ثم بين - سبحانه - جانبا من كيفية هذا التمتع بالجنة ونعيمها فقال : { هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلاَلٍ عَلَى الأرآئك مُتَّكِئُونَ } .
و " هم " مبتدأ ، و { أزواجهم } معطوف عليه . و { متكئون } خبر المبتدأ .
قال الإمام الرازى : ولفظ الأزواج هنا يحتمل وجهين :
أحدهما : أشكالهم فى الإحسان . وأمثالهم فى الإيمان ، كما قال - تعالى - : { وَآخَرُ مِن شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ } وثانيهما : الأزواج هم المفهومون من زوج المرأة وزوجة الرجل ، كما فى قوله - تعالى - : { إِلاَّ على أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ . . . } ويبدو أن المراد بالأزواج هنا : حلائلهم اللاتى أحلهن الله لهم ، زيادة فى مسرتهم ويهجتهم ، وعلى هذا سار عامة المفسرين .
والظلال : جمع ظل أو ظلة ، وهى لا يظل الإِنسان ويقيه من الحر .
والأرائك : جمع أريكة وهى ما يجلس عليه الإِنسان من سرير ونحوه للراحة والمتعة .
أى : أن أصحاب الجنة هم وحلائلهم يجلسون على الأرائك متكئين فى متعة ولذة .
القول في تأويل قوله تعالى : { هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلاَلٍ عَلَى الأرَآئِكِ مُتّكِئُونَ * لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مّا يَدّعُونَ * سَلاَمٌ قَوْلاً مّن رّبّ رّحِيمٍ } .
يعني تعالى بقوله : هُمُ أصحاب الجنة وأزْوَاجُهُمْ من أهل الجنة في الجنة ، كما :
حدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : هُمْ وأزْوَاجُهُمْ في ظِلالٍ قال : حلائلهم في ظُلَل .
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأه بعضهم : «فِي ظُلَلٍ » بمعنى : جمع ظلة ، كما تُجمع الْحُلة حُللاً . وقرأه آخرون : فِي ظِلالٍ وإذا قرىء ذلك كذلك كان له وجهان : أحدهما أن يكون مُرادا به جمع الظّلَل الذي هو بمعنى الكِنّ ، فيكون معنى الكلمة حينئذٍ : هم وأزواجهم في كنّ لا يضْحَوْن لشمس كما يَضْحَى لها أهلُ الدنيا ، لأنه لا شمس فيها . والاَخر : أن يكون مرادا به جمع ظلة ، فيكون وجه جمعها كذلك نظير جمعهم الحلة في الكثرة : الخِلال ، والقُلّة : قِلال .
وقوله : عَلى الأرَائِكِ مُتّكِئُونَ والأرائك : هي الحِجال فيها السُرر والفُرُش : واحدتها أريكة ، وكان بعضهم يزعم أن كلّ فِراش فأريكة ، ويستشهد لقوله ذلك بقول ذي الرمة :
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** كأنّما تُباشِرْنَ بالمَعزاءِ مَسّ الأَرَائِكِ
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا حُصَيْن ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، في قوله : عَلى الأَرَائِكِ مُتّكِئِونَ قال : هي السّرُر في الحِجال .
حدثنا هناد ، قال : حدثنا أبو الأحوص ، عن حصين ، عن مجاهد ، في قول الله : عَلى الأرَائِكِ مُتّكِئُونَ قال : الأرائك : السّرر عليها الحِجال .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا مؤمل ، قال : حدثنا سفيان ، قال : حدثنا حصين ، عن مجاهد ، في قوله : مُتّكِئِينَ عَلى الأرَائِكِ قال : الأرائك : السّرُر في الحِجال .
حدثنا أبو السائب ، قال : حدثنا ابن إدريس ، قال : أخبرنا حُصَيْن ، عن مجاهد ، في قوله : عَلى الأرَائك قال : سُرُر عليها الحِجال .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا المعتمر ، عن أبيه ، قال : زعم محمد أن عكرمة قال : الأرائك : السّرُر في الحِجال .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن عُلَية ، عن أبي رجاء ، قال : سمعت الحسن ، وسأله رجل عن الأرائك قال : هي الحجال . أهل اليمن يقولون : أريكة فلان . وسمعت عكرمة وسئل عنها فقال : هي الحجال على السّرُر .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة على الأرائِكِ مُتّكِئُونَ قال : هي الحِجال فيها السرر .
