وقوله - تعالى - : { وَجَآءَ رَبُّكَ . . . } هذه الآية وأمثالها من آيات الصفات التى يرى السلف وجوب الإِيمان بها كما جاءت ، بمعنى أننا نؤمن بمجئ الله - تعالى - ولكن من غير تكييف ولا تمثيل ، بل نكل علم كيفية مجيئة إلى مشيئته - تعالى
والخلف يؤولون ذلك بأى المجئ هنا بمعنى مجئ أمره وقضائه .
قال الآلوسى : قوله - تعالى - : { وَجَآءَ رَبُّكَ . . . } قال منذر بن سعيد ، معناه : ظهر - سبحانه - للخلق هنالك ، وليس ذلك بمجئ نقلة . . وقيل : الكلام على حذف مضاف للتهويل ، أى : وجاء أمر ربك وقضاؤه . واختار جع أنه تمثيل لظهور آيات اقتداره - تعالى - وتبيين آثار قدرته وسلطانه ، مثلت حاله - سبحانه - فى ذلك ، بحال الملك إذا حضر بنفسه ظهر بحضوره من آثار الهيبة ما لا يظهر بحضور عساكره ووزرائه وخواصهن بكرة أبيهم ، وأنت تعلم ما للسلف فى المتشابه من الكلام .
{ والملك } أى : جنس المَلَكِ ، فيشمل جميع الملائكة { صَفّاً صَفّاً } أى : مصطفين ، أو ذوى صفوف .
{ وَجَاءَ رَبُّكَ } يعني : لفصل القضاء بين خلقه ، وذلك بعد ما يستشفعون{[30057]} إليه بسيد ولد آدم على الإطلاق محمد صلى الله عليه وسلم ، بعدما يسألون أولي العزم من الرسل واحدًا بعد واحد ، فكلهم يقول : لست بصاحب ذاكم ، حتى تنتهي النوبة إلى محمد صلى الله عليه وسلم{[30058]} فيقول : " أنا لها ، أنا لها " . فيذهب فيشفع عند الله في أن يأتي لفصل القضاء فيشفعه الله في ذلك ، وهي أول الشفاعات ، وهي المقام المحمود كما تقدم بيانه في سورة " سبحان " {[30059]} فيجيء الرب تعالى لفصل القضاء كما يشاء ، والملائكة يجيئون بين يديه صفوفا صفوفا .
وقوله : وَجاءَ رَبّكَ وَالمَلَكُ صَفّا صَفّا يقول تعالى ذكره : وإذا جاء ربك يا محمد وأملاكه صفوفا صفا بعد صفّ ، كما :
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا محمد بن جعفر وعبد الوهاب ، قالا : حدثنا عوف ، عن أبي المِنهال ، عن شهر بن حوشب ، عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : إذا كان يوم القيامة مدّت الأرض مدّ الأديم ، وزيد في سعتها كذا وكذا ، وجمع الخلائق بصعيد واحد ، جنهم وإنسهم . فإذا كان ذلك اليوم قيضت هذه السماء الدنيا عن أهلها على وجه الأرض ، ولأهل السماء وحدهم أكثر من أهل الأرض جنهم وإنسهم بضعف ، فإذا نثروا على وجه الأرض فزِعوا منهم ، فيقولون : أفيكم ربنا : فيفزعون من قولهم ، ويقولون : سبحان ربنا ليس فينا ، وهو آت ثم تقاض السماء الثانية ، ولأَهل السماء الثانية وحدهم أكثر من أهل السماء الدنيا ومن جميع أهل الأرض بضعف جنهم وإنسهم ، فإذا نثروا على وجه الأرض فزع إليهم أهل الأرض ، فيقولون : أفيكم ربنا ؟ فيفزعون من قولهم ويقولون : سبحان ربنا ليس فينا ، وهو آت ثم تقاضُ السموات سماء سماء ، كلما قيضت سماء عن أهلها كانت أكثر من أهل السموات التي تحتها ، ومن جميع أهل الأرض بضعف ، فإذا نثروا على وجه الأرض ، فزِع إليهم أهل الأرض ، فيقولون لهم مثل ذلك ، ويرجعون إليهم مثل ذلك ، حتى تُقاض السماء السابعة ، فلأَهل السماء السابعة أكثر من أهل ستّ سموات ، ومن جميع أهل الأرض بضعف ، فيجيء الله فيهم والأمم جِثِيّ صفوف ، وينادي مناد : ستعلمون اليوم من أصحاب الكرم ، ليقم الحمادون لله على كل حال قال : فيقومون فيسرحون إلى الجنة ثم ينادي الثانية : ستعلمون اليوم من أصحاب الكرم ، أين الذين كانت تتجافَى جنوبُهم عن المضاجع ، يدعون ربهم خوفا وطمعا ، ومما رزقناهم ينفقون ؟ فيسرحون إلى الجنة ثم ينادي الثالثة : ستعلمون اليوم من أصحاب الكرم : أين الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله ، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ، يخافون يوما تتقلّب فيه القلوب والأبصار ، فيقومون فيسرحون إلى الجنة فإذا أخذ من هؤلاء ثلاثة خرج عُنُق من النار ، فأشرف على الخلائق ، له عينان تبصران ، ولسان فصيح ، فيقول : إني وُكّلت منكم بثلاثة : بكلّ جبار عنيد ، فيلقُطُهم من الصفوف لقط الطير حبّ السمسم ، فيحبس بهم في جهنم ، ثم يخرج ثانية فيقول : إني وكلت منكم بمن آذى الله ورسوله فيلقطهم لقط الطير حبّ السمسم ، فيحبس بهم في جهنم ، ثم يخرج ثالثة ، قال عوف ، قال أبو المنهال : حسبت أنه يقول : وكلت بأصحاب التصاوير ، فيلتقطهم من الصفوف لقطَ الطير حبّ السمسم ، فيحبس بهم في جهنم ، فإذا أخذ من هؤلاء ثلاثة ، ومن هؤلاء ثلاثة ، نُشرت الصحف ، ووُضعت الموازين ، ودُعي الخلائق للحساب .
حدثني موسى بن عبد الرحمن قال : حدثنا أبو أُسامة ، عن الأجلح ، قال : سمعت الضحاك بن مزاحم يقول : إذا كان يوم القيامة ، أمر الله السماء الدنيا بأهلها ، ونزل من فيها من الملائكة ، وأحاطوا بالأرض ومن عليها ، ثم الثانية ، ثم الثالثة ، ثم الرابعة ، ثم الخامسة ، ثم السادسة ، ثم السابعة ، فصفوا صفا دون صفّ ، ثم ينزل الملك الأعلى على مجنبته اليسرى جهنم ، فإذا رآها أهل الأرض ندّوا ، فلا يأتون قطرا من أقطار الأرض إلاّ وجدوا سبعة صفوف من الملائكة ، فيرجعون إلى المكان الذي كانوا فيه ، فذلك قول الله : إنّي أخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التّنادِ يَوْمَ تُوَلّونَ مُدْبِرِينَ مالَكُمْ مِنَ اللّهِ مِنْ عاصِمٍ ، وذلك قوله : وَجاءَ رَبّكَ وَالمَلَكُ صَفّا صَفّا وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنّمَ وقوله : يا مَعْشَرَ الجِنّ وَالإنْسِ إنِ اسْتَطَعْتُمْ أنْ تَنْفُذُوا مِنْ أقْطارِ السّمَوَاتِ وَالأرْضِ فانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إلاّ بِسُلْطانٍ ، وذلك قول الله : وَانْشَقّتِ السّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ وَالمَلَكُ على أرْجائِها .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربيّ ، عن إسماعيل بن رافع المدني ، عن يزيد بن أبي زياد ، عن محمد بن كعب القُرَظي ، عن رجل من الأنصار ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «تُوْقَفُونَ مَوْقِفا وَاحِدا يَوْمَ الْقِيامَةِ مِقْدَارَ سَبْعِينَ عاما لا يُنْظُرُ إلَيْكمْ وَلا يُقْضَى بَيْنَكمْ . قَدْ حُصِرَ عَلَيْكمْ ، فَتَبْكُونَ حتى يَنْقَطِعَ الدّمْعُ ، ثُمّ تَدْمَعُونَ دَما ، وَتَبْكُونَ حتى يَبْلُغَ ذلكَ مِنْكمْ الأذْقانَ ، أوْ يُلْجِمَكُمْ فَتَضُجّونَ ، ثُمّ تَقُولُونَ مَنْ يَشْفَعْ لَنا إلى رَبّنا ، فَيَقْضِيَ بَيْنَنا ، فَيَقُولُونَ مَنْ أحَقّ بِذلكَ مِنْ أبِيكُمْ ؟ جَعَلَ اللّهُ تُرْبَتَهُ ، وَخَلْقَهُ بِيَدِهِ ، وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ ، وكَلّمَهُ قَبْلاً ، فَيُؤْتَى آدَمُ صَلى اللّهُ عليهِ وسلّمَ فَيُطْلَبُ ذلكَ إلَيْهِ ، فَيأْبَى ، ثُمّ يَسْتَقْرُونَ الأنْبِياءَ نَبِيّا نَبِيّا ، كُلّما جاءُوا نَبِيّا أَبى » قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «حتى يأْتُونِي ، فإذَا جاءُونِي خَرَجْتُ حتى آتِي الفَحْصَ » . قال أبو هريرة : يا رسول الله ، ما الفحص ؟ قال : «قُدّامَ العَرْشِ ، فأخِرّ ساجِدا ، فَلا أزَالُ ساجِدا حتى يَبْعَثَ اللّهُ إليّ مَلَكا ، فَيأخُذَ بعَضُدِي ، فَيرْفَعَنِي ثُمّ يَقُولُ اللّهُ لي : مُحَمدُ ، وَهُوَ أعْلَمُ ، فأقُولُ : نَعَمْ ، فَيَقُولُ : ما شأنُكَ ؟ فأقول : يا رَبّ وَعَدْتَنِي الشّفاعَةَ ، شَفّعْنِي فِي خَلْقِكَ فاقْضِ بَيْنَهُمْ ، فَيَقُولُ : قَدْ شَفّعْتُكَ ، أنا آتِيكُمْ فأقَضِي بَيْنَكمْ » . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «فأنْصَرِفُ حتى أقِفَ مَعَ النّاسِ ، فَبَيْنا نَحْنُ وُقُوفٌ ، سَمِعْنا حِسّا مِنَ السّماءِ شَدِيدا ، فَهالَنا ، فَنزَلَ أهْلُ السّماءُ الدّنْيا بِمِثْلَيْ مَنْ فِي الأرْضِ مِنَ الجِنّ والإنْسِ ، حتى إذَا دَنَوْا مِنَ الأرْضِ ، أشْرَقَتِ الأرْضُ بِنَورِهِمْ ، وأخَذُوا مَصَافّهُمْ ، وَقُلْنا لَهُمْ : أفِيكُمْ رَبّنا ؟ قالُوا : لا ، وَهُوَ آتٍ . ثُمّ يَنْزِلُ أهْلُ السّماءِ الثّانِيَةِ بِمِثْلَيْ مَنْ نَزَلَ مِنَ المَلائِكَةِ ، وَبِمِثْليْ مَنْ فِيها مِنَ الجِنّ وَالإنْسِ ، حتى إذَا دَنَوْا مِنَ الأرْضِ ، أشْرَقَتِ الأرْضُ بِنُورِهِمْ ، وأخَذُوا مَصَافّهُمْ ، وَقُلْنا لَهُمْ : أفِيكُمْ رَبّنا : قالُوا : لا ، وَهُوَ آتٍ . ثُمّ نَزَلَ أهْلُ السّمَوَاتِ عَلى قَدْرِ ذلكَ مِنَ الضّعْفِ ، حتى نَزَلَ الجَبّارُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الغَمامِ وَالمَلائِكَةِ ، ولَهُمْ زَجَلٌ مِنْ تَسْبِيحِهِمْ ، يَقُولُونُ : سُبْحانَ ذي المُلْك وَالمَلَكُوتِ سُبْحانَ رَبّ العَرْشِ ذِي الجَبرُوتِ سُبْحانَ الْحَيّ الّذِي لا يَمُوتُ سُبْحانَ الّذي يُمِيتُ الخَلائِقُ وَلا يَمُوتُ سُبّوحٌ قُدّوسٌ رَبّ المَلائِكَةِ وَالرّوحِ قُدّوسٌ قُدُوسٌ ، سُبْحانَ رَبّنا الأعْلَى سُبْحانَ ذِي الجَبرُوتِ وَالمَلَكُوتِ والْكِبْرِياءِ والسّلْطانِ والعَظَمَةِ سُبْحانَهُ أبَدا أبَدا يَحْمِلُ عَرْشَهُ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ ، وَهُمُ اليَوْمَ أرْبَعَةٌ ، أقْدامُهُمْ على تُخُومِ الأرْضِ السّفْلَى والسّمَوَاتِ إلى حُجَزِهِمْ ، وَالعَرْشُ عَلى مَناكِبهِمْ ، فَوَضَعَ اللّهُ عَرْشَهُ حَيْثُ شاء مِنَ الأرْضِ ، ثُمّ يُنادِي بِنِدَاء يُسْمِعُ الخَلائِقَ ، فَيَقُولُ : يا مَعْشَرَ الجِنّ والإنْسِ ، إنّي قَدْ أنْصَتّ مُنْذُ يَوْمِ خَلَقْتُكُمْ إلى يَوْمِكُمْ هَذَا ، أسْمَعُ كَلامَكُمْ ، وأُبْصِرُ أعمالَكمْ ، فأنْصِتُوا إليّ ، فإنّمَا هِيَ صُحُفُكُمْ وأعمالُكمْ تُقْرأُ علَيْكمْ ، فَمَنْ وَجَدَ خَيْرا فَلْيَحْمَدِ اللّهِ ، وَمَنْ وَجَد غيرَ ذلكَ فَلا يَلُومَنّ إلاّ نَفْسَهُ . ثُمّ يأْمُرُ اللّهُ جَهَنّمَ فَتُخْرِجُ مِنْها عُنُقا ساطِعا مُظْلِما ، ثُمّ يَقُولُ اللّهُ : ألَمْ أعْهَدْ إلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أنْ لا تَعْبُدُوا الشّيْطانَ . . . ، إنّه لَكُمْ عَدُوّ مُبِينٌ إلى قوله : هَذِهِ جَهَنّمُ التي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ وَامْتازُوا الْيَوْمَ أيّها المُجْرِمُونَ فيتميز الناس ويَجْثُونَ ، وَهيَ التي يَقُولُ اللّهُ : وَتَرَى كُلّ أُمّةٍ جاثِيَةٍ كُلّ أُمّةٍ تُدْعَى إلى كِتابِها ، الْيَوْمَ . . . الاَية ، فَيَقْضِي اللّهُ بَينَ خَلْقِهِ ، الجِنّ والإنْسَ وَالْبَهائمَ ، فإنّهُ لَيَقِيدُ يَوْمَئِذٍ للجَمّاءِ مِنْ ذَاتِ القُرُونِ ، حتى إذَا لَمْ يَبْقَ تَبِعَةٌ عِنْدَ وَاحِدَةٍ لأُخْرَى ، قال اللّهُ : كُونُوا تُرَابا ، فَعنْدَ ذلكَ يَقُولُ الكافِرُ : يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابا ، ثُمّ يَقْضِي اللّهُ سُبْحانَهُ بَينَ الجِنْ والإنْس » .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَجاءَ رَبّكَ وَالمَلَكُ صَفّا صَفّا : صفوف الملائكة .
وأما قوله تعالى : { والملك صفّاً صفّاً } ف { صفّاً } الأول حال من { الملك } .
و{ صَفّاً } الثاني لم يختلف المفسرون في أنه من التكرير المراد به الترتيب والتصنيف ، أي صفّاً بعد صفِّ ، أو خَلْفَ صفّ ، أو صنفاً من الملائكة دون صنف ، قيل : ملائكة كل سَماء يكونون صفّاً حول الأرض على حدة .
قال الرضي وأما تكرير المنكَّر في قولك ، قرأت الكتاب سورةً سورةً ، وقوله تعالى : { وجاء ربك والملك صفاً صفاً } فليس في الحقيقة تأكيداً إذ ليس الثاني لتقرير ما سبق بل هو لتكرير المعنى لأن الثاني غير الأول معنى . والمعنى : جميع السور وصفوفاً مختلفة ا ه . وشذّ من المفسرين من سكت عنه . ولا يحتمل حمله على أنه مفعول مطلق مؤكد لعامله إذ لا معنى للتأكيد .
وإسناد المجيء إلى الله إما مجاز عقلي ، أي جاء قضاؤه ، وإما استعارة بتشبيه ابتداء حسابه بالمجيء .
وأما إسناده إلى الملَك فإما حقيقةٌ ، أو على معنى الحضور وأيًّا مَّا كان فاستعمال ( جاء ) من استعمال اللفظ في مجازه وحقيقته ، أو في مَجَازَيْه .
و { الملَك } : اسم جنس وتعريفه تعريف الجنس فيرادفه الاستغراق ، أي والملائكة .
والصف : مصدر صَفَّ الأشْياءَ إذا جعل الواحد حذو الآخر ، ويطلق على الأشياء المصفوفة ومنه قوله تعالى : { إن اللَّه يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً } [ الصف : 4 ] وقوله : { فأجمعوا كيدكم ثم ائتوا صفاً } في سورة طه ( 64 ) .