تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{وَجَآءَ رَبُّكَ وَٱلۡمَلَكُ صَفّٗا صَفّٗا} (22)

الآية 22 : وقوله تعالى : { وجاء ربك والملك صفا صفا } يحتمل أوجها :

أحدها : أن يكون معناه : وجاء ربك بالملك ، إذ يجوز أن تستعمل الواو مكان الباء ؛ ألا ترى إلى قوله تعالى : { قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا } ؟ [ المائدة : 24 ] ومعناه : بربك . وإذا حمل على هذا ارتفعت الشبهة ، واتضح الأمر ، لأنه لو كان قال : وجاء ربك بالملك لكان لا ينصرف وهم أحد إلى الانتقال من مكان إلى مكان ، وقال تعالى : { هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام } [ البقرة : 210 ] ومعناه ، والله أعلم ، بظلل من الغمام لأنه قال في موضع آخر : { ويوم تشقق السماء بالغمام } [ الفرقان : 25 ] فثبت أن معناه ما ذكرنا . وإذا ثبت هذا ارتفع الريب والإشكال .

[ والثاني ]{[23591]} : أم معنى قوله : { إلا أن يأتيهم الله } أي أمر الله ، دليله ما ذكر في سورة النحل : { هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي أمر ربك } [ النحل : 33 ] فذكر مكان قوله : { وجاء ربك } أمر ربك .

[ الثالث ]{[23592]} : أن يكون قوله : { وجاء ربك } أي جاء وعده ووعيده ، فنسب المجيء إلى الله تعالى ، وإن لم يكن ذلك وصفا لأنه لا يجوز أن تنسب آثار الأفعال إلى الله تعالى نسبة حقيقة الفعل ، وإن لم يوصف به كما قال الله تعالى : { فنفخنا فيه من روحنا } [ التحريم : 12 ] فأضيف النفخ إليه ، وإن لم يوصف بأنه نافخ ، وقال : { وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس } [ المائدة : 45 ] فأضيفت الكتابة إليه ، وإن لم يوصف بأنه كاتب لما ظهر من آثار فعله .

ويقال : المطر رحمة الله أي آثار رحمته ، لا أن تكون المطر صفة له .

[ والرابع : ما ]{[23593]} يقال : الصلاة أمر الله والزكاة أمر الله أي بأمر الله يصلى ، وبأمره يزكى ، لا أن يكونا وصفين ، ووجهه أن يكون معنى قوله تعالى : { وجاء ربك } أي جاء الوقت الذي به صار إنشاء هذا العالم حكمة ؛ إذ لولا البعث للجزاء لكان إنشاء هذا العالم ثم الإهلاك خارجا مخرج العبث لما وصفناه من قبل لقوله : { أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون } [ المؤمنون : 115 ] .

فثبت أن{[23594]} خلقه إنما صار حكمة بالبعث ؛ قال تعالى : { لمن الملك اليوم لله الواحد القهار } [ غافر : 16 ] وقد كان الملك له قبل ذلك اليوم ، ولكن ملكه لكل أحد يتبين في ذلك الوقت ، وقال : { وبرزوا لله جميعا } [ إبراهيم : 21 ] وقد كان كل شيء له بارزا . ولكن معناه أنه أتى الوقت الذي له برز الخلائق .

ثم الأصل في كل ما أضيف إلى الله تعالى أن تنظر إلى ما يليق أن يوصل بالمضاف إليه ، فتصله به ، وتجعله مضمرا فيه . قال الله تعالى : { ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم } [ المجادلة : 7 ] لم{[23595]} يفهم إثبات الحضور ، بل{[23596]} كان معناه أن علمه محيط بهم ، وهو مطلع عليهم ، وقال : { فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا } [ الحشر : 2 ] لم يفهم به الانتقال ، بل كان معناه : أنه جاءهم بأسه ، وجاء لأوليائه نصره ، وقال : { قد مكر الذين من قبلهم فأتى الله بنيانهم من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم } [ النحل : 26 ] لم{[23597]} يفهم بهذا الإتيان ما فهم من الإتيان الذي يضاف إلى الخلق ، وقال تعالى : { إن تنصروا الله ينصركم } [ محمد : 7 ] بل{[23598]} كان معناه : إن تنصروا دين الله ، لا أن الله تعالى يلحقه ضعف يحتاج إلى من يقويه ، وقال الله تعالى : { ويحذركم الله نفسه } [ آل عمران : 28 ] كان{[23599]} معناه : أنه يحذركم عذابه لا أن أريد به تحقيق النفس ، ومثل هذا القرآن كثير ، لا{[23600]} يحصى .