وقرأ الجمهور { فاكِهُونَ } بصيغة اسم الفاعل . وقرأه أبو جعفر بدون ألف بصيغة مثال المبالغة .
جملة { هُمْ وأزْواجُهُمْ في ظِلالٍ } إلى آخرها واقعة موقع البيان لجملة { إنَّ أصحابَ الجَنَّةِ } الخ . والمراد بأزواجهم : الأزواج اللاتي أُعِدّت لهم في الجنة . ومنهن من كُنَّ أزواجاً لهم في الدنيا إن كنّ غير ممنوعات من الجنة قال تعالى : { جنات عدن يدخلونها ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم } [ الرعد : 23 ] .
والظلال قرأه الجمهور بوزن فِعال بكسر أوله على أنه جمع ظلّ ، أي ظلّ الجنات . وقرأه حمزة والكسائي وخلف { ظُلَل } بضم الظاء وفتح اللام جمع ( ظُلة ) وهي ما يظل كالقِباب . وجمع الظلال على القراءتين لأجل مقابلته بالجمع وهم أصحاب الجنة ، فكلّ منهم في ظل أو في ظلة .
و { الأرائك } : جمع أريكة ، والأريكة : اسم لمجموع السرير والحَجَلة ، فإذا كان السرير في الحَجَلة سمي الجميع أريكة . وهذا من الكلمات الدالة على شيء مركب من شيئين مثل المائدة اسم للخِوان الذي عليه طعام .
والاتكاء : هيئة بين الاضطجاع والجلوس وهو اضطجاع على جنب دون وضع الرأس والكتف على الفراش . وهو افتعال من وكأ المهموز ، إذا اعتمد ، أبدلت واوه تاء كما أبدلت في تُجاه وتُراث ، وأخذ منه فعل اتكأ لأن المتّكىء يشد قعدته ويرسخها بضرب من الاضطجاع .
والاسم منه التُّكَأة بوزن هُمَزة ، وهو جلوس المتطلب للراحة والإِطالة وهو جلسة أهل الرفاهية ، وقد تقدم عند قوله تعالى : { وأعتدت لهن متكأ } في سورة يوسف ( 31 ) . وكان المترفهون من الأمم المتحضرة يأكلون متّكئين كان ذلك عادة سادة الفرس والروم ومن يتشبه بهم من العرب ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم « أمَّا أنا فلا آكل متكئاً » وذلك لأن الاتكاء يعين على امتداد المعدة فتقبل زيادة الطعام ولذلك كان الاتكاء في الطعام مكروهاً للإِفراط في الرفاهية . وأما الاتكاء في غير حال الأكل فقد اتكأ النبي صلى الله عليه وسلم في مجلسه كما في حديث ضِمام بن ثعلبة وافِد بني سعد بن بكر : أنه دخل المسجد فسأل عن النبي صلى الله عليه وسلم فقيل له : « هو ذلك الأزهر المتكىء » .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{هم وأزواجهم} يعني الحور العين حلائلهم.
{في ظلال} ومن قرأ فاكهون، يعني ناعمين في ظلال كبار القصور.
{على الأرائك} على السرر عليها الحجال {متكئون}...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يعني تعالى بقوله:"هُمُ" أصحاب الجنة "وأزْوَاجُهُمْ "من أهل الجنة في الجنة... عن مجاهد، قوله: "هُمْ وأزْوَاجُهُمْ في ظِلالٍ" قال: حلائلهم في ظُلَل.
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك؛ فقرأه بعضهم: «فِي ظُلَلٍ» بمعنى: جمع ظلة، كما تُجمع الْحُلة حُللاً. وقرأه آخرون: فِي ظِلالٍ وإذا قرىء ذلك كذلك كان له وجهان: أحدهما أن يكون مُرادا به جمع الظّلَل الذي هو بمعنى الكِنّ، فيكون معنى الكلمة حينئذٍ: هم وأزواجهم في كنّ لا يضْحَوْن لشمس كما يَضْحَى لها أهلُ الدنيا، لأنه لا شمس فيها. والآخر: أن يكون مرادا به جمع ظلة...
