38 - 40 قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأوَّلِينَ * وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ
هذا من لطفه تعالى بعباده لا يمنعه كفر العباد ولا استمرارهم في العناد ، من أن يدعوهم إلى طريق الرشاد والهدى ، وينهاهم عما يهلكهم من أسباب الغي والردى ، فقال : قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا عن كفرهم وذلك بالإسلام للّه وحده لا شريك له .
يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ منهم من الجرائم وَإِنْ يَعُودُوا إلى كفرهم وعنادهم فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأوَّلِينَ بإهلاك الأمم المكذبة ، فلينتظروا ما حل بالمعاندين ، فسوف يأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون ، فهذا خطابه للمكذبين ،
وبعد كل هذا التهديد والوعيد للكافرين . . يوجه - سبحانه - خطابه إلى نبيه - صلى الله عليه وسلم - يأمره فيه أن يبلغهم حكم الله إذا ما انتهوا عن كفرهم ، كما يأمر المؤمنين أن يقاتلوهم حتى تكون كلمة الله هى العليا ، فيقول - سبحانه - : { قُل لِلَّذِينَ كفروا إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُواْ فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ وَقَاتِلُوهُمْ حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لله فَإِنِ انْتَهَوْاْ فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ وَإِن تَوَلَّوْاْ فاعلموا أَنَّ الله مَوْلاَكُمْ نِعْمَ المولى وَنِعْمَ النصير } .
أى : { قُل } يا محمد لهؤلاء الذين كفروا بالحق بما جاءهم ، من أهل مكة وغيرهم ، قل لهم : { إِن يَنتَهُواْ } عن كفرهم وعداوتهم للمؤمنين { يُغَفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ } من كفرهم ومعاصيهم { وَإِنْ يَعُودُواْ } إلى قتالك ويستمروا في ضلالهم وكفرهم وطغيانهم ، انتقمنا منهم ، ونصرنا المؤمنين عليهم { فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ } على ذلك .
أى : فقد مضت سنة الله - تعالى - في الأولين ، وسنته لا تتخلف في أنه - سبحانه - يعذب المكذبين بعد إنذارهم وتبليغهم دعوته ، وينصر عباده المؤمنين وينجيهم ويمكن لهم في الأرض . وقد رأى هؤلاء المشركون كيف كانت عاقبة أمرهم في بدر ، وكيف أهلك - سبحانه - الكافرين من الأمم قبلهم .
وجواب الشرط لقوله { وَإِنْ يَعُودُواْ } محذوف والتقدير : وإن يعودوا ننتقم منهم .
وقوله { فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ } تعليل للجواب المحذوف .
قال الآلوسى : قوله { فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ } أي عادة الله الجارية في الذين تحزبوا على الأنبياء ، من نصر المؤمنين عليهم وخذلانهم وتدميرهم . وأضيفت السنة إليهم لما بينهما من الملابسة الظاهرة . ونظير ذلك قوله - سبحانه - { سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا } فأضاف السنة إلى المرسلين مع أنها سنته لقوله - سبحانه - { وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً } باعتبار جريانها على أيديهم . ويدخل في الأولين الذين حاق بهم مكرهم يوم بدر .
والآية حث على الإِيمان وترغيب فيه . . واستدل بها على أن الإِسلام يجب ما قبله ، وأن الكافر إذا أسلم لا يخاطب بقضاء ما فاته من صلاة أو زكاة أو وصوم أو إتلاف مال أو نفس . وأجرى المالكية ذلك كله في المرتد إذا تاب لعلموم الآية . .
والمعنى : عليكم - أيها المؤمنون - إذا ما استمر أولئك الكافرون في كفرهم وعدوانهم ، أن تقاتلوهم بشدة وغلظة ، وأن تستمروا في قتالهم حتى تزول صولة الشرك ، وحتى تعيشوا أحرارا في مبشارة تعاليم دينكم ، دون أن يجرؤ أحد على محاولة فتنتكم في عقيدتكم أو عبادتكم . . حتى تصير كلمة الذين كفروا هى السفلى .
قال الجمل : وقوله : { وَقَاتِلُوهُمْ } معطوف على قوله { قُل لِلَّذِينَ كفروا } . ولكن لما كان الغرض من الأول التلطف بهم وهو وظيفة النبى وحده جاء بالإفراد . ولما كان الغرض من الثانى تحريض المؤمنين على القتال جاء بالجمع فخوطبوا جميعا .
وقوله { فَإِنِ انْتَهَوْاْ فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } أى : فإن انتهوا عن كفرهم وعن معاداتكم ، فكفوا أيديكم عنهم ، فإن الله - تعالى - لا يخفى عليه شئ من أعمالهم ، وسيجازيهم عليها بما يستحقون من ثواب أو عقاب .
وعندما يصل السياق إلى هذا التقرير الحاسم ، عن مصير الكفر المتعاون ، ونهاية الخبث المتراكم ، يتجه بالخطاب إلى رسول الله [ ص ] لينذر الكافرين إنذاره الأخير ، ويتجه بالخطاب كذلك إلى الجبهة المسلمة يأمرها بالقتال حتى لا تكون في الأرض فتنة ، وحتى يكون الدين كله لله ، ويطمئن العصبة المسلمة المجاهدة إلى أن الله مولاها ونصيرها ، فلا غالب لها من الناس بحرب ولا بكيد ، والله وليها الناصر المعين :
( قل للذين كفروا : إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف ، وإن يعودوا فقد مضت سنة الأولين . وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله ، فإن انتهوا فإن الله بما يعملون بصير . وإن تولوا فاعلموا أن الله مولاكم ، نعم المولى ونعم النصير ) . .
