الأصنام التي لا تحفظهم ولا تنعم عليهم{[28510]} .


[28485]:الآية: سقط من الأصل.
[28486]:في النسختين: ما وصفه. وما أثبته هو الصواب.
[28487]:انظر الفخر الرازي 22/173.
[28488]:الصحاح 1/69. هو إسماعيل بن حماد الجوهري أبو نصر الفارابي، كان إماما في اللغة والأدب، صنف كتابا في العروض، ومقدمة في النحو، والصحاح في اللغة، ومات في حدود سنة 400 هـ. البغية 1/446-447.
[28489]:في ب: بن. وهو تحريف.
[28490]:هو أبو إسحاق إبراهيم بن هرمة، وهو آخر الشعراء الذين يحتج بشعرهم الخزانة 1/424-426.
[28491]:البيت من بحر المنسرح، وهو مطلع قصيدة لإبراهيم بن هرمة، وقد قيل له إنّ قريشا لا تهمز، فقال: لأقولنّ قصيدة أهمزها كلها بلسان قريش. والبيت في مجاز القرآن 2/39، ومجالس العلماء 122، أمالي ابن الشجري 1/215، والمغني 1/388-396، القرطبي 11/291، وشرح شواهد المغني 2/826. سليمى: تصغير سلمى. يكلؤها: يحرسها ويحفظهما. ضنّت: بخلت. يزرؤها: ينقضها. واستشهد به على أن (يكلؤها) مضارع (كلا) بمعنى يحرسها ويحفظها.
[28492]:وفي اللسان (كلا): الكلأ: البقل والشجر.
[28493]:وفي اللسان (كلأ): والملأ، بالتشديد: شاطئ النهر ومرفأ السفن وهو ساحل كل نهر.
[28494]:وهو أن يكون لك على رجل دين فإذا حل أجله استباعك ما عليه إلى أجل، انظر النهاية في غريب الحديث 4/194، الفائق 3/273.
[28495]:انظر البغوي 5/488.
[28496]:تقدم.
[28497]:أي: أن الهمزة صارت بين الهمزة والواو الساكنة، وذلك أن الهمزة إذا كانت مضمومة وقبلها فتحة صارت بين الهمزة والواو الساكنة. انظر الكتاب 3/542، البحر المحيط 6/314.
[28498]:انظر معاني القرآن 2/204، والبحر المحيط 6/314.
[28499]:حكى سيبويه في آخر الكلمة أن من العرب من يقول: هذا هو الكَلَوْ، حرصا على البيان، كما قالوا: الوَثَوْ. انظر الكتاب 4/178-179.
[28500]:الدر المصون 5/50.
[28501]:ما بين القوسين سقط من الأصل.
[28502]:[الرعد: 11].
[28503]:انظر التبيان 2/918.
[28504]:أي: أن الباء بمعنى الظرفية.
[28505]:في ب: و.
[28506]:انظر الفخر الرازي 22/174.
[28507]:من قوله تعالى: {يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم} [الانفطار: 6].
[28508]:انظر الفخر الرازي 22/174.
[28509]:قاله ابن عطية. تفسير ابن عطية 10/154.
[28510]:انظر الفخر الرازي 22/174.