وقوله: "عَلى الأرَائِكِ مُتّكِئُونَ"، والأرائك: هي الحِجال فيها السُرر والفُرُش: واحدتها أريكة، وكان بعضهم يزعم أن كلّ فِراش فأريكة...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
يخبر أن أهل الجنة، وإن كانوا لا يُحجبون عن شيء، ولا يُمنعون شيئا، فإنهم إذا كانوا مع أزواجهم لا يقع عليهم بصر غيرهم، فينغّص ذلك عليهم وهو كما ذكر {حور مقصورات في الخيام} [الرحمان: 72] يخبر أنهم إذا كانوا مع أزواجهم لا يطّلع عليهم غيرهم، والله أعلم...
{على الأرائك متكئون} الاتكاء على الأرائك إنما هو للراحة، فيخبر، والله أعلم، عن غاية راحتهم ونهاية كرامتهم، وإلا ليس في الاتكاء على الأرائك فضل كرامة ومنزلة، ولكن يذكر عن راحتهم وتنعمهم...
قال أبو عوسجة: الأرائك: الوسائد.
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
{هم وأزواجُهم في ظلال} فيه وجهان: أحدهما: وأزواجهم في الدنيا من وافقهم على إيمانهم.
الثاني: أزواجهم اللاتي زوّجهم الله تعالى بهن في الجنة من الحور العين.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
{وَأَزْوَاجُهُمْ}: قيل أشكالهم في الحال والمنزلة، كقوله: {احْشُرُواْ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَأَزْوَاجَهُمْ} [الصافات: 22] وقيل حَظَاياهم من زوجاتهم...
بين الكمال بقوله: {هم وأزواجهم} وذلك لأن من يكون في لذة قد تتنغص عليه بسبب تفكره في حال من يهمه أمره فقال: {هم وأزواجهم} أيضا فلا يبقى لهم تعلق قلب، وأما من في النار من أقاربهم وإخوانهم فيكونون هم عنهم في شغل، ولا يكون منهم عندهم ألم ولا يشتهون حضورهم.
وقوله: {في ظلال} جمع ظل وظلل جمع ظلة والمراد به الوقاية عن مكان الألم، فإن الجالس تحت كن لا يخشى المطر ولا حر الشمس فيكون به مستعدا لدفع الألم، فكذلك لهم من ظل الله ما يقيهم الأسواء، كما قال تعالى: {لا يمسنا فيها نصب ولا يمسنا فيها لغوب} [فاطر: 35] وقال: {لا يرون فيها شمسا ولا زمهريرا} [الإنسان: 13] إشارة إلى عدم الآلام.
وفيه لطيفة أيضا وهي أن حال المكلف، إما أن يكون اختلالها بسبب ما فيه من الشغل، وإن كان في مكان عال، كالقاعد في حر الشمس في البستان المتنزه أو يكون بسبب المكان، وإن كان الشغل مطلوبا كملاعبة الكواعب في المكان المكشوف، وإما أن يكون بسبب المأكل كالمتفرج في البستان إذا أعوزه الطعام، وإما بسبب فقد الحبيب، وإلى هذا يشير أهل القلب في شرائط السماع بقولهم: الزمان والمكان والإخوان قال تعالى: {في شغل فاكهون} إشارة إلى أنهم ليسوا في تعب وقال: {هم وأزواجهم} إشارة إلى عدم الوحدة الموحشة وقال: {في ظلال على الأرائك متكئون} إشارة إلى المكان
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كانت النفس لا يتم سرورها إلا بالقرين الملائم قال: {هم} أي بظواهرهم وبواطنهم.
{وأزواجهم} أي أشكالهم الذين هم في غاية الملاءمة كما كانوا يتركونهم في المضاجع على ألذ ما يكون، ويصفون أقدامهم في خدمتنا وهم يبكون.
{في ظلال} أي يجدون فيها برد الأكباد وغاية المراد، كما كانوا يشوون أكبادهم في دار العمل بحر الصيام، وتجرع مرارات الأوام، والصبر في مرضاتنا على الآلام، ويقرون أيديهم وقلوبهم عن الأموال، ببذل الصدقات في سبلنا على مر الأيام وكر الليال، وقراءة حمزة والكسائي بضم الظاء وحذف الألف على أنه أشد امتداداً، ويدل اتفاقهما في الجمع على أن الظل فيها مختلف باختلاف الأعمال.
ولما كان التمتع لا يكمل إلا مع العلو الممكن من زيادة العلم الموجب لارتياح النفس، وبهجة العين بانفساح البصر عند مد النظر، قال: {على الأرائك} أي السرر المزينة العالية التي هي داخل الحجل، وهذا جزاء لما كانوا يلزمون المساجد ويغضون الأبصار ويضعون نفوسهم لأجلنا.
{متكئون} كما كانوا يدأبون في الأعمال قائمين بين أيدينا في أغلب الأحوال، والاتكاء: الميل على شق مع الاعتماد على ما يريح الاعتماد عليه، أو الجلوس مع التكمن على هيئة المتربع، وقراءته بضم الكاف وحذف الهمزة أدل على التربع وما قاربه، وقراءة كسر الكاف وضم الهمزة أدل على القرب من التمدد لما فيها من الكسرة، فإنه يقال كما نقله أبو عبد الله القزاز: اتكأت الرجل اتكاء -إذا وسدته أي جعلت له وسادة، أي محذة يستريح عليها.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
جملة {هُمْ وأزْواجُهُمْ في ظِلالٍ} إلى آخرها واقعة موقع البيان لجملة {إنَّ أصحابَ الجَنَّةِ} الخ. والمراد بأزواجهم: الأزواج اللاتي أُعِدّت لهم في الجنة. ومنهن من كُنَّ أزواجاً لهم في الدنيا إن كنّ غير ممنوعات من الجنة قال تعالى: {جنات عدن يدخلونها ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم} [الرعد: 23].
والظلال قرأه الجمهور بوزن فِعال بكسر أوله على أنه جمع ظلّ، أي ظلّ الجنات. وقرأه حمزة والكسائي وخلف {ظُلَل} بضم الظاء وفتح اللام جمع (ظُلة) وهي ما يظل كالقِباب. وجمع الظلال على القراءتين؛ لأجل مقابلته بالجمع وهم أصحاب الجنة فكلّ منهم في ظل أو في ظلة.
و {الأرائك}: جمع أريكة، والأريكة: اسم لمجموع السرير والحَجَلة، فإذا كان السرير في الحَجَلة سمي الجميع أريكة. وهذا من الكلمات الدالة على شيء مركب من شيئين مثل المائدة اسم للخِوان الذي عليه طعام.
والاتكاء: هيئة بين الاضطجاع والجلوس وهو اضطجاع على جنب دون وضع الرأس والكتف على الفراش. وهو افتعال من وكأ المهموز، إذا اعتمد، أبدلت واوه تاء كما أبدلت في تُجاه وتُراث، وأخذ منه فعل اتكأ لأن المتّكىء يشد قعدته ويرسخها بضرب من الاضطجاع.
والاسم منه التُّكَأة بوزن هُمَزة، وهو جلوس المتطلب للراحة والإِطالة، وهو جلسة أهل الرفاهية، وقد تقدم عند قوله تعالى: {وأعتدت لهن متكأ} في سورة يوسف (31)، وكان المترفهون من الأمم المتحضرة يأكلون متّكئين كان ذلك عادة سادة الفرس والروم ومن يتشبه بهم من العرب ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم « أمَّا أنا فلا آكل متكئاً»؛ وذلك لأن الاتكاء يعين على امتداد المعدة فتقبل زيادة الطعام؛ ولذلك كان الاتكاء في الطعام مكروهاً للإِفراط في الرفاهية. وأما الاتكاء في غير حال الأكل فقد اتكأ النبي صلى الله عليه وسلم في مجلسه كما في حديث ضِمام بن ثعلبة وافِد بني سعد بن بكر: أنه دخل المسجد فسأل عن النبي صلى الله عليه وسلم فقيل له: « هو ذلك الأزهر المتكىء».