قل للذين كفروا - في ضوء ما سبق من قرار الخالق الجبار عن خيبتهم في جمعهم ، وحسرتهم على ما أنفقوا ، وصيرورتهم بعد الخزي والحسرة في الدنيا إلى أن يراكم الخبيث منهم على الخبيث فيجعل الخبيث كله في جهنم .
( قل للذين كفروا : إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف ، وإن يعودوا فقد مضت سنة الأولين )
فالفرصة أمامهم سانحة لينتهوا عما هم فيه من الكفر ، ومن التجمع لحرب الإسلام وأهله ، ومن إنفاق الأموال للصد عن سبيل الله . . والطريق أمامهم مفتوح ليتوبوا عن هذا كله ويرجعوا إلى الله ، ولهم عندئذ أن يغفر لهم ما قد سلف . فالإسلام يجب ما قبله ، ويدخله الإنسان بريئاً من كل ما كان قبله كما ولدته أمه . . فأما إن هم عادوا - بعد هذا البيان - إلى ما هم فيه من الكفر والعدوان فإن سنة الله في الأولين لا تتخلف . ولقد مضت سنة الله أن يعذب المكذبين بعد التبليغ والتبيين ؛ وأن يرزق أولياءه النصر والعز والتمكين . . وهذه السنة ماضية لا تتخلف . . وللذين كفروا أن يختاروا وهم على مفرق الطريق !
بذلك ينتهي الحديث مع الذين كفروا ويتجه السياق إلى الذين آمنوا :
يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم : { قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا } أي : عما هم فيه من الكفر والمشاقة والعناد ويدخلوا في الإسلام والطاعة والإنابة ، يغفر لهم ما قد سَلَف ، أي : من كفرهم ، وذنوبهم وخطاياهم ، كما جاء في الصحيح ، من حديث أبي وائل عن ابن مسعود ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من أحْسَن في الإسلام ، لم يُؤاخَذ بما عمل في الجاهلية ، ومن أساء في الإسلام ، أخذ بالأول والآخر " {[12933]}
وفي الصحيح أيضًا : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " الإسلام يَجُبُّ ما قبله{[12934]} والتوبة تجب ما كان قبلها " .
وقوله : { وَإِنْ يَعُودُوا } أي : يستمروا على ما هم فيه ، { فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأوَّلِينَ } أي : فقد مضت سنتنا في الأولين أنهم إذا كذبوا واستمروا على عنادهم ، أنا نعاجلهم بالعذاب والعقوبة .
وقوله : { فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأوَّلِينَ } أي : في قريش يوم بدر وغيرها من الأمم . وقال السدي ومحمد بن إسحاق : أي : يوم بدر .
القول في تأويل قوله تعالى : { قُل لِلّذِينَ كَفَرُوَاْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُمْ مّا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُواْ فَقَدْ مَضَتْ سُنّةُ الأوّلِينِ } . .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل يا محمد للذين كفروا من مشركي قومك : إن ينتهوا عما هم عليه مقيمون من كفرهم بالله ورسوله وقتالك وقتال المؤمنين فينيبوا إلى الإيمان ، يغفر الله لهم ما قد خلا ومضى من ذنوبهم قبل إيمانهم وإنابتهم إلى طاعة الله وطاعة رسوله بإيمانهم وتوبتهم . وإنْ يَعُودُوا يقول : وإن يعد هؤلاء المشركون لقتالك بعد الوقعة التي أوقعتها بهم يوم بدر ، فقد مضت سنتي في الأوّلين منهم ببدر ومن غيرهم من القرون الخالية إذ طغوا وكذّبوا رسلي ولم يقبلوا نصحهم من إحلال عاجل النقم بهم ، فأحلّ بهؤلاء إن عادوا لحربك وقتالك مثل الذين أحللت بهم .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : فَقَدْ مَضَتْ سُنّةُ الأوّلِينَ في قريش يوم بدر وغيرها من الأمم قبل ذلك .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن نمير ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : فَقَدْ مَضَتْ سَنّةُ الأوّلِينَ قال : في قريش وغيرها من الأمم قبل ذلك .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال في قوله : قُلْ للّذِينَ كَفَرُوا إنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ وَإنْ يَعُودُوا لحربك ، فَقَدْ مَضَتْ سُنّةُ الأوّلِينَ : أي من قُتل منهم يوم بدر .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : وإن يعودوا لقتالك ، فقد مضت سنة الأوّلين من أهل بدر .
{ قل للذين كفروا } يعني أبا سفيان وأصحابه والمعنى قل لأجلهم . { إن ينتهوا } عن معاداة الرسول صلى الله عليه وسلم بالدخول في الإسلام . { يغفر لهم ما قد سلف } من ذنوبهم ، وقرئ بالتاء والكاف على أنه خاطبهم و{ يغفر } على البناء للفاعل وهو الله تعالى . { وإن يعودوا } إلى قتاله . { فقد مضت سنّة الأولين } الذين تحزبوا على الأنبياء بالتدمير كما جرى على أهل بدر فليتوقعوا مثل ذلك .