وذكر الله مراجعته إياه ، فقال : { إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ ْ } مهجنا له عبادة الأوثان : { يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا ْ } أي : لم تعبد أصناما ، ناقصة في ذاتها ، وفي أفعالها ، فلا تسمع ، ولا تبصر ، ولا تملك لعابدها نفعا ولا ضرا ، بل لا تملك لأنفسها شيئا من النفع ، ولا تقدر على شيء من الدفع ، فهذا برهان جلي دال على أن عبادة الناقص في ذاته وأفعاله مستقبح عقلا وشرعا . ودل بتنبيهه وإشارته ، أن الذي يجب ويحسن عبادة من له الكمال ، الذي لا ينال العباد نعمة إلا منه ، ولا يدفع عنهم نقمة إلا هو ، وهو الله تعالى .
ثم بين - سبحانه - مظاهر صدقه وإخلاصه لدعوة الحق فقال : { إِذْ قَالَ لاًّبِيهِ ياأبت لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يُبْصِرُ وَلاَ يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً } .
والظرف { إِذْ } بدل اشتمال من { إِبْرَاهِيمَ } وجملة { إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيّاً } معترضة بين البدل والمبدل منه لتعظيم شأنه - عليه السلام - .
والتاء فى قوله { ياأبت } عوض عن ياء المتكلم ، إذ الأصل يا أبى ، وناداه بهذا الوصف دون أن يذكر اسمه : زيادة فى احترامه واستمالة قلبه للحق .
أى : واذكر خبر إبراهيم وقت أن قال لأبيه آزر مستعطفاً إياه : يا أبت لماذا تعبد شيئاً لا يسمع من يناديه . ولا يبصر من يقف أمامه ، ولا يغنى عنك شيئاً من الإغناء ، لأنه لا يملك لنفسه - فضلاً عن غيره - نفعاً ولا ضراً .
إذ قال لأبيه : يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا ? يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطا سويا . يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصيا . يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان وليا . . ) .
بهذا اللطف في الخطاب يتوجه إبراهيم إلى أبيه ، يحاول أن يهديه إلى الخير الذي هداه الله إليه ، وعلمه إياه ؛ وهو يتحبب إليه فيخاطبه : ( يا أبت )ويسأله : ( لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا ? )والأصل في العبادة أن يتوجه بها الإنسان إلى من هو أعلى من الإنسان وأعلم وأقوى . وأن يرفعها إلى مقام أسمى من مقام الإنسان وأسنى . فكيف يتوجه بها إذن إلى ما هو دون الإنسان ، بل إلى ما هو في مرتبة أدنى من مرتبة الحيوان ، لا يسمع ولا يبصر ولا يملك ضرا ولا نفعا . إذ كان أبوه وقومه يعبدون الأصنام كما هو حال قريش الذين يواجههم الإسلام .
وقوله : إذْ قالَ لأبِيهِ يقول : اذكره حين قال لأبيه يا أبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ يقول : ما تصنع بعبادة الوَثَن الذي لا يسمع وَلا يُبْصرُ شيئا وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئا يقول : ولا يدفع عنك ضرّ شيء ، إنما هو صورة مصوّرة لا تضرّ ولا تنفع . يقول ما تصنع بعبادة ما هذه صفته ؟ اعبد الذي إذا دعوته سمع دعاءك ، وإذا أحيط بك أبصرك فنصرك ، وإذا نزل بك ضرّ دفع عنك .
