محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{وَجَآءَ رَبُّكَ وَٱلۡمَلَكُ صَفّٗا صَفّٗا} (22)

{ وجاء ربك والملك صفا صفا } قال ابن كثير أي وجاء الرب تبارك وتعالى لفصل القضاء كما يشاء والملائكة بين يديه صفوفا صفوفا وسبقه ابن جرير إلى ذلك وعضده بآثار عن ابن عباس وأبي هريرة والضحاك في نزوله تعالى من السماء يومئذ في ظلل من الغمام والملائكة بين يديه وإشراق الأرض بنور ربها ومذهب الخلف في ذلك معروف من جعل الكلام على حذف مضاف للتهويل أي جاء أمره وقضاؤه أو استعارة تمثيلية لظهور آيات افتقاره وتبين آثار قهره وسلطانه .

قال الزمخشري مثلت حاله في ذلك ، بحال الملك إذا حضر بنفسه ظهر بحضوره من آثار الهيبة والسياسة ما لا يظهر بحضور عساكره كلها ووزرائه وخواصه عن بكرة أبيهم انتهى .

وكأن الخلاف بين المذهبين لفظي إذ مبني مذهب الخلف على أن الظاهر غير مراد ويعنون بالظاهر ما للخلق مما يستحيل على الخالق فوجب تأويله وأما السلف فينكرون أن معنى الظاهر منها ما للخلق بل هو ما يتبادر إلى فهم المؤمن الذي يعلم أن ذاته تعالى كما أنها لا تشبه الذوات فكذلك صفاته لا تشبه الصفات لأنها لا تكيف ولا تعلم بوجه ما فهي حقيقة النسبة إليه سبحانه على ما يليق به كالعلم والقدرة لا تمثيل ولا تعطيل .

قال الإمام ابن تيمية رضي الله عنه واعلم أن من المتأخرين من يقول إن مذهب السلف إقرارها على ما جاءت به مع اعتقاد أن ظاهرها غير مراد وهذا لفظ مجمل فإن قوله ( ظاهرها غير مراد ) يحتمل أنه أراد بالظاهر نعوت المخلوقين وصفات المحدثين مثل أن يراد بكون الله قبل وجه المصلي انه مستقر في الحائط الذي يصلي إليه { إن الله معنا } ظاهره أنه إلى جانبنا ونحو ذلك فلا شك أن هذا غير وارد ومن قال إن مذهب السلف ان هذا غير وارد فقد أصاب في المعنى لكن أخطأ في إطلاق القول بأن هذا ظاهر الآيات والأحاديث فإن هذا المجال ليس هو الظاهر على ما قد بيناه في غير هذا الموضع اللهم إلا أن يكون هذا المعنى الممتنع صار لبعض الناس فيكون القائل لذلك مصيبا بهذا الاعتبار معذورا في هذا الإطلاق فإن الظهور والبطون قد يختلف باختلاف أحوال الناس وهو من الأمور النسبية انتهى .

وقد بسط رحمة الله الكلام على ذلك في ( الرسالة المدنية ) وأوضح أن الكلام في الصفات فرع من الكلام في الذات يحتذى حذوه ويتبع فيه مثاله فإذا كان إثبات الذات وجود لا إثبات كيفية فكذلك إثبات الصفات إثبات وجود لا إثبات كيفية .

وقال رحمه الله في بعض فتاويه : نحن نقول بالمجاز الذي قام دليله بالتأويل الجاري على نهج السبيل ولم يوجد في شيء من كلامنا وكلام أحد منا أنا لا نقول بالمجاز والتأويل والله عند لسان كل قائل ولكن ننكر من ذلك ما خالف الحق والصواب وما فتح به الباب إلى هدم السنة والكتاب واللحاق بمعرفة أهل الكتاب والمنصوص عن الإمام أحمد وجمهور أصحابه أن القرآن مشتمل على المجاز ولم يعرف عن غيره من الأئمة نص في هذه المسألة وقد ذهب طائفة من العلماء من أصحابه وغيرهم كأبي بكر بن أبي داود وأبي الحسن الخرزي وأبي الفضل التميمي وابن حامد فيما أظن وغيرهم إلى إنكار أن يكون في القرآن مجاز وإنما دعاهم إلى ذلك ما رأوه من تحريف المحرفين للقرآن بدعوى المجاز فقابلوا الضلال والفساد بحسم المواد وخيار الأمور التوسط والاقتصاد انتهى .