وقوله - سبحانه - : { وَأَنَّهُمْ ظَنُّواْ كَمَا ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَبْعَثَ الله أَحَداً } بيان لما استنكره هؤلاء النفر المؤمنون من الجن على قومهم الكافرين . وعلى من يشبهونهم فى الكفر من الإِنس .
أى : وأنهم - أى الإِنس - ظنوا واعتقدوا { كَمَا ظَنَنتُمْ } واعتقدتم أيها الجن ، أن الله - تعالى - لن يبعث أحدا بعد الموت ، وهذا الظن منهم ومنكم ظن خاطئ فاسد ، فإن البعث حق ، وإن الحساب حق ، وإن الجزاء حق .
وفى هذا القول من مؤمنى الجن ، تعريض بمشركى قريش ، الذين أنكروا البعث ، وقالوا : { مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَآ إِلاَّ الدهر . . }
( وأنهم ظنوا كما ظننتم أن لن يبعث الله أحدا ) . .
يتحدثون إلى قومهم ، عن أولئك الرجال من الإنس الذين كانوا يعوذون برجال من الجن ، يقولون : إنهم كانوا يظنون - كما أنكم تظنون - أن الله لن يبعث رسولا . ولكن ها هو ذا قد بعث رسولا ، بهذا القرآن الذي يهدي إلى الرشد . . أو أنهم ظنوا أنه لن يكون هناك بعث ولا حساب - كما ظننتم - فلم يعملوا للآخرة شيئا ، وكذبوا ما وعدهم الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] من أمرها ، لأنهم كانوا لا يعتقدون من قبل فيها .
وكلا الظنين لا ينطبق على الحقيقة ، وفيه جهل وقلة إدراك لحكمة الله في خلق البشر . فقد خلقهم باستعداد مزدوج للخير والشر والهدى والضلال [ كما نعرف من هذه السورة أن للجن هذه الطبيعة المزدوجة كذلك إلا من تمحض منهم للشر كإبليس ، وطرد من رحمة الله بمعصيته الفاجرة ، وانتهى إلى الشر الخالص بلا ازدواج ] ومن ثم اقتضت رحمة الله أن يعين أولئك البشر بالرسل ، يستجيشون في نفوسهم عنصر الخير ، ويستنقذون ما في فطرتهم من استعداد للهدى . فلا مجال للاعتقاد بأنه لن يبعث إليهم أحدا .
هذا إذا كان المعنى هو بعث الرسل . فأما بعث الآخرة فهو ضرورة كذلك لهذه النشأة التي لا تستكمل حسابها في الحياة الدنيا ، لحكمة أرادها الله ، وتتعلق بتنسيق للوجود يعلمه ولا نعلمه ؛ فجعل البعث في الآخرة لتستوفي الخلائق حسابها ، وتنتهي إلى ما تؤهلها له سيرتها الأولى في الحياة الدنيا . فلا مجال للظن بأنه لن يبعث أحدا من الناس . فهذا الظن مخالف للاعتقاد في حكمة الله وكماله سبحانه وتعالى . .
وهؤلاء النفر من الجن يصححون لقومهم ظنهم ، والقرآن في حكايته عنهم يصحح للمشركين أوهامهم .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَأَنّهُمْ ظَنّواْ كَمَا ظَنَنتُمْ أَن لّن يَبْعَثَ اللّهُ أَحَداً * وَأَنّا لَمَسْنَا السّمَآءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً } .
يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل هؤلاء النفر من الجنّ وأنّهُمْ ظَنّوا كما ظَنَنْتُمْ أنْ لَنْ يَبْعَثَ اللّهُ أحَدا يعني أن الرجال من الجنّ ظنوا كما ظنّ الرجال من الإنس أن لن يبعث الله أحدا رسولاً إلى خلقه ، يدعوهم إلى توحيده . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن الكلبيّ وأنّهُمْ ظَنّوا كمَا ظَنَنْتُمْ : ظنّ كفار الجنّ كما ظنّ كفرة الإنس أن لن يبعث الله رسولاً .
وقوله { وأنهم ظنوا كما ظننتم } يريد به بني آدم الكفار . وقوله { كما ظننتم } ، مخاطبة لقومهم من الجن . وقولهم { أن لن يبعث الله أحداً } ، يحتمل معنيين أحدهما : بعث الحشر من القبور والآخر بعث آدمي رسولاً . و { أن } في قوله { أن لن } مخففة من «أن » الثقيلة وهي تسد مسد المفعولين . وذكر المهدوي تأويلاً أن المعنى وأن الجن ظنوا كما ظننتم أيها الإنس فهي مخاطبة من الله تعالى .
قرأ الجمهور ووافقهم أبو جعفر بكسر همزة { وإنهم } . وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وحفص وخلف بفتح الهمزة على اعتبار ما تقدم في قوله تعالى : { وإنه تعالى جدّ ربنا } [ الجن : 3 ] .
والمعنى : أن رجالاً من الإِنس ظنّوا أن الله لا يبعث أحداً ، أو وأنا آمنا بأنهم ظنّوا كما ظننتم الخ ، أي آمنا بأنهم أخطأوا في ظنهم .
والتأكيد ب ( إن ) المكسورة أو المفتوحة للاهتمام بالخبر لغايته . والبعث يحتمل بعث الرسل ويحتمل بعث الأموات للحشر ، أي حصل لهم مثلما حصل لكم من إنكار الحشر ومن إنكار إرسال الرسل .
والإِخبار عن هذا فيه تعريض بالمشركين بأن فساد اعتقادهم تجاوز عالم الإِنس إلى عالم الجن .
وجملة { كما ظننتم } معترضة بين { ظنوا } ومعموله ، فيجوز أن تكون من القول المحكي يقول الجن بعضهم لبعض يُشبّهون كفارهم بكفار الإِنس .
ويجوز أن تكون من كلام الله تعالى المخاطب به المشركون الذي أمر رسوله بأن يقوله لهم ، وهذا الوجه يتعين إذا جعلنا القول في قوله تعالى : { فقالوا إنا سمعنا } [ الجن : 1 ] عبارة عما جال في نفوسهم على أحد الوجهين السابقين هنالك .
و { أنْ } من قوله : { أن لن يبعث } مخففة من الثقيلة واسمها ضمير شأن محذوف .
وجملة { لن يبعث الله أحداً } خبره . والتعبير بحرف تأبيد النفي للدلالة على أنهم كانوا غير مترددين في إحالة وقوع البعث .