واختلف أهل العربية في وجه دخول الهاء في قوله يا أبَتِ فكان بعض نحوّيي أهل البصرة يقول : إذا وقفت عليها قلت : يا أبه ، وهي هاء زيدت نحو قولك : يا أمه ، ثم يقال : يا أم إذا وصل ، ولكنه لما كان الأب على حرفين ، كان كأنه قد أُخلّ به ، فصارت الهاء لازمة ، وصارت الياء كأنها بعدها ، فلذلك قالوا : يا أبة أقبل ، وجعل التاء للتأنيث ، ويجوز الترخيم من يا أب أقبل ، لأنه يجوز أن تدعو ما تضيفه إلى نفسك في المعنى مضموما ، نحو قول العرب : يا ربّ اغفر لي ، وتقف في القرآن : يا أبه في الكتاب . وقد يقف بعض العرب على الهاء بالتاء . وقال بعض نحوّيي الكوفة : الهاء مع أبة وأمة هاء وقف ، كثرت في كلامهم حتى صارت كهاء التأنيث ، وأدخلوا عليها الإضافة ، فمن طلب الإضافة ، فهي بالتاء لا غير ، لأنك تطلب بعدها الياء ، ولا تكون الهاء حينئذٍ إلا تاء ، كقولك : يا أبت لا غير ، ومن قال : يا أبه ، فهو الذي يقف بالهاء ، لأنه لا يطلب بعدها ياء ومن قال : يا أبتا ، فإنه يقف عليها بالتاء ، ويجوز بالهاء فأما بالتاء ، فلطلب ألف الندبة ، فصارت الهاء تاء لذلك ، والوقف بالهاء بعيد ، إلا فيمن قال : «يا أميمةَ ناصِبِ » فجعل هذه الفتحة من فتحة الترخيم ، وكأن هذا طرف الاسم ، قال : وهذا يعيد .
قوله : إذ قال لأبيه الخ بدل اشتمال من ( إبراهيم ) . و ( إذ ) اسم زمان مجرد عن الظرفية لأن ( إذ ) ظرف متصرف على التحقيق . والمعنى : اذكر إبراهيم زمان قوله لأبيه فإن ذلك الوقت أجدر أوقات إبراهيم بأن يذكر .
وأبو إبراهيم هو ( آزار ) تقدم ذكره في سورة الأنعام .
وافتتح إبراهيم خطابه أباه بندائه مع أن الحضرة مغنية عن النداء قصداً لإحضار سمعه وذهنه لتلقي ما سيلقيه إليه .
قال الجد الوزير رحمه الله فيما أملاه عليّ ذات ليلة من عام 1318 هـ فقال :
« علم إبراهيم أن في طبع أهل الجهالة تحقيرهم للصغير كيفما بلغ حاله في الحذق وبخاصة الآباء مع أبنائهم ، فتوجه إلى أبيه بخطابه بوصف الأبوة إيماء إلى أنه مخلص له النصيحة ، وألقى إليه حجّة فساد عبادته في صورة الاستفهام عن سبب عبادته وعمله المخطىء ، منبّهاً على خطئه عندما يتأمل في عمله ، فإنه إن سمع ذلك وحاول بيان سبب عبادة أصنامه لم يجد لنفسه مقالاً ففطِن بخطل رأيه وسفاهة حلمه ، فإنه لو عبد حيّاً مميزاً لكانت له شبهة ما . وابتدأ بالحجة الراجعة إلى الحِسّ إذ قال له : لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر فذلك حجة محسوسة ، ثم أتبعها بقوله : ولا يغني عنك شيئاً ، ثم انتقل إلى دفع ما يخالج عقل أبيه من النفور عن تلقي الإرشاد من ابنه بقوله : { يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطاً سوياً } [ مريم : 43 ] ، فلما قضى حق ذلك انتقل إلى تنبيهه على أن ما هو فيه أثر من وساوس الشيطان ، ثم ألقى إليه حجة لائقة بالمتصلبين في الضلال بقوله : { يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمان فتكون للشيطان وليا } [ مريم : 45 ] ، أي إن الله أبلغ إليك الوعيد على لساني ، فإن كنتَ لا تجزم بذلك فافرض وقوعه فإنّ أصنامك لم تتوعدك على أن تفارق عبادتها . وهذا كما في الشعر المنسوب إلى علي رضي الله عنه :
زعم المنجّم والطّبيب كلاهما *** لا تحشر الأجسام قلت : إليكما
إن صحّ قولكما فلست بخاسر*** أو صح قولي فالخسار عليكما
قال : وفي النداء بقوله : { يا أبت } أربع مرات تكريرٌ اقتضاه مقام استنزاله إلى قبول الموعظة لأنها مقام إطناب . ونَظَّرَ ذلك بتكرير لقمان قوله : { يا بني } [ لقمان : 13 16 ] ثلاث مرات ، قال : بخلاف قول نوح لابنه : { يا بني اركب معنا } [ هود : 42 ] مرة واحدة دون تكرير لأنّ ضيق المقام يقتضي الإيجاز وهذا من طرق الإعجاز » . انتهى كلامه بما يقارب لفظه .