فثبت أن محل الإضافات ما ذكرنا . فلذلك حمل على الوعد والوعيد أو على الوقت الذي صار خلق العالم حكمة أو على ما صلح فيه من الإضمار .

ومما يدل على أنه لا يفهم بالمجيء واحد ، بل يقتضي أن مجيء إذا أضيف إلى الأعراض فهم به غير الذي يفهم به إذا أضيف إلى الأجسام ؛ فإنه إذا أضيف إلى الأعراض أريد به الظهور . قال الله تعالى : { إذا جاء نصر الله والفتح } [ النصر : 1 ] ومعناه : إذا ظهر نصره ، ولم يرد به الانتقال ، ولو كان مضافا إلى الجسم فهم منه الانتقال من موضع إلى موضع ، وقال الله تعالى : { وقل جاء الحق وزهق الباطل } [ الإسراء : 81 ] ومعناه : ظهر الحق ، واضمحل الباطل ، لا أن كان{[23601]} الحق في مكان ، فنقل عنه إلى غيره .

فثبت أن المجيء إذا أضيف إلى شيء ، وجب أن يوصل به ما يليق به لا أن يفهم به كله معنى واحد .

وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال حكاية عن الله تعالى : ( ( من تقرب إلي شبرا تقربت إليه باعا ، ومن أتاني ساعيا أتيته هرولة ) ) [ البخاري 7405 ومسلم 2675 ] لم يفهم من هذا التقريب ما يفهم به إذا أضيف إلى الخلق ، وكان معناه : من تقرب إلي بالطاعة والعبادة تقربت إليه بالتوفيق والنصر أو بالإحسان والإنعام .

وقال موسى ، على نبينا عليه السلام : ( ( يا رب أقريب فأناجيك أم{[23602]} بعيد فأناديك ) ) ؟ ولم يرد به المكان ، وإنما أراد بقوله : أراض أنت فأناجيك أم{[23603]} ساخط علي فأناديك في أن أعلن بالبكاء والتضرع ؟

ثم الأصل في المجيء المضاف إلى الله تعالى أن يتوقف فيه ، ولا يقطع الحكم على شيء لما ذكرنا أن المجيء ليس يراد به [ وجه واحد ]{[23604]} لأنه إذا أضيف إلى الأعراض أريد به غير الذي يراد به إذا أضيف إلى الأجسام والأشخاص ، والله تعالى{[23605]} لا يوصف بالجسمية حتى يفهم من مجيئه ما يفهم من مجيء الأجسام ، ولا يوصف بالعرض ليراد به ما يراد من مجيء الأعراض ؛ فحقه الوقف في تفسيره مع اعتقاد ما ثبت بالتنزيل من غير نسبة ، والله أعلم .


[23591]:في الأصل وم: ومنهم من ذكر.
[23592]:في الأصل وم: ويحتمل.
[23593]:في الأصل وم: و.
[23594]:في الأصل وم: أنه.
[23595]:في الأصل وم: ولم.
[23596]:في الأصل وم: و.
[23597]:ي الأصل وم: ولم.
[23598]:في الأصل وم: و.
[23599]:ي الأصل وم: وكان.
[23600]:في الأصل وم: من ان.
[23601]:في الأصل وم: يكون.
[23602]:في الأصل وم: أو.
[23603]:في الأصل وم: أو.
[23604]:في الأصل وم: وجها واحدا.
[23605]:في الأصل وم: أعلم، في م: أعلم، والله تعالى.