ثم أقسم - سبحانه - ببعض مخلوقاته ، على أن مشيئته نافذة ، وقضاءه لا يرد ، وحكمه لا يتخلف . فقال : { فَلاَ أُقْسِمُ بالشفق . والليل وَمَا وَسَقَ . والقمر إِذَا اتسق . لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَن طَبقٍ } .
والفاء فى قوله { فَلاَ أُقْسِمُ } واقعة فى جواب شرط مقدر ، وهى التى يعبر عنها بالفصيحة ، و " لا " مزيدة لتأكيد القسم ، وجوابه " لتركبن " .
والشفق : الحمرة التى تظهر فى الأفق الغربى بعد غروب الشمس ، وهو ضياء من شعاعها ، وسمى شفقا لرقته ، ومنه الشفقة لرقة القلب .
والوسق : جمع الأشياء ، وضم بعضها إلى بعض . يقال : وسَق الشئَ يسِقُه - كضرب - إذا جمعه فاجتمع ، ومنه قولهم : إبل مستوسقة ، أى : مجتمعة ، وأمر متسق . أى : مجتمع على ما يسر صاحبه ويرضيه .
واتساق القمر : اجتماع ضيائه ونوره ، وهو افتعال من الوسق . وهو الجمع والضم ، وذلك يكون فى الليلة الرابعة عشرة من الشهر .
أى : أقسم بالحمرة التى تظهر فى الأفق العربى ، بعد غروب الشمس ، وبالليل وما يضمه تحت جناحه من مخلوقات وعجائب لا يعلمها إلا الله - تعالى - وبالقمر إذا ما اجتمع نوره ، وأكتمل ضاؤه ، وصار بدرا متلألئاً .
وفى القسم بهذه الأشياء ، دليل واضح على قدرة الله - تعالى - الباهرة ، لأن هذه الأشياء تتغير من حال إلى حال ، ومن هيئة إلى هيئة . . فالشفق حالة تأتى فى أعقاب غروب الشمس ، والليل يأتى بعد النهار ، والقمر يكتمل بعد نقصان . . وكل هذه الحالات الطارئة ، دلائل على قدرة الله - تعالى - .
( والليل وما وسق ) . . هو الليل وما جمع وما حمل . . بهذا التعميم ، وبهذا التجهيل ، وبهذا التهويل . والليل يجمع ويضم ويحمل الكثير . . ويذهب التأمل بعيدا ، وهو يتقصى ما يجمعه الليل ويضمه ويحمله من أشياء وأحياء وأحداث ومشاعر ، وعوالم خافية ومضمرة ، ساربة في الأرض وغائرة في الضمير . . ثم يؤوب من هذه الرحلة المديدة ، ولم يبلغ من الصور ما يحتويه النص القرآني القصير : ( والليل وما وسق ) . . إنما يغمره من النص العميق العجيب ، رهبة ووجل ، وخشوع وسكون تتسق مع الشفق وما يضفيه من خشوع وخوف وسكون !
أي : جمع . كأنه أقسم بالضياء والظلام .
وقال ابن جرير : أقسم الله بالنهار مدبرًا ، وبالليل مقبلا . وقال ابن جرير : وقال آخرون : الشفق اسم للحمرة والبياض . وقالوا : هو من الأضداد{[29891]} .
قال ابن عباس ، ومجاهد ، والحسن ، وقتادة : { وَمَا وَسَقَ } وما جمع . قال قتادة : وما جمع من نجم ودابة . واستشهد ابن عباس بقول الشاعر :{[29892]}
مُستَوسقات لو تَجِدْنَ سَائقا . . .
قد قال عكرمة : { وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ } يقول : ما ساق من ظلمة ، إذا كان الليل ذهب كل شيء إلى مأواه .
وقوله : وَاللّيْلِ وَما وَسَقَ يقول : والليل وما جمع ، مما سكن وهدأ فيه من ذي روح كان يطير ، أو يَدِب نهارا ، يقال منه : وسَقْتُه أسِقُه وَسْقا ، ومنه : طعام موسُوق ، وهو المجموع في غرائر أو وعاء ، ومنه الوَسْق ، وهو الطعام المجتع الكثير ، مما يُكال أو يُوزن ، يقال : هو ستون صاعا ، وبه جاء الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : وَما وَسَقَ يقول : وما جَمَعَ .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبي بشر ، عن مجاهد ، عن ابن عباس في هذه الاَية وَاللّيْلِ وَما وَسَقَ قال : وما جَمَع . وقال ابن عباس :
*** مُسْتَوْسِقاتٍ لَوْ يَجِدْنَ سائِقَا ***
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، عن أبي رجاء ، قال : سأل حفص الحسن عن قوله : وَاللّيْلِ وَما وَسَقَ قال : وما جمع .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحرث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد وَاللّيْلِ وَما وَسَقَ قال : وما جمع ، يقول : ما آوى فيه من دابّة .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد وَاللّيْلِ وَما وَسَقَ : وما لفّ .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد وَاللّيْلِ وَما وَسَقَ قال : وما أظلم عليه ، وما أدخل فيه . وقال ابن عباس :
*** مُسْتَوْسِقاتٍ لَوْ يَجِدْنَ حادِيا ***
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَاللّيْلِ وَما وَسَقَ يقول : وما جمع من نجم أو دابة .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة وَما وَسق قال : وما جمع .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَاللّيْلِ وَما وَسَقَ قال : وما جمع ، مجتمع فيه الأشياء التي يجمعها الله ، التي تأوي إليه ، وأشياء تكون في الليل لا تكون في النهار ، ما جمع مما فيه ما يأوي إليه ، فهو مما جمع .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، قال : حدثنا عمرو ، عن منصور ، عن مجاهد وَاللّيْلِ وَما وَسَقَ يقول : ما لُفّ عليه .
قال : ثنا جرير ، عن منصور ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد وَاللّيْلِ وَما وَسَقَ قال : وما دخل فيه .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن إسرائيل ، عن أبي الهيثم ، عن سعيد بن جبير وَاللّيْلِ وَما وَسَقَ : وما جمع .
قال : ثنا وكيع ، عن نافع بن عمر ، عن ابن أبي مليكة ، عن ابن عباس وَما وَسَقَ : وما جمع ، ألم تسمع قول الشاعر :
*** مُسْتَوْسِقاتِ لَمْ يَجِدْنَ سائِقا ***
حدثنا هناد ، قال : حدثنا أبو الأحوص ، عن سماك ، عن عكرِمة ، في قوله : وَاللّيْلِ وَما وَسَقَ قال : ما حاز إذا جاء الليل .
وقال آخرون : معنى ذلك : وما ساق . ذكر من قال ذلك :
حدثنا عبد الله بن أحمد المَرْوَزيّ ، قال : حدثنا عليّ بن الحسن ، قال : حدثنا حسين ، قال : سمعت عكرمة وسئل وَاللّيْلِ وَما وَسَقَ قال : ما ساق من ظلمة ، فإذَا كان الليل ، ذهب كلّ شيء إلى مأواه .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا الحسن ، عن عكرِمة وَاللّيْلِ وَما وَسَقَ يقول : ما ساق من ظلمة ، إذا جاء الليل ساق كلّ شيء إلى مأواه .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول ، في قوله : وَاللّيْلِ وَما وَسَقَ قال : ما ساق معه من ظلمة إذا أقبل .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله وَاللّيْلِ وَما وَسَقَ يعني : وما ساق الليل من شيء جمعه النجوم ، ويقال : والليل وما جمع .