وأقول : الوجه ما بني عليه من أن الاستفهام مستعمل في حقيقته ، كما أشار إليه صاحب « الكشاف » ، ومكنى به عن نفي العلّة المسؤول عنها بقوله : { لم تعبد ، فهو كناية عن التعجيز عن إبداء المسؤول عنه ، فهو من التورية في معنيين يحتملهما الاستفهام .
وأبت : أصله أبي ، حذفوا ياء المتكلم وعوضوا عنها تاء تعويضاً على غير قياس ، وهو خاص بلفظ الأب والأم في النداء خاصة ، ولعله صيغة باقية من العربية القديمة . ورأى سيبويه أن التاء تصير في الوقف هاء ، وخالفه الفراء فقال : ببقائها في الوقف . والتاء مكسورة في الغالب لأنها عوض عن الياء والياء بنت الكسرة ولما كسروها فتحوا الياء وبذلك قرأ الجمهور . وقرأ ابن عامر ، وأبو جعفر : ( يأبتَ ) بفتح التاء دون ألف بعدها ، بنَاء على أنهم يقولون ( يا أبتَا ) بألف بعد التاء لأن ياء المتكلم إذا نودي يجوز فتحها وإشباع فتحتها فقرأه على اعتبار حذف الألف تخفيفاً وبقاء الفتحة .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"إذْ قالَ لأبِيهِ" يقول: اذكره حين قال لأبيه "يا أبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ "يقول: ما تصنع بعبادة الوَثَن الذي لا يسمع "وَلا يُبْصرُ" شيئا "وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئا" يقول: ولا يدفع عنك ضرّ شيء، إنما هو صورة مصوّرة لا تضرّ ولا تنفع. يقول ما تصنع بعبادة ما هذه صفته؟ اعبد الذي إذا دعوته سمع دعاءك، وإذا أحيط بك أبصرك فنصرك، وإذا نزل بك ضرّ دفع عنك.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{إذ قال لأبيه يا أبت لم تعبد مالا يسمع} إذا دعوتَه {ولا يبصر} لو عبدتَه {ولا يغني عنك شيئا} إذا احتجت إليه. ويحتمل أن يكون قوله: {ما لا يسمع} أي لا يُجيب لو دعوته، واحتجت إليه {ولا يبصر} حاجتك إذا احتجت إليه {ولا يغني عنك شيئا} أي لا ينصرك. وقال بعضهم: {ولا يغني عنك شيئا} من عذاب الله في الآخرة. كأنه يقول: كيف لا تعبد من إذا دعوته سمع، وإذا دعوته أبصرك، ونصرك إذا احتجت إليه وسألته. والله الموفق.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
دلَّت الآيةُ على استحقاقِ المعبودِ الوصفَ بالسمع والبصرِ على الكمال دون نُقْصانٍ فيه، وكذلك القول في القدرة على الضَّرِّ والنفع. وإذا رجع العبدُ إلى التحقيق عَلِمَ أن كلَّ الخَلْق لا تَصْلُحُ قدرةُ واحدٍ منهم للإبداع والإحداث، فمن عَلَّق قلبه بمخلوق، أو تَوَهَّمَ شظية منه من النفي والإثبات فَقَدْ ضَاهَى عَبَدةَ الأصنام.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
انظر حين أراد أن ينصح أباه ويعظه فيما كان متورّطاً فيه من الخطأ العظيم والارتكاب الشنيع الذي عصا فيه أمر العقل وانسلخ عن قضية التمييز، ومن الغباوة التي ليس بعدها غباوة: كيف رتب الكلام معه في أحسن اتساق، وساقه أرشق مساق، مع استعمال المجاملة واللطف والرفق واللين والأدب الجميل والخلق الحسن، منتصحاً في ذلك بنصيحة ربه عز وعلا... وذلك أنه طلب منه أولا العلة في خطئه طلب منبه على تماديه، موقظ لإفراطه وتناهيه، لأن المعبود لو كان حياً مميزاً، سميعاً بصيراً، مقتدراً على الثواب والعقاب، نافعاً ضاراً، إلا أنه بعض الخلق، لاستخفّ عقل من أهله للعبادة ووصفه بالربوبية، ولسجل عليه بالغيّ المبين والظلم العظيم وإن كان أشرف الخلق وأعلاهم منزلة كالملائكة والنبيين قال الله تعالى: {وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الملائكة والنبيين أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُم بالكفر بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُون} [آل عمران: 80] وذلك أن العبادة هي غاية التعظيم، فلا تحق، إلا لمن له غاية الإنعام: وهو الخالق الرازق، المحيي المميت، المثيب المعاقب، الذي منه أصول النعم وفروعها. فإذا وجهت إلى غيره -وتعالى علواً كبيراً أن تكون هذه الصفة لغيره- لم يكن إلا ظلماً وعتواً وغياً وكفراً وجحوداً، وخروجاً عن الصحيح النير إلى الفاسد المظلم، فما ظنك بمن وجه عبادته إلى جماد ليس به حس ولا شعور؟ فلا يسمع -يا عابده- ذكرك له وثناءك عليه، ولا يرى هيئات خضوعك وخشوعك له. فضلاً أن يغني عنك بأن تستدفعه بلاء فيدفعه، أو تسنح لك حاجة فيكفيكها.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
والذي {لا يسمع ولا يبصر}، هو الصنم ولو سمع وأبصر كما هي حالة الملائكة وغيرهم ممن عبد لم يحسن عبادتها، لكن بين إبراهيم عليه السلام بنفي السمع والبصر شنعة الرأي في عبادتها وفساده.
واعلم أنه تعالى حكى أن إبراهيم عليه السلام تكلم مع أبيه بأربعة أنواع من الكلام. النوع الأول: قوله: {لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا} ووصف الأوثان بصفات ثلاثة كل واحدة منها قادحة في الإلهية وبيان ذلك من وجوه:
أحدها: أن العبادة غاية التعظيم فلا يستحقها إلا من له غاية الإنعام وهو الإله الذي منه أصول النعم وفروعها على ما قررناه في تفسير قوله: {وإن الله ربي وربكم فاعبدوه} وقال: {كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم} الآية وكما يعلم بالضرورة أنه لا يجوز الاشتغال بشكرها ما لم تكن منعمة وجب أن لا يجوز الاشتغال بعبادتها.
وثانيها: أنها إذا لم تسمع ولم تبصر ولم تميز من يطيعها عمن يعصيها فأي فائدة في عبادتها، وهذا ينبهك على أن الإله يجب أن يكون عالما بكل المعلومات حتى يكون العبد آمنا من وقوع الغلط للمعبود.
وثالثها: أن الدعاء مخ العبادة فالوثن إذا لم يسمع دعاء الداعي فأي منفعة في عبادته وإذا كانت لا تبصر بتقرب من يقترب إليها فأي منفعة في ذلك التقرب. ورابعها: أن السامع المبصر الضار النافع أفضل ممن كان عاريا عن كل ذلك، والإنسان موصوف بهذه الصفات فيكون أفضل وأكمل من الوثن فكيف يليق بالأفضل عبادة الأخس.
وخامسها: إذا كانت لا تنفع ولا تضر فلا يرجى منها منفعة ولا يخاف من ضررها فأي فائدة في عبادتها.
وسادسها: إذا كانت لا تحفظ أنفسها عن الكسر والإفساد على ما حكى الله تعالى عن إبراهيم عليه السلام أنه كسرها وجعلها جذاذا فأي رجاء للغير فيها.
واعلم أنه عاب الوثن من ثلاثة أوجه. أحدها: لا يسمع. وثانيها: لا يبصر. وثالثها: لا يغني عنك شيئا، كأنه قال له: بل الإلهية ليست إلا لربي فإنه يسمع ويجيب دعوة الداعي ويبصر، كما قال: {إنني معكما أسمع وأرى} ويقضي الحوائج: {أمن يجيب المضطر إذا دعاه}.
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي 685 هـ :
دعاه إلى الهدى وبين ضلاله واحتج عليه أبلغ احتجاج وأرشقه برفق وحسن أدب، حيث لم يصرح بضلاله بل طلب العلة التي تدعوه إلى عبادة ما يستخف به العقل الصريح ويأبى الركون إليه، فضلا عن عبادته التي هي غاية التعظيم، ولا تحق إلا لمن له الاستغناء التام والإنعام العام وهو الخالق الرازق المحي المميت المعاقب المثيب، ونبه على أن العاقل ينبغي أن يفعل ما يفعل لغرض صحيح، والشيء لو كان حيا مميزا سميعا بصيرا مقتدرا على النفع والضر ولكن كان ممكنا لاستنكف العقل القويم عن عبادته وإن كان أشرف الخلق كالملائكة والنبيين لما يراه مثله في الحاجة والانقياد للقدرة الواجبة، فكيف إذا كان جمادا لا يسمع ولا يبصر.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما تكفل ما تقدم من هذه السورة بنفي الشريك بقيد كونه ولداً، أتبع ذلك من قصته ما ينفي الشريك ليقتدي به أولاده في ذلك إذ كانوا يقلدون الآباء وليس في آبائهم مثله، فقال مبدلاً من {إبراهيم} {إذ قال} أي اذكر وقت قوله {لأبيه} هادياً له من تيه الضلال بعبادة الأصنام مستعطفاً له في كل جملة بقوله: {يا أبت}. ولما كان العاقل لا يفعل فعلاً إلا لثمره، نبهه على عقم فعله بقوله: {لم تعبد} مريداً بالاستفهام المجاملة، واللطف والرفق واللين والأدب الجميل في نصحه له كاشفاً الأمر غاية الكشف بقوله: {ما لا يسمع ولا يبصر} أي ليس عنده قابلية لشيء من هذين الوصفين ليرى ما أنت فيه من خدمته أو يجيبك إذ ناديته حالاً أو مآلاً. ولما كان الأعمى الأصم قد ينفع بكلام أو غيره، قال: {ولا يغني عنك شيئاً} من الإغناء.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
أي: لم تعبد أصناما، ناقصة في ذاتها، وفي أفعالها، فلا تسمع، ولا تبصر، ولا تملك لعابدها نفعا ولا ضرا، بل لا تملك لأنفسها شيئا من النفع، ولا تقدر على شيء من الدفع، فهذا برهان جلي دال على أن عبادة الناقص في ذاته وأفعاله مستقبح عقلا وشرعا. ودل بتنبيهه وإشارته، أن الذي يجب ويحسن عبادة من له الكمال، الذي لا ينال العباد نعمة إلا منه، ولا يدفع عنهم نقمة إلا هو، وهو الله تعالى.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
بهذا اللطف في الخطاب يتوجه إبراهيم إلى أبيه، يحاول أن يهديه إلى الخير الذي هداه الله إليه، وعلمه إياه؛ وهو يتحبب إليه فيخاطبه: (يا أبت) ويسأله: (لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا؟) والأصل في العبادة أن يتوجه بها الإنسان إلى من هو أعلى من الإنسان وأعلم وأقوى. وأن يرفعها إلى مقام أسمى من مقام الإنسان وأسنى. فكيف يتوجه بها إذن إلى ما هو دون الإنسان، بل إلى ما هو في مرتبة أدنى من مرتبة الحيوان، لا يسمع ولا يبصر ولا يملك ضرا ولا نفعا. إذ كان أبوه وقومه يعبدون الأصنام كما هو حال قريش الذين يواجههم الإسلام. هذه هي اللمسة الأولى التي يبدأ بها إبراهيم دعوته لأبيه.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
... المعنى: اذكر إبراهيم زمان قوله لأبيه فإن ذلك الوقت أجدر أوقات إبراهيم بأن يذكر. وافتتح إبراهيم خطابه أباه بندائه مع أن الحضرة مغنية عن النداء قصداً لإحضار سمعه وذهنه لتلقي ما سيلقيه إليه. قال الجد الوزير رحمه الله فيما أملاه عليّ ذات ليلة من عام 1318 هـ فقال: « علم إبراهيم أن في طبع أهل الجهالة تحقيرهم للصغير كيفما بلغ حاله في الحذق وبخاصة الآباء مع أبنائهم، فتوجه إلى أبيه بخطابه بوصف الأبوة إيماء إلى أنه مخلص له النصيحة، وألقى إليه حجّة فساد عبادته في صورة الاستفهام عن سبب عبادته وعمله المخطئ، منبّهاً على خطئه عندما يتأمل في عمله، فإنه إن سمع ذلك وحاول بيان سبب عبادة أصنامه لم يجد لنفسه مقالاً ففطِن بخطل رأيه وسفاهة حلمه، فإنه لو عبد حيّاً مميزاً لكانت له شبهة ما. وابتدأ بالحجة الراجعة إلى الحِسّ إذ قال له: لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر فذلك حجة محسوسة، ثم أتبعها بقوله: ولا يغني عنك شيئاً، ثم انتقل إلى دفع ما يخالج عقل أبيه من النفور عن تلقي الإرشاد من ابنه بقوله: {يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطاً سوياً}، فلما قضى حق ذلك انتقل إلى تنبيهه على أن ما هو فيه أثر من وساوس الشيطان، ثم ألقى إليه حجة لائقة بالمتصلبين في الضلال بقوله: {يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمان فتكون للشيطان وليا} أي إن الله أبلغ إليك الوعيد على لساني، فإن كنتَ لا تجزم بذلك فافرض وقوعه فإنّ أصنامك لم تتوعدك على أن تفارق عبادتها...
قال: وفي النداء بقوله: {يا أبت} أربع مرات تكريرٌ اقتضاه مقام استنزاله إلى قبول الموعظة لأنها مقام إطناب. ونَظَّرَ ذلك بتكرير لقمان قوله: {يا بني} [لقمان: 13 16] ثلاث مرات، قال: بخلاف قول نوح لابنه: {يا بني اركب معنا} [هود: 42] مرة واحدة دون تكرير لأنّ ضيق المقام يقتضي الإيجاز وهذا من طرق الإعجاز». انتهى كلامه بما يقارب لفظه.
وأقول: الوجه ما بني عليه من أن الاستفهام مستعمل في حقيقته، كما أشار إليه صاحب « الكشاف»، ومكنى به عن نفي العلّة المسؤول عنها بقوله:"لم تعبد"، فهو كناية عن التعجيز عن إبداء المسؤول عنه، فهو من التورية في معنيين يحتملهما الاستفهام.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
ابتدأ بندائه بقوله: {يا أبت} وهو نداء المحبة العاطفة المقربة، وذلك شأن الداعي الكامل يبتدئ بما يقرب ولا ينفر. وابتدأ بأن قال غير موجه لوما ولكن ساق إرشاده مساق الاستفهام المستدني، لا مقام الآمر المستعلي سائلا له سؤال المستفهم في سياقه، ولكن المنبه بأرفق تعبير: {يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا}، لقد وصف معبوده وهو الصنم بثلاث صفات سلبية: الوصف الأول: أنه لا يسمع، وكيف يعبد من يسمع ما لا يسمع، فهو أقل كمالا منه وهو عاجز، لأن عدم السماع عجز. الوصف الثاني: أنه لا يبصر وأنت تبصر، ومن يبصر أكمل مما لا يبصر، فكيف تعبد هذا الذي ينقص عنك، وأنت خير وأفضل منه. الوصف الثالث: أنه لا يدفع عنه ضرا ولا يجلب له نفعا، وهذا قوله تعالى: {ولا يغني عنك شيئا}، أي لا يدفع شيئا، ومجموع هذه الصفات السلبية تفيد أنه لا يجلب لا أي نفع، لأنه فاقد لصفات الله التي يكون بها القدرة على النفع.
... يبدو من أسلوب إبراهيم عليه السلام مع أبيه أدب الدعوة، حيث قدم الموعظة على سبيل الاستفهام حتى لا يشعر أباه بالنقص، أو يظهر له أنه أعلم منه. {لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئاً} نلحظ أنه لم يقل من البداية: لم تعبد الشيطان، بل أخر هذه الحقيقة إلى نهاية المناقشة، وبدل أن يقول الشيطان حلل شخصيته، وأبان عناصره، وكشف عن حقيقته: لا يسمع ولا يبصر، ولا يغني عنك شيئاً، فهذه الصفات لا تكون في المعبود، وهي العلة في أن نتجنب عبادة ما دون الله من شجر أو حجر أو شيطان، وخصوصاً في بيئة إبراهيم عليه السلام وكانت مليئة بالأوثان والأصنام. لأن العبادة ماذا تعني؟ تعني طاعة عابد لمعبود في أمره ونهيه، فالذين يعبدون ما دون الله من صنم أو وثن أو شمس أو قمر، بماذا أمرتهم هذه المعبودات؟ وعن أي شيء نهتهم؟ وماذا أعدت هذه المعبودات لمن عبدها؟ وماذا أعدت لمن عصاها؟ ما المنهج الذي جاءت به حتى تستحق العبادة؟ لا يجود شيء من هذا كله، إذن: فعبادتهم باطلة.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
فقد رأى أباه يعبد الأصنام التي يعبدها قومه، وهو بذلك خاضع كغيره لعادة السير على خطى الآباء والأجداد وتقليدهم في السلوك. والسبب غياب الوعي الفكري، الذي يكفل عدم صدور أي عمل عن الإنسان إلا بعد دراسة طبيعته وخلفياته ونتائجه، ومدى انسجامه مع الجانب الخير من الحياة مع موقع الحق في الفكر. وتبقى للعادة حرمتها وقداستها ويعمل الجميع على تبريرها بأن يفرضوا لها أسراراً عميقة غامضة في قدراتها الذاتية في الخير والشر. وهكذا أراد إبراهيم أن يثير التساؤل في تفكير أبيه، وذلك بأن يطرح عليه الجانب اللامعقول في هذه العبادة بطريقةٍ بسيطةٍ لا تكلَّف الإنسان بذل أيّ جهد في التفكير من أجل اكتشاف انحرافها عقيدياً. فحاول أن يهز جمود الموقف عنده، بطريقة الصدمة وأسلوب الإثارة، فهاجم هذه المقدسات الصنمية بعنف. فكيف يمكن له وهو العاقل الواعي الكبير في سنه، أن يعبد هذه الحجارة التي لا تسمعه إذا خاطبها الإنسان بحاجة أو سؤال أو خضوعٍ وابتهال، ولا تبصره إذا وقف أمامها في وقفة عبادة، لأنها لا تملك أي حس يوحي بالتأثر والانفعال في ما يقوم به الآخرون تجاهها؟! فكيف يمكن أن تكون آلهة، وإحساسها غائب غياباً كلياً عن الإنسان والكون والحياة؟ ثم ما الذي تملكه من قوةٍ وقدرةٍ على التأثير بما حولها ومن حولها؟ إنها اللاشيء في عالم المعقول، أو في عالم الحركة، فكيف تستجيب لدعوات الناس الذين يعبدونها، وكيف تدفع عنهم الضرر أو تجلب لهم النفع، أو ترفع ضغط الواقع عنهم؟ وما فائدة عبادتهم لها، وما قيمتها على مستوى الوجود كي تعبد؟ إنها اللاّفائدة، واللاّمعقول، واللاّإحساس بأي شيء في الحياة...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
إِنّ هذا البيان القصير القاطع من أحسن أدلة نفي الشرك وعبادة الأوثان، لأنّ أحد بواعث الإِنسان في معرفة الرب هو باعث الربح والخسارة، والضر والنفع، والذي يعبر عنه علماء العقائد بمسألة دفع الضرر المحتمل. فهو يقول: لماذا تتجه إلى معبود ليس عاجزاً عن حل مشكلة من مشاكلك وحسب، بل إِنّه لا يملك أصلا القدرة على السمع والبصر. وبتعبير آخر: إِن العبادة يجب أن تكون لمن له القدرة على حل المشاكل، ويدرك عباده وحاجاتهم، سميع بصير، إِلاّ أنّ هذه الأصنام فاقدة لكل ذلك. إِن إِبراهيم يبدأ في دعوته العامّة بأبيه، وذلك لأنّ النفوذ في الأقربين أهم وأولى، كما أن نبي الإِسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) قد أمر أولا بدعوة عشيرته الأقربين كما جاء في ذلك في الآية (214) من سورة الشعراء: (وأنذر عشيرتك الأقربين).